فصل في صلاة المسافر .
و الكلام في صلاة المسافر يقع في ثلاث مواضع : .
أحدها : في بيان المقدار المفروض من الصلاة في حق المسافر و الثاني : في بيان ما يصير المقيم به مسافرا .
و الثالث : في بيان ما يصير به المسافر مقيما و يبطل به السفر و يعود إلى حكم الإقامة .
أما الأول : فقد قال أصحابنا : إن فرض المسافر من ذوات الأربع ركعتان لا غير .
و قال الشافعي : أربع كفرض المقيم إلا أن للمسافر أن يقصر رخصة من مشايخنا من لقب المسألة بأن القصر عندنا عزيمة و الإكمال رخصة و هذا التلقيب على أصلنا خطأ لأن الركعتين من ذوات الأربع في حق المسافر ليستا قصرا حقيقة عندنا بل هما تمام فرض المسافر و الإكمال ليس رخصة في حقه بل هو إساءة و مخالفة للسنة هكذا روي عن أبي حنيفة أنه قال : من أتم الصلاة في السفر فقد أساء و خالف السنة .
و هذا لأن الرخصة اسم لما تغير عن الحكم الأصلي لعارض إلى تخفيف و يسر لما عرف في أصول الفقه ولم يوجد معنى التغيير في حق المسافر رأسا إذ الصلاة في الأصل فرضت ركعتين في حق المقيم و المسافر جميعا لما يذكر ثم زيدت ركعتان في حق المقيم و أقرت الركعتان على حالهما في حق المسافر كما كانتا في الأصل فانعدم معنى التغيير أصلا في حقه و في حق المقيم وجد التغيير لكن إلى الغلظ و الشدة .
لا إلى السهولة و اليسر و الرخصة تنبىء عن ذلك فلم يكن ذلك رخصة في حقه حقيقة و لو سمي فإنما سمي مجازا لوجود بعض معاني الحقيقة هو التغيير .
احتج الشافعي بقوله تعالى : { و إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } و لفظة { لا جناح } تستعمل في المباحات و المرخصات دون الفرائض و العزائم و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله تعالى تصدق عليكم بشطر الصلاة ألا فاقبلوا صدقته ] و المتصدق عليه يكون مختارا في قبول الصدقة كما في التصدق من العباد و لأن القصر ثبت نظرا للمسافر تخفيفا عليه في السفر الذي هو محل المشقات المتضاعفة و التخفيف في التخيير فإن شاء مال إلى القصر و إن شاء مال إلى الإكمال كما في الإفطار في شهر رمضان .
و لنا : ما [ روي عن عمر Bه أنه قال : صلاة المسافر ركعتان و صلاة الجمعة ركعتان تام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم ] و روي : [ تمام غير قصرا ] .
و روى الفقيه الجليل أبو أحمد العياضي السمرقندي و أبو الحسن الكرخي عن ابن عباس Bه هكذا و روي عن عائشة Bها أنها قالت : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب فإنها وتر النهار ثم زيدت في الحضر و أقرت في السفر على ما كانت .
و [ روي عن عمران بن حصين Bه أنه قال : ما سافر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وصلى ركعتين إلا .
المغرب ] و لو كان القصر رخصة و الإكمال هو العزيمة لما ترك العزيمة إلا أحيانا إذ العزيمة أفضل و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يختار من الأعمال إلا أفضلها و كان لا يترك الفضل إلا مرة أو مرتين تعليما للرخصة في حق الأمة فأما ترك الأفضل أبدا و فيه تضييع الفضيلة عن النبي صلى الله عليه و سلم في جميع عمره فمما لا يحتمل و الدليل عليه أنه صلى الله عليه و سلم قصر بمكة و قال لأهل مكة : [ أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر ] فلو جاز الأربع لما اقتصر على الركعتين لوجهين : .
أحدهما : أنه كان يغتنم زيادة العمل في الحرم لما للعبادة فيه من تضاعف الأجر و الثاني : أنه صلى الله عليه و سلم كان إماما و خلفه المقيمون من أهل مكة فكان ينبغي أن يتم أربعا كيلا يحتاج أولئك القوم التفرد و لينالوا فضيلة الائتمام به في جميع الصلاة و حيث لم يفعل دل ذلك على صحة ما قلنا .
و [ روي أن عثمان Bه أتم الصلاة بمنى فأنكر عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قال لهم : إني تأهلت بمكة و قد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من تأهل بقوم فهم منهم ] فدل إنكار الصحابة Bهم و اعتذار عثمان Bه أن الفرض ما قلنا إذ لو كان لو كان الأربع عزيمة لما أنكرت الصحابة عليه و لما اعتذر هو إذ لا يلام على العزائم و لا يعتذر عنها فكان ذلك إجماعا من الصحابة Bهم على ما قلنا .
و روي عن ابن عمر Bهما أنه سئل عن الصلاة في السفر فقال : ركعتان ركعتان من خالف السنة كفر أي خالف السنة اعتقادا لا فعلا و روي عن ابن عباس Bه : أن رجلين سألاه و كان أحدهما يتم الصلاة في السفر و الآخر يقصر عن حالهما فقال للذي قصر : أنت أكملت و قال أبو بكر للآخر أنت قصرت .
و لاحجة له في الآية لأن المذكور فيها أصل القصر لا صفته و كيفيته و القصر قد يكون عن الركعات و قد يكون عن القيام إلى القعود و قد يكون عن الركوع و السجود إلى الإيماء لخوف العدو لا بترك شطر الصلاة و ذلك مباح مرخص عندنا فلا يكون حجة مع الاحتمال مع ما أن في الآية ما يدل على أن المراد منه ليس هو القصر عن الركعات و هو ترك شطر الصلاة لأنه علق القصر بشرط الخوف و هو خوف فتنة الكفار بقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } و القصر عن الركعات لا يتعلق بشرط .
الخوف بل يجوز من غير خوف .
و الحديث : دليلنا لأنه أمر بالقبول فلا يبقى له خيار الرد شرعا إذ الأمر للوجوب .
و قوله : المتصدق عليه يكون مختارا في القبول .
قلنا : معنى قوله تصدق عليكم أي حكم عليكم على أن التصدق من الله تعالى فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط كالعفو من الله تعالى و ما ذكر من المعنى غير سديد لأن هذا ليس ترفيها بقصر شطر الصلاة بل لم يشرع في السفر إلا هذا القدر لما ذكرنا من الدلائل و لقول ابن عباس Bه : لا تقولوا قصرا فإن الذي فرشها في الحضر أربعا هو الذي فرضها في السفر ركعتين و ليس إلى العباد إبطال قدر العبادات الموظفة عليهم بالزيادة و النقصان .
ألا ترى أن من أراد أن يتم المغرب أربعا أو الفجر ثلاثا أو أربعا لا يقدر على ذلك كذا هذا و لا قصر في الفجر و المغرب لأن القصر بسقوط شطر الصلاة و بعد سقوط الشطر منهما لا يبقى نصف مشروع بخلاف ذوات الأربع .
و كذا لا قصر في السنن و التطوعات لأن القصر بالتوقيف و لا توقيف ثمة و من الناس من قال : بترك السنن في السفر .
و روي عن بعض الصحابة أنه قال : لو أتيت بالسنن في السفر لأتممت الفريضة و ذلك عندنا محمول على حالة الخوف على وجه لا يمكنه المكث لأداء السنن و على هذا الأصل يبنى أن المسافر لو اختار الأربع لا يقع الكل فرضا بل المفروض ركعتان لا غير .
و الشطر الثاني يقع تطوعا عندنا و عنده يقع الكل فرضا حتى لو لم يقعد على رأس الركعتين قدر التشهد فسدت صلاته عندنا لأنها القعدة الأخيرة في حقه و هي فرض و عنده لا تفسد لأنها القعدة الأولى عنده و هي ليست بفرض في المكتوبات بلا خلاف و على هذا الأصل يبنى اقتداء المقيم بالمسافر أنه يجوز في الوقت و في خارج الوقت و في ذوات الأربع .
و اقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت و لا يجوز في خارج الوقت عندنا لأن فرض المسافر قد تقرر ركعتين على وجه لا يحتمل التغيير بالاقتداء بالمقيم فكانت القعدة الأولى فرضا في حقه فيكون هذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة و هذا لا يجوز على أصل أصحابنا .
و هذا المعنى لا يوجد في الوقت و لا في اقتداء المقيم بالمسافر و لو ترك القراءة في الأولين أو في واحدة منهما تفسد صلاته لأن القراءة في الركعتين في صلاة ذات ركعتين فرض و قد فات على وجه لا يحتمل التدارك بالقضاء فتفسد صلاته و عند الشافعي : أيضا تفسد لأن العزيمة و إن كانت هي الأربع عنده لكن القراءة في الركعات كلها فرض عنده .
و لو اقتدى المسافر بالمقيم في الظهر ثم أفسدها على نفسه في الوقت أو بعد ما خرج الوقت فإن عليه أن يصلي ركعتين عندنا و عنده يصلي أربعا و لا يجوز له القصر لأن العزيمة في حق المسافر هي ركعتان عندنا و إنما صار فرضه أربعا بحكم التبعية للمقيم بالاقتداء به و قد بطلت التبعية ببطلان الاقتداء فيعود حكم الأصل و عنده لما كانت العزيمة هي الأربع و إنما أبيح القصر رخصة فإذا اقتدى بالمقيم فقد اختار العزيمة فتأكد عليه وجوب الأربع فلا تجوز له الرخصة بعد ذلك و يستوي في المقدار المفروض على .
المسافر من الصلاة سفر الطاعة من الحج و الجهاد و طلب العلم و سفر المباح كسفر التجارة و نحوه و سفر المعصية كقطع الطريق و البغي و هذا عندنا .
و قال الشافعي : لا تثبت رخصة القصر قي سفر المعصية .
وجه قوله : إن رخصة القصر تثبت تخفيفا أو نظرا على المسافر و الجاني لا يستحق النظر و التخفيف .
و لنا : أن ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل بين مسافر و مسافر فوجب العمل بعمومها و إطلاقها و يستوي فيما ذكرنا من أعداد الركعات في حق المقيم و المسافر صلاة الأمن و الخوف فالخوف لا يؤثر في نقصان العدد مقيما كان الخائف أو مسافرا و هو قول عامة الصحابة Bهم دائما يؤثر في سقوط اعتبار بعض ما ينافي الصلاة في الأصل من المشي و نحو ذلك على ما نذكره في صلاة الخوف إن شاء الله .
تعالى