وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع لأن المراد ب ( الذي يكذب بالدين ) : جنس المكذبين على أظهر الأقوال . فإن كان المراد به معينا على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذليلا يشمله وغيره فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة وصفة الرياء وصفة منع الماعون .
وقوله ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) صفة للمصلين مقيدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق .
فيكون قوله ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) ترشيحا للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم .
وعدي ( ساهون ) بحرف ( عن ) لإفادة إنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة .
وقوله ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلا رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة .
ويجوز أن يكون معناه : الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق ( ساهون ) تهكما كما قال تعالى ( يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) في المنافقين في سورة النساء .
ويراءون يقصدون أن يرى الناس أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسن ما هم بموصوفين بها ولذلك كثر أن تعطف السمعة على الرياء فيقال : رياء وسمعة A E وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإراءة .
والماعون : يطلق على الإعانة بالمال فالمعنى : يمنعون فضلهم أو يمنعون الصدقة على الفقراء . فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة .
وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب : الماعون المال بلسان قريش .
وروى أشهب عن مالك : الماعون الزكاة : ويشهد له قول الراعي : .
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة .
ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشد وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطاءه . وعن عائشة : الماعون الماء والنار والملح . وهذا ذم لهم بمنتهى البخل . وهو الشح بما لا يزرأهم .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله ( هم يراءون ) لتقوية الحكم أي تأكيده .
فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والصلاة بعدها : المنافقين فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته كقوله تعالى ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة ) أي يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة .
و ( يمنعون الماعون ) أي الصدقة أو الزكاة قال تعالى في المنافقين ( ويقبضون أيديهم ) فلما عرفوا بهذه الخلال كان مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين .
وحكى هبة الله بن سلامة في كتاب الناسخ والمنسوخ : أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول أي فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى ( كذبت قوم نوح المرسلين ) أي الرسول إليهم .
والسهور حقيقته : الذهول عن أمر سبق علمه وهو هنا مستعار للإعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية مثل قوله تعالى ( وتنسون ما تشركون ) أي تعرضون عنهم ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى ( بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) في سورة الأعراف وقوله تعالى ( والذين هم عن آياتنا غافلون ) في سورة يونس وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون .
واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقا بشيء قبله جعل نظم الملحق مناسبا لما هو متصل به فتكون الفاء للتفريع . وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك ملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقا بشيء نزل قبله منه .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة الكوثر