بيان المكان الصالح للإقامة .
و أما المكان الصالح للإقامة فهو موضع اللبث و القرار في العادة نحو الأمصار و القرى و أما المفازة و الجزيرة و السفينة فليست موضع الإقامة حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا يصير مقيما .
كذا روي عن أبي حنيفة و روي عن أبي يوسف في الأعراب و الأكراد و التركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع و نووا الإقامة خمسة عشر يوما صاروا مقيمين فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في القرية .
و روي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون فصار الحاصل إن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في المفازة و إن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام و الفساطيط .
و عن أبي يوسف روايتان و على هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند و معهم أخبية و فساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر يوما في المفازة و الصحيح قول أبي حنيفة لأن موضع الإقامة موضع القرار و المفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النية لغوا و لو حاصر المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب و وطنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوما لم تصح نية الإقامة و يقصرون و كذا إذا لزلوا المدينة و حاصروا أهلها في الحصن .
و قال أبو يوسف : إن كانوا في الأخبية و الفساطيط خارج البلدة فكذلك و إن كانوا في الأبنية صحت .
نيتهم .
و قال زفر : في الفصلين جميعا إن كانت الشوكة و الغلبة للمسلمين صحت نيتهم و إن كانت للعدو لم تصح .
وجه قول زفر : أن الشوكة إذا كانت للمسلمين يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم فيمكنهم القرار ظاهرا فنية الإقامة صادفت محلها فصحت و أبو يوسف يقول : الأبنية موضع الإقامة فتصح نية الإقامة فيها بخلاف الصحراء .
و لنا : ما روي عن ابن عباس Bهما أن رجلا سأله و قال إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك و لأن نية الإقامة نية القرار و إنما تصح في محل صالح للقرار و دار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين حيلة لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت .
و لأن غرضهم من المكث هنالك فتح الحصن دون التوطن و توهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة عشر يوما فقد خرج الجواب عما قالا .
و على هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم و نووا الإقامة خمسة عشر يوما و اختلف المتأخرون في الأعراب و الأكراد و التركمان الذين يسكنون في بيوت الشعر و الصوف .
قال بعضهم : لا يكونون مقيمين أبدا و إن نووا الإقامة مدة الإقامة لأن المفازة ليست موضع الإقامة و الأصح أنهم مقيمون لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار و القرى فكانت المفاوز لهم كالأمصار و القرى لأهلها و لأن الإقامة للرجل أصل و السفر عارض و هم لا ينوون السفر بل ينتقلون من ماء إلى ماء و من مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم و قصدوا موضعا آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين في الطريق .
ثم المسافر كما يصير مقيما بصريح نية الإقامة في مكان واحد صالح للإقامة خمسة عشر يوما خارج الصلاة يصير مقيما به في الصلاة حتى يتغير فرضه في الحالين جميعا سواء نوى الإقامة في أول الصلاة أو أفي وسطها أو في آخرها بعد أن كان شيء من الوقت باقيا و إن قل و سواء كان المصلي منفردا أو مقتديا مسبوقا أو مدركا إلا إذا أحدث المدرك أو نام خلف الإمام فتوضأ أو انتبه بعد ما فرغ الإمام من الصلاة .
و نوى الإقامة فإنه لا يتغير فرضه عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر و إنما كان كذلك لأن نية الإقامة نية الاستقرار ! و الصلاة لا تنافي نية الاستقرار فتصح نية الإقامة فيها .
فإذا كان الوقت باقيا و الفرض لم يؤد بعد كان محتملا للتغيير فيتغير بوجود المغير و هو نية الإقامة .
و إذا خرج الوقت أو أدى الفرض لم يبق محتملا للتغيير فلا يعمل المغير فيه و المدرك الذي نام خلف الإمام أو أحدث و ذهب للوضوء كأنه خلف الإمام ألا ترى أنه لا يقرأ و لا يسجد للسهو .
فإذا فرخ الإمام فقد استحكم الفرض و لم يبق محتملا للتغيير في حقه فكذا في حق اللاحق بخلاف المسبوق .
و إذا عرف هذا فنقول : إذا صلى المسافر ركعة ثم نوى الإقامة في الوقت تغير فرضه لما ذكرنا أن الفرض في الوقت قابل للتغيير و كذا لو نوى الإقامة بعد ما صلى ركعة ثم خرج الوقت لما قلنا .
و لو خرج الوقت و هو في الصلاة ثم نوى الإقامة لا يتغير فرضه لأن فرض السفر قد تقرر عليه بخروج الوقت فلا يحتمل التغيير بعد ذلك .
و لو صلى الظهر ركعتين و قعد قدر التشهد أولم يسلم ثم نوى الإقامة تغير فرضه لما ذكرنا و إن نوى الإقامة بعدما قعد قدر التشهد و قام إلى الثالثة فإن لم يقيد الركعة بالسجدة تغير فرضه .
لأنه لم يخرج عن المكتوبة بعد إلا أنه يعيد القيام و الركوع لأن ذلك نفل فلا ينوب عن الفرض و هو بالخيار في الشفع الأخير إن شاء قرأ و إن شاء سبح و إن شاء سكت في ظاهر الرواية على ما ذكرنا فيما تقدم .
و إن قيد الثالثة بالسجدة ثم نوى الإقامة لا يتغير فرضه لأن الفرض قد استحكم بخروجه منه فلا يحتمل التغيير و لكنه يضيف إليها ركعة أخرى لتكون الركعتان له تطوعا لأن التقرب إلى الله تعالى بالبتراء غير جائز .
و لو أفسد تلك الركعة ففرضه تام و ليس عليه قضاء الشفع الثاني عند علمائنا الثلاثة خلافا لزفر بناء على مسألة المظنون هذا إذا قعد على رأس الركعتين قدر التشهد فأما إذا لم يقعد و نوى الإقامة و قام إلى الثالثة تغير فرضه لما قلنا ثم ينظر إن لم يقم صلبه عاد إلى القعدة و إن أقام صلبه لا يعود كالمقيم إذا قام من الثانية إلى الثالثة و هو في القراءة في الشفع الأخير بالخيار و كذا إذا قام إلى الثالثة ولم يقيدها بالسجدة حتى لو نوى الإقامة تغير فرضه و عليه إعادة القيام و الركوع لما مر فإن قيد الثالثة بالسجدة ثم نوى الإقامة لا تعمل .
نيته في حق هذه الصلاة لأن فرضيتها قد فسدت بالإجماع لأنه لما قيد الثالثة بالسجدة تم شروعه في النفل لأن الشروع إما أن يكون بتكبيرة الافتتاح أو بتمام فعل النفل و تمام فعل الصلاة بتقييد الركعة بالسجدة و لهذا لا تسمى صلاة بدونه و إذا صار شارعا في النفل صار خارجا عن الفرض ضرورة لكن بقيت التحريمة عند أبي حنيفة و أبي يوسف فيضيف إليها ركعة أخرى ليكون الأربع له تطوعا لأن التنفل بالثلاث غير مشروع .
و عند محمد : ارتفعت التحريمة بفساد الفرضية فلا يتصور انقلابه تطوعا .
مسافر صلى الظهر ركعتين و ترك القراءة في الركعتين أو في واحدة منهما و قعد قدر التشهد ثم نوى الإقامة قبل أن يسلم أو قام إلى الثالثة ثم نوى الإقامة قبل أن يقيدها بالسجدة تحول فرضه أربعا عند أبي حنيفة و أبي يوسف و يقرأ في الأخيرتين قضاء عن الأوليين و عند محمد تفسد صلاته .
و لو قيد الثالثة بالسجدة ثم نوى الإقامة تفسد صلاته بالإجماع لكن يضيف إليها ركعة أخرى ليكون الركعتان له تطوعا على قولهما خلافا لمحمد على ما مر .
وجه قول محمد : أن ظهر المسافر كفجر المقيم ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك القراءة فيهما أو في إحداهما على وجه لا يمكنه إصلاحه إلا بالاستقبال فكذا الظهر في حق المسافر إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد وجه قولهما أن المفسد لم يتقرر لأن المفسد خلو الصلاة عن القراءة في ركعتين منها و لا يتحقق ذلك بترك القراءة في الأوليين لأن صلاة المسافر بعرض أن يلحقها مدة نية الإقامة بخلاف الفجر .
في حق المقيم لأن ثمة تقرر المفسد إذ ليس لها هذه العرضية و كذا إذا قيد الثالثة بالسجدة .
و لو قرأ في الركعتين جميعا و قعد قدر التشهد وسلم و عليه سهو فنوى الإقامة لم ينقلب فرضه أربعا و سقط عنه السهو عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد و زفر تغير فرضه أربعا و يسجد للسهو في آخر الصلاة ذكر الاختلاف في نوادر أبي سليمان و لو سجد سجدة واحدة لسهوه أو سجدها ثم نوى الإقامة تغير فرضه أربعا بالإجماع و يعيد السجدتين في آخر الصلاة و كذا إذا نوى الإقامة قبل السلام الأول و هذا الاختلاف راجع إلى أصل و هو أن من عليه سجود السهو إذا سلم يخرج من الصلاة عند أبي حنيفة و أبي يوسف خروجا موقوفا إن عاد إلى سجدتي السهو و صح عوده إليهما تبين أنه كان لم يخرج و إن لم يعد تبين أنه كان خرج حتى لو ضحك بعدما سلم قبل أن يعود إلى سجدتي السهو لا تنتقض طهارته عندهما .
و عند محمد و زفر : سلامه لا يخرجه عن حرمة الصلاة أصلا حتى لو ضحك قهقهة بعد السلام قبل الاشتغال بسجدتي السهو تنتقض طهارته .
وجه قول محمد و زفر : أن الشرع أبطل عمل سلام من عليه سجدتا السهود لأن سجدتي السهو يؤتى بهما في تحريمة الصلاة لأنهما شرعتا لجبر النقصان و إنما ينجبران لو حصلتا في تحريمة الصلاة و لهذا يسقطان إذا وجد بعد القعود قدر التشهد ما ينافي التحريمة .
و لا يمكن تحصيلهما في تحريمة الصلاة إلا بعد بطلان عمل هذا السلام فصار وجوده و عدمه في هذه الحالة بمنزلة واحدة و لو انعدم حقيقة كانت التحريمة باقية فكذا إذا التحق بالعدم .
و لأبي حنيفة و أبي يوسف : أن السلام جعل محللا في الشرع قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و تحليلها التسليم ] .
و التحليل ما يحصل به التحلل و لأنه خطاب القوم فكان من كلام الناس و أنه مناف للصلاة غير أن الشرع أبطل عمله في هذه الحالة لحاجة المصلي إلى جبر النقصان فلا ينجبر إلا عند وجود الجابر في التحريمة ليلحق الجابر بسبب بقاء التحريمة بمحل النقصان فينجبر النقصان فبقينا التحريمة مع وجود المنافي لها لهذه الضرورة فإن اشتغل بسجدتي السهو و صح اشتغاله بهما تحققت الضرورة إلى إبقاء التحريمة فبقيت و إن .
لم يشتغل لم تتحقق الضرورة فعمل السلام في الإخراج عن الصلاة و إبطال التحريمة