ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها فمن تحقق فيه وصف الإيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي أي حسن عاقبة أمره وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران .
وهذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإيمان بوحدانية الله وصدق الرسول A دون ذلك تكون مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها . وما حدده الإسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحش وهو ما فسر به قوله تعالى ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينه مقام الإنذار والوعيد أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا قال تعالى ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ) .
وتنكير ( خسر ) يجوز أن يكون للتنويع ويجوز أن يكون مفيدا للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسم .
والمعنى : أن الناس لفي خسران عظيم وهم المشركون .
A E والتعريف في قوله ( الصالحات ) تعريف الجنس مراد به الاستغراق أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين وعمل الصالحات يشمل ترك السيئات . وقد أفاد استثناء المتصفين بمضمون الصلة ومعطوفها إيماء إلى علة حكم الاستثناء وهو نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه فإنهم ليسوا في خسر لأجل أنهم آمنوا وعملوا الصالحات .
فأما الإيمان فهو حقيقة مقول على جزئياتها بالتواطئ . وأما الصالحات فعمومها مقول عليه بالتشكك فيشير إلى أن انتفاء الخسران عنهم يتقدر بمقدار ما عملوه من الصالحات وفي ذلك مراتب كثيرة .
وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خسر على أن سبب كون بقية الإنسان في خسر هو عدم الإيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة . وعلم من الموصول أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإنسان .
وعطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه يظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدي وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر .
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضا وإن كان خصوصه خصوصا من وجه لأن الصبر تحمل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق .
وحقيقة الصبر أنه : منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله " إن كان صعب الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوف ضر ينشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور " أو لرغبة في حصول نفع منه " كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك .
ومن الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو من أذاهم بالقول كمن يقول لآمره : هلا نظرت في أمر نفسك أو نحو ذلك .
وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشم السهر في اللهو والمعاصي والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها .
وقد اشتمل قوله تعالى ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) على إقامة المصالح الدينية كلها فالعقائد الإسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر .
والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها كما قال عمرو بن العاص : .
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما