ما يرجع إلى المصالح عنه .
فصل : و أما الذي يرجع إلى المصالح عنه بأنواع : .
أحدها : أن يكون حق العبد لا حق الله D سواء كان مالا عينا أو دينا أو حقا ليس بمال عين و لا دين حتى لا يصح الصلح من حد الزنا و السرقة و شرب الخمر بأن أخذ زانيا أو سارقا من غيره أو شارب خمر فصالحه على مال أن لا يرفعه إلى ولي الأمر لأنه حق الله تعالى جل شأنه .
و لا يجوز الصلح من حقوق الله تعالى عز شأنه لأن المصالح بالصلح متصرف في حق نفسه إما باستيفاء كل حقه أو باستيفاء البعض و إسقاط الباقي أو بالمعاوضة و كل ذلك لا يجوز في غير حقه .
و كذا صالح من حد القذف بأن قذف رجلا فصالحه على مال على أن يعفو عنه لأنه و إن كان للعبد فيه حق فالمغلب فيه حق الله تعالى و المغلوب ملحق بالعدم شرعا فكان في حكم الحقوق المتمحضة حقا لله تعالى D و إنها لا تحتمل الصلح كذا هذا .
و كذلك لو صالح شاهدا يريد أن يشهد عليه على مال على أن لا يشهد عليه فهو باطل لأن الشاهد في إقامة الشهادة محتسب حقا لله تعالى عز شأنه قال الله سبحانه و تعالى : { و أقيموا الشهادة لله } و الصلح عن حقوق الله D باطل و يجب عليه رد ما أخذ لأنه أخذه بغير حق .
و لو علم القاضي به أبطل شهادته لأنه فسق إلا أن يحدث توبة فتقبل و يجوز الصلح عن التعزير لأنه حق العبد و كذا يصح عن القصاص في النفس و ما دونه لأن القصاص من حق العبد سواء كان البدن عينا أو دينا إلا إذا كان دينا يشترط القبض في المجلس احترازا عن الافتراق عن دين بدين و سواء كان معلوما أو مجهولا جهالة غير متفاحشة حتى لو صالح من القصاص على عبد أو ثوب هروي جاز لأن الجهالة قلت ببيان النوع لأن مطلق العبد يقع على عبد وسط و مطلق الثوب الهروي يقع على الوسط منه فتقل الجهالة فيصح الصلح و له الخيار إن شاء أعطى الوسط من ذلك و إن شاء أعطى قيمته كما في النكاح فأما إذا صالح على ثوب أو دابة أو دار لا يجوز لأن الثياب و الدواب أجناس تحتها أنواع مختلفة و جهالة النوع متفاحشة فتمنع الجواز .
و كذا جهالة الدور لاختلاف الأماكن ملحقة بجهالة الثوب و الدابة فتمنع الجواز كما في باب النكاح .
و الأصل أن كل جهالة تمنع صحة التسمية في باب النكاح تمنع صحة الصلح من القصاص و ما لا فلا لأن ما وقع عليه الصلح و المهر كل واحد منهما يجب بدلا عما ليس بمال و الجهالة لا تمنع من الصحة لعينها .
ألا ترى أن الشرع ورد بمهر المثل في باب النكاح مع أنه مجهول القدر و إنما يمنع منها لإفضائها إلى المنازعة و مبنى النكاح و الصلح من القصاص على المسامحة كالإنسان يسامح بنفسه ما لا يسامح بماله عادة فلا يكون القليل من الجهالة مفضيا إلى المنازعة فلا يمنع من الجواز بخلاف باب البيع لأن مبناه على السماكسة و المضايقة لكونه معاوضة مال بمال و الإنسان يضايق بماله ما لا يضايق بنفسه فهو الفرق و الله D الموفق .
و إذا لم يصح الصلح لتفاحش جهالة البدل يسقط القصاص و تجب الدية و في النكاح يجب مهر مثل إلا أن بينهما فرقا من وجه فإنه لو صالح عن القصاص على خمر أو خنزير لا يصح و لا يجب شيء آخر و لو تزوج امرأة على خمر أو خنزير لا تصح التسمية و يجب مهر المثل .
وجه الفرق : أن الخمر إذا لم تصلح بدل الصلح بطلت تسميته و جعل لفظة الصلح كناية عن العفو و ذلك جائز لأن العفو الفضل و في الصلح معنى الفضل فأمكن جعله كناية عنه و بعد العفو لا يجب شيء آخر لإاما لفظ النكاح فلا يحتمل العفو .
و لو احتمله فالعفو عن حق الغير لا يصح فيبقى النكاح من غير تسمية فيجب مهر المثل كما إذا سكت عن المهر أصلا فهو الفرق و سواء كان البدل قدر الدية أو أقل أو أكثر لقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان } و قوله D : { فمن عفي له } أي أعطى له كذا روي عن عبد الله بن عباس Bهما .
و قوله عز شأنه : { فاتباع بالمعروف } أي فليتبع مصدر بمعنى الأمر فقد أمر الله تبارك و تعالى الولي بالاتباع بالمعروف إذا أعطى له شيء و اسم الشيء يتناول القليل و الكثير فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على القليل و الكثير و هذا بخلاف القتل الخطأ و شبه العمد أنه إذا صالح على أكثر من الدية لا يجوز .
و الفرق : أن بدل الصلح في باب الخطأ و شبه العمد عوض عن الدية و أنها مقدرة بمقدار معلوم لا تزيد عليه فالزيادة على المقدر تكون ربا فأما بدل الصلح عن القصاص فعوض عن القصاص ليس من جنس المال حتى يكون البدل عنه زيادة على المال المقدر فلا يتحقق الربا فهو الفرق .
و أما كون المصالح عنه معلوما فليس بشرط لجواز الصلح حتى أن من ادعى على آخر حقا في عين فأقر به المدعى عليه أو أنكر فصالح على مال معلوم جاز لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح بطريق الإسقاط و لا يمكن تصحيحه هنا بطريق المعاوضة لجهالة أحد البدلين فيصحح بطريق الإسقاط فلا يؤدي إلى المنازعة المانعة من التسليم و التسلم و القبض لأن الساقط لا يحتمل ذلك و قد مر أن الجهالة فيما لا يحتمل التسليم و القبض لا تمنع جواز الصلح .
و الثاني : أن يكون حق المصالح .
و الثالث : أن يكون حقا ثابتا له في المحل فما لا يكون حقا له أو لا يكون حقا ثابتا له في المحل لا يجوز الصلح عنه حتى لو أن امرأة طلقها زوجها ادعت عليه صبيا في يده أنه ابنه منها و جحد الرجل فصالحت عن النسب على شيء فالصلح باطل لأن النسب حق الصبي لا حقها فلا تملك الاعتياض عن حق غيرها و لأن الصلح إما إسقاط أو معاوضة و النسب لا يحتملهما .
و لو صالح الشفيع من الشفعة التي وجبت له على شيء على أن يسلم الدار للمشتري فالصلح باطل لأنه لا حق للشفيع في المحل إنما الثابت له حق التمليك و هو ليس لمعنى في المحل بل هو عبارة عن الولاية و أنها صفة الوالي فلا يحتمل الصلح عنه بخلاف الصلح عن القصاص لأن هناك المحل يصير مملوكا في حق الاستيفاء فكان الحق ثابتا في المحل فملك الاعتياض عنه بالصلح فهو الفرق