شرائط الرجوع عن الهبة .
و أما شرائط الرجوع بعد ثبوت الحق حتى لا يصح بدون القضاء و الرضا لأن الرجوع فسخ العقد بعد تمامه و فسخ العقد بعد تمامه يصح بدون القضاء و الرضا كالرد بالعيب في البيع بعد القبض .
و أما العوارض المانعة من الرجوع فأنواع : منها هلاك الموهوب لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الهالك و لا سبيل إلى الرجوع في قيمته لأنها ليست بموهوبة لانعدام ورود العقد عليها .
و منها : خروج الموهوب من ملك الواهب بأي سبب كان من البيع و الهبة و الموت و نحوها لأن الملك يختلف بهذه الأشياء أما البيع و الهبة و نحوهما فظاهر و كذا بالموت لأن الثابت للوارث غير ما كان ثابتا للمورث حقيقة لأن الملك عرض يتجدد في كل زمان إلا أنه مع تجدده حقيقة جعل متجددا تقديرا في حق المحل حتى يرد الوارث بالعيب و يرد عليه فيجب العمل بالحقيقة في حق المالك فاختلف الملكان و اختلاف الملكين بمنزلة اختلاف العينين ثم لو وهب عينا لم يكن له أن يرجع في عين أخرى فكذا إذا أوجبه ملكا لم يكن له أن يفسخ ملكا آخر بخلاف ما إذا وهب لعبد رجل هبة فقبضها العبد أن للواهب أن يرجع فيها لأن الملك هناك لم يختلف لأن الهبة انعقدت موجبة للملك للمولى ابتداء فلم يختلف الملك و كذا المكاتب إذا وهب له هبة و قبضها فللواهب أن يرجع لما قلنا .
و كذلك إن أعتق المكاتب لأن الملك الذي أوجبه بالهبة قد استقر بالعتق فكأنه وهب له بعد العتق فإن عجز المكاتب ورد في الرق فللواهب أن يرجع عند أبي يوسف و عند محمد ليس له أن يرجع و هذا بناء على أن المكاتب إذا عجز عن أداء بدل الكتابة فالمولى يملك أكسابه بحكم الملك الأول أو يملكها ملكا مبتدأ فعند أبو يوسف : يملكها بحكم الملك الأول فلم يختلف الملك فكان له أن يرجع و عند محمد يملكها ملكا مبتدأ فاختلف الملك فمنع الرجوع .
وجه قول محمد : أن ملك الكسب للمولى قد بطل بالكتابة لأن المكاتب صار أحق بأكسابه بالكتابة فبطل ملك المولى بالكسب و الباطل لا يحتمل العود فكان هذا ملكا مبتدأ فيمنع الرجوع كملك الوارث .
وجه قول أبي يوسف : أن سبب ثبوت ملك الكسب هو ملك الرقبة و ملك الرقبة قائم بعد الكتابة إلا أنه امتنع ظهور ملك الكسب للمولى لضرورة التوصل إلى المقصود من الكتابة في جانب المكاتب و هو شرف الحرية بأداء بدل الكتابة فإذا عجز زالت الضرورة و ظهر ملك الكسب تبعا لملك الرقبة فلم يكن هذا ملكا مبتدأ .
و منها : موت الواهب لأن الوارث لم يوجب الملك للموهوب له فكيف يرجع في ملك لم يوجبه .
و منها : الزيادة في الموهوب زيادة متصلة فنقول : جملة الكلام في زيادة الهبة أنها لا تخلو إما إن كانت متصلة بالأصل و إما إن كانت منفصلة عنه فإن كانت متصلة فإنها تمنع الرجوع سواء كانت الزيادة بفعل الموهوب له أو لا بفعله و سواء كانت متولدة أو غير متولدة نحو ما إذا كان الموهوب جارية هزيلة فسمنت أو دارا فبنى فيها أو أرضا فغرس فيها غرسا أو نصب دولابا و غير ذلك مما يستقى به و هو مثبت في الأرض مبني عليها على وجه يدخل في بيع الأرض من غير تسمية قليلا كان أو كثيرا أو كان الموهوب ثوبا فصبغه بعصفر أو زعفران أو قطعه قميصا و خاطه أو جبة و حشاه أو قباء لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الأصل مع الزيادة لأن الزيادة ليست بموهوبة إذ لم يرد عليها العقد فلا يجوز أن يرد عليها الفسخ و لا سبيل إلى الرجوع في الأصل بدون الزيادة لأنه غير ممكن فامتنع الرجوع أصلا .
و إن صبغ الثوب بصبغ لا يزيد فيه أو ينقصه فله أن يرجع لأن المانع من الرجوع هو الزيادة فإذا لم يزده الصبغ في القيمة التحقت الزيادة بالعدم و إن كانت الزيادة منفصلة فإنها لا تمنع الرجوع سواء كانت متولدة من الأصل كالولد و اللبن و التمر أو غير متولدة كالأرش و العقر و الكسب و الغلة لأن هذه الزوائد لم يرد عليها العقد فلا يرد عليها الفسخ و إنما ورد على الأصل و يمكن فسخ العقد في الأصل دون الزيادة بخلاف المتصلة و بخلاف ولد المبيع أنه يمنع الرد بالعيب لأن المانع هناك هو الربا لأنه يبقى الولد بعد رد الأم بكل الثمن مبيعا مقصودا لا يقابله عوض و هذا تفسير الربا .
و معنى الربا لا يتصور في الهبة لأن جريان الربا يختص بالمعاوضات فجاز أن يبقى الولد موهوبا مقصودا بلا عوض بخلاف المبيع و كذا الزيادة في سعر لا تمنع الرجوع لأنه لا تعلق لها بالموهوب و إنما هي رغبة يحدثها الله تعالى في القلوب فلا تمنع الرجوع و لهذا لم تعتبر هذه الزيادة في أصول الشرع فلا تغير ضمان الرهن و لا الغضب و لا تمنع الرد بالعيب .
و أما نقصان الموهوب فلا يمنع الرجوع لأن ذلك رجوع في بعض الموهوب و له أن يرجع في بعض الموهوب مع بقائه بكماله فكذا إذا نقص و لا يضمن الموهوب له النقصان لأن قبض الهبة ليس بقبض مضمون .
و منها العوض لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها ] أي ما لم يعوض و لأن التعويض دليل على أن مقصود الواهب هو الوصول إلى العوض فإذا وصل فقد حصل مقصوده فيمنع الرجوع و سواء قل العوض أو كثر لما روينا من الحديث من غير فصل فنقول : العوض نوعان : متأخر عن العقد و مشروط في العقد .
أما العوض المتأخر عن العقد فالكلام فيه يقع في موضعين : .
أحدهما : في بيان شرط جواز هذا التعويض و صيرورة الثاني عوضا .
و الثاني : في بيان ماهية هذا التعويض .
أما الأول : فله شرائط ثلاثة : الأول مقابلة العوض بالهبة و هو أن يكون التعويض بلفظ يدل على المقابلة نحو أن يقول هذا عوض من هبتك أو بدل عن هبتك أو مكان هبتك أو نحلتك هذا عن هبتك أو تصدقت بهذا بدلا عن هبتك أو كافأتك أو جازيتك أو أتيتك و ما يجري هذا المجرى لأن العوض اسم لما يقابل المعوض فلا بد من لفظ يدل على المقابلة حتى لو وهب لإنسان شيئا و قبضه الموهوب له .
ثم إن الوهوب له أيضا وهب شيئا للواهب و لم يقل هذا عوض من هبتك و نحو ذلك مما ذكرنا لم يكن عوضا بل كان هبة مبتدأ و لكل واحد منهما حق الرجوع لأنه لم يجعل الباقي مقابلا بالأول لانعدام ما يدل على المقابلة فكانت هبة مبتدأة فيثبت فيها الرجوع .
و الثاني : أن لا يكون العوض في العقد مملوكا بذلك العقد حتى لو عوض الموهوب له الواهب بالموهوب لا يصح و لا يكون عوضا .
و إن عوضه ببعض الموهوب عن باقيه فإن كان الموهوب على حاله التي وقع عليها العقد لم يكن عوضا لأن التعويض ببعض الموهوب لا يكون مقصود الواهب عادة إذ لو كان ذلك مقصوده لأمسكه و لم يهبه فلم يحصل مقصوده بتعويض بعض ما دخل تحت العقد فلا يبطل حق الرجوع و إن كان الموهوب قد تغير عن حاله تغيرا يمنع الرجوع فإن بعض الموهوب يكون عوضا عن الباقي لأنه بالتغير صار بمنزلة عين أخرى فصلح عوضا هذا إذا وهب شيئا واحدا أو شيئين في عقد واحد فأما إذا وهب شيئين في عقدين فعوض أحدهما عن الآخر فقد اختلف فيه قال أبي حنيفة عليه الرحمة : يكون عوضا و قال أبي يوسف : لا يكون عوضا .
وجه قول أبي يوسف : أن حق الرجوع ثابت في غير ما عوض لأنه موهوب و حق الرجوع في الهبة ثابت شرعا فإذا عوض يقع عن الحق المستحق شرعا فلا يقع موقع العوض بخلاف ما إذا تغير الموهوب فجعل بعضه عوضا عن الباقي أنه يجوز و كان مكانا عوضا لأن حق الرجوع قد بطل بالتغير فجاز أن يقع موقع العوض .
وجه قولهما : أنهما ملكا بعقدين متباينين فجاز أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر و هذا لأنه يجوز أن يكون مقصود الواهب من هبته الثانية عود الهبة الأولى لأن الإنسان قد يهب شيئا ثم يبدو له الرجوع فصار الموهوب بأحد العقدين بمنزلة عين أخرى بخلاف ما إذا عوض بعض الموهوب عن الباقي و هو على حاله التي وقع عليها العقد لأن بعض الموهوب لا يكون مقصود الواهب فإن الإنسان لا يهب شيئا ليسلم له بعضه عوضا عن باقيه .
و قوله : [ حق الرجوع ثابت شرعا ] نعم لكن الرجوع في الهبة ليس بواجب فلا يمتنع وقوعه عن جهة أخرى كما لو باعه منه و لو وهب له شيئا و تصدق عليه بشيء فعوضه الصدقة من الهبة كانت عوضا بالإجماع على اختلاف الأصلين .
أما على أصل أبي حنيفة و محمد رحمهما الله فلا يشكل لأنهما لو ملكا بعقدين متفقين لجاز أن يكون أحدهما عوضا عن الآخر فعند اختلاف العقدين أولى .
و أما على أصل أبي يوسف C فلأن الصدقة لا يثبت فيها حق الرجوع فوقعت موقع العوض .
و الثالث : سلامة العوض للواهب فإن لم يسلم بأن استحق من يده لم يكن عوضا و له أن يرجع في الهبة لأن بالاستحقاق تبين أن التعويض لم يصح فكأنه لم يعوض أصلا فله أن يرجع إن كان الموهوب قائما بعينه لم يهلك و لم يزدد خيرا و لم يحدث فيه ما يمنع الرجوع فإن كان قد هلك أو استهلكه الموهوب له لم يضمنه كما لو هلك أو استهلكه قبل التعويض و كذا إذا إزداد خيرا لم يضمن كما قبل التعويض .
و إن استحق بعض العوض و بقي البعض فالباقي عوض عن كل الموهوب و إن شاء رد ما بقي من العوض و يرجع في كل الموهوب إن كان قائما في يده و لم يحدث فيه ما يمنع الرجوع و هذا قول أصحابنا الثلاثة .
و قال زفر : يرجع في الهبة بقدر المستحق من العوض .
وجه قوله : أن معنى المعاوضة ثبت من الجانبين جميعا فكما أن الثاني عوض عن الأول فالأول يصير عوضا عن الثاني ثم لو استحق بعض الهبة الأولى كان للموهوب له أن يرجع في بعض العوض فكذا إذا استحق بعض العوض كان للواهب أن يرجع في بعض الهبة تحقيقا للمعاوضة .
و لنا : أن الباقي يصلح عوضا عن كل الهبة ألا ترى أنه لو لم يعوضه إلا به في الابتداء كان عوضا مانعا عن الرجوع فكذا في الانتهاء بل أولى لأن البقاء أسهل إلا أن للواهب أن يرده و يرجع في الهبة لأن الموهوب له غره حيث عوضه لإسقاط الرجوع بشيء لم يسلم له فيثبت له الخيار .
و أما سلامة المعوض و هو الموهوب للموهوب له فشرطه لزوم التعويض حتى لو استحق الموهوب كان له أن يرجع فيما عوض لأنه إنما عوض ليسقط حق الرجوع في الهبة فإذا استحق الموهوب تبين أن حق الرجوع لم يكن ثابتا فصار كمن صالح عن دين ثم تبين أنه لا دين عليه و كذلك لو استحق نصف الموهوب فللموهوب له أن يرجع في نصف العوض إن كان الموهوب مما يحتمل القسمة لأنه إنما جعل عوضا عن حق الرجوع في جميع الهبة فإذا لم يسلم له بعضه يرجع في العوض بقدره سواء زاد العوض أو نقص في السعر أو زاد في البدن أو زاد في البدن أو نقص في البدن كان له أن يأخذ نصفه و نصف النقصان كذا روي عن محمد في الإملاء و إنما لم تمنع الزيادة عن الرجوع في العوض لأنه تبين له أنه قبضه بغير حق فصار كالمقبوض بعقد فاسد فيثبت الفسخ في الزوائد و إن قال الموهوب له : أرد ما بقي من الهبة و أرجع في العوض كله لم يكن له ذلك لأن العوض لم يكن مشروطا في العقد بل هو متأخر عنه و العوض المتأخر ليس بعوض عن العين حقيقة بل هو لإسقاط الرجوع و قد حصل له سقوط الرجوع فيما بقي من الهبة فلم يكن له أن يرجع في العوض فإن كان العوض مستهلكا ضمن قابض العوض بقدر ما وجب الرجوع للموهوب له فيه من العوض و إن استحق كل الهبة و العوض مستهلك يضمن كل قيمة العوض كذا ذكر في الأصل من غير خلاف و هو إحدى روايتي بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله .
و روى بشر رواية أخرى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يضمن شيئا و هو قول أبي يوسف .
وجه رواية الأصل : أن القبض في العوض ما وقع مجانا و إنما وقع مبطلا حق الرجوع في الأول فإن لم يسلم المقصود منه بقي القبض مضمونا فكما يرجع بعينه لو كان قائما يرجع بقيمته إذا هلك .
وجه الرواية الأخرى : أن العوض المتأخر عن العقد في حكم الهبة المبتدأة حتى يشترط فيه شرائط الهبة من القبض و الحيازة و الموهوب غير مضمون بالهلاك هذا إذا كان الموهوب أو العوض شيئا لا يحتمل القسمة فاستحق بعضه .
فأما إذا كان مما يحتمل القسمة فاستحق بعض أحدهما بطل العوض إن كان هو المستحق و كذا تبطل الهبة إن كانت هي المستحقة فإذا بطل العوض رجع في الهبة و إذا بطلت الهبة يرجع في العوض لأن بالاستحقاق تبين أن الهبة أو التعويض وقع في مشاع يحتمل القسمة و ذلك باطل .
الثاني : بيان ماهيته فالتعريض المتأخر عن الهبة هبة مبتدأة بلا خلاف من أصحابنا يصح بما تصح به الهبة و يبطل بما تبطل به الهبة لا يخالفها إلا في إسقاط الرجوع على معنى أنه يثبت حق الرجوع في الأولى و لا يثبت في الثانية فأما فيما وراء ذلك فهو في حكم هبة مبتدأة لأنه تبرع بتمليك العين للحال و هذا معنى الهبة إلا أنه تبرع به ليسقط حق الرجوع عن نفسه في الهبة الأولى فكانت هبة مبتدأة مسقطة لحق الرجوع في الهبة الأولى .
و لو وجد الموهوب له بالموهوب عيبا فاحشا لم يكن له أن يرده و يرجع في العوض و كذلك الواهب إذا وجد بالعوض عيبا لم يكن له أن يرد العوض و يرجع في الهبة لأن الرد بالعيب من خواص المعاوضات والعوض إذا لم يكن مشروطا في العقد لم يكن عوضا على الحقيقة بل كان هبة مبتدأة و لا يظهر معنى العوض فيه إلا في إسقاط الرجوع خاصة فإذا قبض الواهب العوض فليس لكل واحد منهما أن يرجع على صاحبه فيما ملكه .
أما الواهب فلأنه قد سلم له العوض عن الهبة و إنه يمنع الرجوع و أما الموهوب له فلأنه قد سلم له ما هو في معنى العوض في حقه و هو سقوط حق الرجوع فيمنعه من الرجوع لقوله عليه الصلاة و السلام : [ الواهب أحق بهبته مالم يثب منها ] و سواء عوضه الموهوب له أو أجنبي بأمر الموهوب له أو بغير أمره لم يكن للواهب أن يرجع في هبته و لا للمعوض ان يرجع في العوض على الواهب و لا على الموهوب له .
أما الواهب فإنما لم يرجع في هبتة لأن الأجنبي إنما عوض بأمر الموهوب له قام تعويضه مقام تعويضه بنفسه و لو عوض بنفسه لم يرجع فكذا إذا عوض الأجنبي بأمره و إن عوض بغير أمره فقد تبرع بإسقاط الحق عنه و التبرع بإسقاط الحق عن الغير جائز كما لو تبرع بمخالعة امرأة من زوجها .
و أما المعوض فإنه لا يرجع على الواهب لأن مقصوده من التعوض سلامة الموهوب للموهوب له و إسقاط حق التبرع و قد سلم له ذلك و إنما لم يرجع على الموهوب له .
أما إذا كان بغير أمره فلأنه تبرع بإسقاط الحق عنه فلا يملك ان يجعل ذلك مضمونا عليه .
و اما إذا عوض بأمر لا يرجع عليه أيضا إلا إذا قال له : عوض عني على أني ضامن لأنه إذا أمره بالتعويض و لم يضمن له فقد أمره بما ليس بواجب عليه بل هو متبرع به فلم يوجب ذلك الضمان على الآمر إلا بشرط الضمان و على هذا قالوا فيمن قال لغيره : أطعم عن كفارة يميني أو أد زكاتي : ففعل لا يرجع بذلك على الآمر إلا أن يقول له على أني ضامن لأنه أمره بما ليس بمضمون عليه بخلاف ما إذا أمره غيره بقضاء الدين فقضاه أنه يرجع على الآمر و إن لم يقل على أني ضامن نصا لأن فضاء الدين مضمون على الآمر فإذا أمره به فقد ضمن له .
و لو عوض الموهوب له الواهب عن نصف الهبة كان عوضا عن نصفها و كان للواهب أن يرجع في النصف الآخر و لا يرجع فيما عوض عنه لأن حق الرجوع في الهبة مما يتجزأ ألا ترى أنه لو رجع في نصف الهبة ابتداء دون النصف جاز فجاز أن يثبت حق الرجوع في النصف بدون النصف بخلاف العفو عن القصاص و الطلاق لأن ذلك مما لا يتجزأ فكان إسقاط الحق عن البعض إسقاطا عن الكل .
و أما العوض المشروط في العقد فإن قال : و هبت لك هذا الشيء على أن تعوضني هذا الثوب فقد اختلف في ماهية هذا العقد قال أصحابنا الثلاثة Bهم : إن عقده عقد هبة و جوازه جواز بيع و ربما عبروا أنه هبة ابتداء بيع انتهاء حتى لا يجوز في المشاع الذي ينقسم و لا يثبت الملك في كل واحد منهما قبل القبض و لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته مالم يقبضا و كذا إذا قبض أحدهما و لم يقبض الآخر فلكل واحد منهما أن يرجع القابض و غير القابض فيه سواء حتى يتقابضا جميعا و لو تقابضا كان ذلك بمنزلة البيع يرد كل واحد منهما بالعيب و عدم الرؤية و يرجع في الاستحقاق و تجب الشفعة إذا كان غير منقول .
و قال زفر C : عقده عقد بيع و جوازه جواز بيع ابتداء و تثبت فيه أحكام البيع فلا يبطل بالشيوع و يفيد الملك بنفسه من غير شريطة القبض و لا يملكان الرجوع .
و جه قوله : أن معنى البيع موجود في هذا العقد لأن البيع تمليك العين بعوض و قد وجد إلا أنه اختلف العبارة و اختلافها لا يوجب اختلاف الحكم كلفظ البيع مع لفظ التمليك .
و لنا : أنه و جد في هذا العقد لفظ الهبة و معنى البيع فيعطي شبه العقدين فيعتبر فيه القبض و الحيازة عملا بشبه الهبة و يثبت فيه حق الرد بالعيب و عدم الرؤية في حق الشفعة عملا بشبه البيع عملا بالدليلين بقدر الإمكان و الله D أعلم و منها ما هو في معنى العوض و هو ثلاثة أنواع : .
الأول : صلة الرحم المحرم فلا رجوع في الهبة لذي رحم محرم من الواهب و هذا عندنا .
و قال الشافعي C : يرجع الوالد فيما يهب لولده احتج بما روينا عن النبي عليه الصلاة السلام أنه قال : [ لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده ] و هذا نص في الباب .
و لنا : ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الواهب أحق بهبته ما يثب منها ] أي لم يعوض و صلة الرحم عوض معنى لأن التواصل سبب التناصر و التعاون في الدنيا فيكون و سيلة إلى استيفاء النصرة و سبب الثواب في الدار الآخرة فكان أقوى من المال و قد روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اتقوا الله و صلوا الأرحام فإنه أبقى لكم في الدنيا و خير لكم في الدنيا و خير لكم في دار الآخرة ] فدخل تحت النص .
و روى عن سيدنا عمر Bه أنه قال : من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها و هذا نص في باب و الحديث محمول على النهي عن شراء الموهوب لكنه سماه رجوعا مجازا لتصوره بصورة الرجوع كما روى أن [ سيدنا عمر Bه تصدق بفرس له على رجل ثم وجده يباع في السوق فأراد أن يشتريه فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : لا تعد في صدقتك ] .
و سيدنا عمر Bه قصد الشراء لا العود في الصدقة لكن سماه عودا لتصوره بصورة العود و هو نهى ندب لأن الموهوب له يستحي فيسامحه في ثمنه فيصير كالراجع في بعضه و الرجوع مكروه و هذا المعنى لا يوجد في هبة الوالد لولده لأن الولد لا يستحي عن المضايقة في الثمن لاستيفاء الثمن لمباسطة بينهما عادة فلم يكره الشراء حملناه على هذا توفيقا بين الدليلين صيانة لهما على التناقض .
و لو وهب لذي رحم محرم فله أن يرجع لقصور معنى الصلة في هذه القرابة فلا يكون في معنى العوض و كذا إذا وهب لذي محرم و لا رحم له لانعدام معنى الصلة أصلا .
و لو وهب لعبد ذي رحم و مولاه أجنبي فأما إن كان المولى ذا رحم محرم من الواهب و العبد أجنبيا و أما إن كان المولى و العبد جميعا ذوي رحم من الواهب فإن كان العبد ذا رحم محرم من الواهب و المولى أجنبي فله أن يرجع بلا خلاف بين أصحابنا لأن حكم العقد يقع للمولى و إنما الواقع للعبد صورة العقد بلا حكم و إنه لا يفيد معنى العلة فانعدم معنى العوض أصلا و إن كان المولى ذا رحم محرم من الواهب و العبد أجنبي اختلفوا فيه قال أبو حنيفة Bه : يرجع و قال أبي يوسف و محمد رحمهما الله : لا يرجع .
وجه قولهما : أن بطلان حق الرجوع بحصول الصلة لأنها في معنى العوض على ما بينا و معنى الصلة إنما يتحقق لوقوع الحكم للقريب و الحكم وقع للمولى فصار كأن الواهب أوجب الهبة له ابتداء و إنه يمنع الرجوع كذا هذا وجه قول أبي حنيفة C : أن الملك لم يثبت للمولى بالهبة لأنها وقعت للعبد ألا ترى أن القبض إليه لا إلى المولى و إنما ثبت ضرورة تعدد الإثبات للعبد فأقيم مقامه و إذا ثبت الملك له بالهبة لم يحصل معنى الصلة بالعقد فلا يمنع الرجوع مع ما أن الملك يثبت له بالهبة لكن الهبة وقعت للمولى من وجه و للعبد من وجه لأن الإيجاب أضيف إلى العبد و الملك وقع للمولى إذا لم يكن دين فلم يتكامل معنى الصلة في الهبة فصارت كالهبة الذي رحم محرم فإن كانا جميعا ذا رحم محرم من الواهب فقد ذكر الكرخي عن محمد أن قياس قول أبي حنيفة أن يرجع لأن قرابة العبد لا تؤثر في إسقاط الرجوع لأن الملك لم يقع له و قرابة المولى أيضا لا تؤثر فيه لأن الإيجاب لم يقع له و حق هو الأصل في الهبة و الامتناع معارض المسقط و لم يوجد فلا يسقط .
و ذكر الفقيه أبو جعفر الهنداوي : أنه ليس له أن يرجع في هذه المسألة في قولهم لأن الهبة إما أن يعتبر فيها حال العبد أو حال المولى و أيهما كان فرحمة كاملة و الصلة الكاملة تمنع الرجوع .
و الجواب : أنه لا يعتبر ههنا حال العبد وحده و لا حال المولى وحده بل يعتبر حالهما جميعا و اعتبار حالهما لا يمنع الرجوع و الله D أعلم .
و على هذا التفريع إذا وهب لمكاتب شيئا و هو ذو رحم محرم من الواهب أو مولاه ذو رحم محرم من الواهب أنه إن أدى المكاتب فعتق يعتبر حاله في القرابة و عدمها إن كان أجنبيا يرجع و إن كان قريبا لا يرجع لأنه لما أدى فعتق استقر ملكه فصار كأن الهبة وقعت له و هو حر و لو كان كذلك يرجع إن كان أجنبيا و إن كان قريبا لا يرجع كذا هذا .
و إن عجز ورد في الرق فقياس قول أبي حنيفة C أنه يعتبر حال المولى في القرابة و عدمها إن كان أجنبيا فللواهب أن يرجع و إن كان قريبا فليس له أن يرجع بناء على أن الهبة عنده أوجبت ملكا موقوفا على المكاتب و على مولاه على معنى أنه إن أدى فعتق تبين أن الملك وقع له من حين وجوده و إن عجز ورد في الرق يظهر أنه وقع للمولى من وقت وجوده كأن الهبة وقعت له من الابتداء و على قول محمد لا يرجع في الأحوال كلها لأن عنده كسب المكاتب يكون للمكاتب من غير توقف ثم ينتقل إلى المولى بالعجز كأنه وهب لحي فمات و انتقل الموهوب إلى ورثته .
الثاني : الزوجية فلا يرجع كل واحد من الزوجين فيما وهبه لصاحبه لأن صلة الزوجية تجري مجرى صلة القرابة الكاملة بدليل أنه يتعلق بها التوارث في جميع الأحوال فلا يدخلها حجب الحرمان و القرابة الكاملة مانعة من الرجوع فكذا ما يجري مجراها .
الثالث : التوارث فلا رجوع في الهبة من الفقير بعد قبضها لأن الهبة من الفقير صدقة لأنه يطلب بها الثواب كالصدقة و لا رجوع في الصدقة على الفقير بعد قبضها لحصول الثواب الذي هو في معنى العوض بوعد الله تعالى و إن لم يكن عوضا في الحقيقة إذ العبد لا يستحق على مولاه عوضا .
و لو تصدق على غنى فالقياس أن يكون له حق الرجوع لأن التصدق على الغني يطلب منه العوض عادة فكان هبة في الحقيقة فيوجب الرجوع إلا أنهم استحسنوا و قالوا : ليس له أن يرجع لأن الثواب قد يطلب بالصدقة على الأغنياء ألا ترى أن من له نصاب تجب فيه الزكاة و له عيال لا يكفيه ما في يده ففي الصدقة عليه ثواب و إذا كان الثواب مطلوبا من ذلك في الجملة فإذا أتى بلفظة الصدقة دل أنه أراد به الثواب و إنه يمنع الرجوع لما بينا .
و أما الشيوع فنقول : لا يمنع الرجوع في الهبة فللواهب أن يرجع في نصف الهبة مشاعا و إن كان محتملا للقسمة بأن وهب دارا فباع الموهوب له نصفها مشاعا كان للواهب أن يرجع في الباقي و كذا لو لم يبع نصفها و هي قائمة في يد الموهوب له فله أن يرجع في بعضها دون البعض بخلاف الهبة المستقلة إنها لا تجوز في المشاع الذي يحتمل القسمة لأن القبض شرط جواز العقد و الشياع يخل في القبض الممكن من التصرف و الرجوع فسخ و القبض ليس بشرط لجواز الفسخ فلا يكون الشيوع مانعا من الرجوع