فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته من اشتراك وحقيقة ومجاز وصريح وكناية وبديع ووصل ووقف إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى ( لا ريب فيه هدى للمتقين ) إذا وقف على ( لا ريب ) أو على ( فيه ) . وقوله تعالى ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير ) باختلاف المعنى إذا وقف على قوله ( قتل ) أو على قوله ( معه ربيون كثير ) . وكقوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ) باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله في العلم وكقوله تعالى ( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك ) باختلاف ارتباط النداء من قوله ( يا إبراهيم ) بالتوبيخ بقوله ( أراغب أنت ) أو بالوعيد في قوله ( لئن لم تنته لأرجمنك ) وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية لأسباب يلوح لي منها : أن تلك اللغة أوفر اللغات مادة وأقلها حروفا وأفصحها لهجة وأكثرها تصرفا في الدلالة على أغراض المتكلم وأوفرها ألفاظا وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة فكان قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز ؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب .
ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة .
واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا . بله إرادة المعاني المكني عنها مع المعاني المصرح بها وإرادة المعاني المستتبعات " بفتح الباء " من التراكيب المستتبعة " بكسر الباء " .
وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان . وبقي المبحثان الأولان وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه محل تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا سببه أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ويعدون ذلك خطبا عظيما .
من أجل ذلك اختلف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافا ينبي عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال . وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس بدلالة اللغة . وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة كدلالة المجاز والاستعارة .
والحق أن المشترك يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا فقال قوم : هو من قبيل الحقيقة ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة . وقال قوم : هو المجاز وجزم ابن الحاجب بأنه مراد الباقلاني من قوله في كتاب التقريب والإرشاد إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز وهذا لا يستقيم لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي وهي لا تتصور في موضوعنا ؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة وإلا لانتقضت حقيقة المشترك فارتفع الموضوع من أصله . وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وقرينة المشترك معينة للمعاني المرادة كلا أو بعضا .
A E