وأما ترتيب آيات السورة فإن التنجيم في النزول من المعلوم كما تقدم آنفا وذلك في آياته وسوره فربما نزلت السورة جميعا دفعة واحدة كما نزلت سورة الفاتحة وسورة المرسلات من السور القصيرة وربما نزلت نزولا متتابعا كسورة الأنعام وفي صحيح البخاري عن البراء ابن عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة وربما نزلت السورة مفرقة ونزلت السورتان مفرقتان في أوقات متداخلة روى الترمذي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان قال " كان رسول الله A مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد أي في أوقات متقاربة فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب الوحي فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا " . ولذلك فقد تكون السورة بعضها مكيا وبعضها مدنيا . وكذلك تنهية كل سورة كان بتوقيف من النبي A فكانت نهايات السور معلومة كما يشير إليه حديث " من قرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران " وقول زيد بن ثابت " فقدت آخر سورة براءة " . وقد توفي رسول الله والقرآن مسور سورا معينة كما دل عليه حديث اختلاف عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام في آيات من سورة الفرقان في حياة النبي A كما تقدم في المقدمة الخامسة . وقال عبد الله بن مسعود في سور بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء " هن من العتاق الأول وهن من تلادي " وقد جمع من الصحابة القرآن كله في حياة رسول الله زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو زيد وأبي بن كعب وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وأبو أيوب وسعد بن عبيد ومجمع بن جارية وأبو موسى الأشعري وحفظ كثير من الصحابة أكثر القرآن على تفاوت بينهم .
وفي حديث غزوة حنين لما انكشف المسلمون قال النبي A للعباس " اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة " فلعل الأنصار كانوا قد عكفوا على حفظ ما نزل من سورة البقرة لأنها أول السور النازلة بالمدينة وفي أحكام القرآن لابن العربي عن ابن وهب عن مالك كان شعارهم يوم حنين يا أصحاب سورة البقرة .
وقد ذكر النحويون في الوقف على تاء التأنيث هاء أن رجلا نادى : يا أهل سورة البقرة بإثبات التاء في الوقف وهي لغة فأجابه مجيب " ما أحفظ منها ولا آية " محاكاة للغته .
المقدمة التاسعة .
في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها .
إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح وفطنة الأفهام فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم وبخاصة كلام بلغائهم ولذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين كما يقال " لمحة دالة " . لأجل ذلك كثر في كلامهم : المجاز والاستعارة والتمثيل والكناية والتعريض والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة والاستطراد ومستتبعات التراكيب والأمثال والتلميح والتمليح واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار ونحو ذلك .
وملاك ذلك كله توفير المعاني وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها ليسهل اعتلاقها بالأذهان ؛ وإذ قد كان القرآن وحيا من العلام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه كما سيأتي في المقدمة العاشرة فقد نسج نظمه نسجا بالغا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظا ومعنى بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم .
A E