وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن أمور الجزاء في الأخرى تجري على ما رتبه الله وأعلم به عباده . وأن نظام أمور الدنيا وترتيب مسبباته على أسبابه أمر قد وضعه الله تعالى وأمر بالحفاظ عليه وأرشد وهدى فمن فرط في شيء من ذلك فقد استحق ما تسبب فيه .
( فأنذرتكم نارا تلظى [ 14 ] لا يصليها إلا الأشقى [ 15 ] الذي كذب وتولى [ 16 ] وسيجنبها الأتقى [ 17 ] الذي يؤتي ماله يتزكى [ 18 ] وما لأحد عنده من نعمة تجزى [ 19 ] إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ 20 ] ولسوف يرضى [ 21 ] ) يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذكري إذا كان فعل ( أنذرتكم ) مستعملا في ماضيه حقيقة وكان المراد الإنذار الذي اشتمل عليه قوله ( وأما من بخل واستغى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) إلى قوله تعالى ( تردى ) . وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدل على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصل على إنذار مجمل .
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعل ( أنذرتكم ) مرادا به الحال وإنما صيغة في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في : قد قامت الصلاة وقولهم : عزمت عليكم إلا ما فعلت كذا أي أعزم عليك ومثل ما في صيغ العقود : كبعت وهو تعريف على جملة ( إن علينا للهدي ) والمعنى : هديكم فأنذرتكم إبلاغا في الهدى .
وتنكير ( نارا ) للتهويل وجملة ( تلظى ) نعت . وتطلى : تلتهب من شدة الاشتعال . وهو مشتق من اللظى مصدر : لظيت إذا التهبت وأصل ( تلظى ) تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار .
وجملة ( لا يصلاها إلا الأشقى ) صفة ثانية أو حال من ( نارا ) بعد أن وصفت . وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) والقرينة على ذلك قوله ( وسيجنبها الأتقى ) الآية .
وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا : أن لا يدخل النار إلا كافر وليس الأمر كما ضنوا : هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اه .
والمعنى : لا يصلاها إلا أنتم .
وقد أتبع ( الأشقى ) بصفة ( الذي كذب وتولى ) لزيادة التنصيص على أنهم المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول A وتولوا أي أعرضوا عن القرآن وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين : إما كافر وإما مؤمن تقي ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإسلام بشراشرهم ولذلك عطف ( وسيجبنها الأتقى ) الخ تصريحا بمفهوم القصر وتكميلا للمقابلة .
والأشقى والأتقى مراد بهما : الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام .
وذكر القرطبي : أن مالكا قال : صلى بنا عمر بن عبد العزيز فقرأ ( والليل إذا يغشى ) فلما بلغ ( فأنذرتكم نارا تلظى ) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى .
ووصف ( الأشقى ) بصلة ( الذي كذب وتولى ) ووصف ( الأتقى ) بصلة ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) للإيذان بأن للصلة تسببا في الحكم .
وبين ( الأشقى ) و ( الأتقى ) محسن الجناس المضارع .
وجملة ( يتزكى ) حال من ضمير ( يؤتي ) وفائدة الحال التنبيه على أنه يوتي ماله بقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضا بالمشركين اللذين يؤتون المال للفخر والرياء والمفسد والفجور .
والتزكي : تكلف الزكاء وهو النماء من الخير .
والمال : اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضيين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها .
ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل .
وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله .
A E