بيان ما يتعلق بكيفية الحكم .
و أما الذي يتعلق بكيفية هذا الحكم فنوعان : .
الأول : أن الثابت للمرتهن حق حبس الرهن بالدين الذي رهن به و ليس له أن يمسكه بدين وجب له على الراهن قبل الرهن أو بعده لأنه مرهون بهذا الدين لا بدين آخر فلا يملك حبسه بدين آخر لأن ذلك دين لا رهن به .
و الثاني : أن المرهون محبوس بجميع الدين الذي رهن به سواء كانت قيمة الرهن أكثر من الدين أو أقل حتى لو قضى الراهن بعض الدين كان للمرتهن أن يحبس كل الدين حتى يستوفي ما بقي قل الباقي أو كثر لأن الرهن في حق ملك الحبس مما لا يتجزأ فما بقي شيء من الدين بقي محبوسا به كالمبيع قبل القبض لما كان محبوسا بجميع الثمن فما بقي شيء من الثمن بقي محبوسا به كذا هذا و لأن صفقة الرهن واحدة فاسترداد شيء من المرهون بقضاء بعض الدين يتضمن تفريق الصفقة من غير رضا المرتهن و هذا لا يجوز و سواء كان المرهون شيئا واحدا أو أشياء ليس للراهن أن يسترد شيئا من ذلك بقضاء بعض الدين لما قلناه و سواء سمي لكل واحد منهما شيء من المال الذي رهن به أو لم يسم في رواية الأصل .
و ذكر في الزيادات فيمن رهن مائة شاة بألف درهم على أن كل شاة منها بعشرة دراهم فأدى عشرة دراهم كان له أن يقبض شاة .
ذكر الحاكم الشهيد أن ما ذكر في الأصل قول أبي يوسف و ما ذكر في الزيادات قول محمد .
و ذكر الجصاص أن في المسألة روايتين عن محمد .
وجه رواية الزيادات أنه لما سمى لكل واحد منهما دينا متفرقا أوجب ذلك تفريق الصفقة فصار كأنه رهن كل واحدة منهما بعقد على حدة .
وجه رواية الأصل : أن الصفقة واحدة حقيقة لأنها أضيفت إلى الكل إضافة واحدة إلا أنه تفرقت التسمية و تفريق التسمية لا يوجب تفريق الصفقة كما في البيع إذا اشتملت الصفقة على أشياء كان للبائع حق حبس كلها إلى أن يستوفي في جميع الثمن و إن سمى لكل واحد منهما ثمنا على حدة كذا هذا .
و أما الحكم الثاني : و هو اختصاص المرتهن ببيع المرهون له و اختصاصه بثمنه فنقول و بالله التوفيق : .
إذا بيع الرهن في حال حياة الراهن و عليه ديون أخر فالمرتهن أحق بثمنه من بين سائر الغرماء لأن بعقد الرهن ثبت له الاختصاص بالمرهون فيثبت له الاختصاص ببدله و هو الثمن ثم إن كان الدين حالا و الثمن من جنسه فقد استوفاه إن كان في الثمن وفاء بالدين و إن كان فيه فضل رده على الراهن و إن كان أنقص من الدين يرجع المرتهن بفضل الدين على الراهن و إن كان الدين مؤجلا حبس الثمن إلى وقت حلول الأجل لأنه بدل المرهون فيكون مرهونا فإذا حل الأجل فإن كان الثمن من جنس الدين صار مستوفيا دينه و إن كان من خلاف جنسه يحبسه إلى أن يستوفي دينه كله و كذلك إذا بيع الرهن بعد وفاة الراهن و عليه ديون و لم يخلف مالا آخر سوى الرهن كان المرتهن أحق بثمنه من بين سائر الغرماء لما ذكرنا فإن فضل منه شيء يضم الفضل إلى مال الراهن و يقسم بين الغرماء بالحصص لأن قدر الفضل لم يتعلق به حق المرتهن و إن نقص عن الدين يرجع المرتهن بما بقي من دينه في مال الراهن و كان بينه و بين الغرماء بالحصص لأن قدر الفضل من الدين دين لا رهن به فيستوي فيه الغرماء .
و كذلك لو كان على الراهن دين آخر كان المرتهن فيه أسوة الغرماء و ليس له أن يستوفيه من ثمن الرهن لأن ذلك الدين لارهن به فيتضارب فيه الغرماء كلهم .
و أما الحكم الثالث : و هو وجوب تسليم المرهون عند الافتكاك فيتعلق به معرفة وقت وجوب التسليم فنقول : وقت وجوب التسليم ما بعد قضاء الدين يقضي الدين أولا ثم يسلم الرهن لأن الرهن وثيقة و في تقديم تسليمه إبطال الوثيقة و لأنه لو سلم الرهن أولا فمن الجائز أن يموت الراهن قبل قضاء الدين فيصير المرتهن كواحد من الغرماء فيبطل حقه فلزم تقديم قضاء الدين على تسليم الرهن إلا أن المرتهن إذا طلب الدين يؤمر بإحضار الرهن أولا و يقال له : أحضر الرهن إذا كان قادرا على الإحضار من غير ضرر زائد ثم يخاطب الراهن بقضاء الدين لأنه لو خوطب بقضائه من غير إحضار الرهن و من الجائر أن الرهن قد هلك و صار المرتهن مستوفيا دينه من الرهن فيؤدي إلى الاستيفاء مرتين .
و كذلك المشتري يؤمر بتسليم الثمن أولا إذا كان دينا ثم يؤمر البائع بتسليم المبيع لما ذكرنا في كتاب البيوع إلا أن البائع إذا طالبه بتسليم الثمن يقال له : أحضر المبيع لجواز أن المبيع قد هلك و سواء كان عين الرهن قائما في يد المرتهن أو كان في يده بدله بعد أن كان البدل من خلاف جنس الدين نحو ما إذا كان المرتهن مسلطا على بيع الرهن فباعه بخلاف جنس الدين أو قتل الرهن خطأ و قضى بالدية من خلاف جنس الدين فطالبه المرتهن بدينه كان للراهن أن لا يدفع حتى يحضره المرتهن لأن البدل قائم مقام المبدل فكان المبدل قائم و لو كان قائما كان له أن يمنع ما لم يحضره المرتهن فكذلك إذا قام البدل مقامه .
و لو كان الرهن على يدي عدل و جعلا للعدل أن يضعه عند من أحب و قد وضعه عند رجل فطلب المرتهن دينه يجبر الراهن على قضاء الدين و لا يكلف المرتهن بإحضار الرهن لأن قضاء الدين واجب على الراهن على سبيل التضييق إلا أنه رخص له التأخير إلى غاية إحضار الدين عند القدرة على الإحضار و هنا لا قدرة للمرتهن على إحضاره لأن للعدل أن يمنعه عنه لأن للعدل أن يمنعه عنه و لو أخذ من يده جيرا كان غاصبا و إلى هذا المعنى أشار محمد في الكتاب فقال : كيف يؤمر بإحضار شيء لو أخذه كان غاصبا و إذا سقط التكليف بالإحضار زالت الرخصة فيخاطب بقضاء الدين .
و كذلك إذا وضعا الرهن على يد عدل فغاب بالرهن و لا يدري أين هو لا يكلف المرتهن بإحضار الرهن و يجبر الراهن على قضاء الدين لما ذكرنا و لو كان الرهن في يد المرتهن فالتقيا في بلد آخر فطالب المرتهن الراهن بقضاء دينه فإن كان الدين مما له حمل و مؤنة يجبر الراهن على قضاء الدين و لا يجبر المرتهن على إحضار الرهن لما ذكرنا أن قضاء الدين واجب عليه على سبيل التضييق و التأخير إلى وقت الإحضار للضرورة التي ذكرناها عند القدرة على الإحضار من غير ضرر زائد و المرتهن هنا لا يقدر على الإحضار إلا بالمسافرة بالرهن أو بنقله من مكان العقد و فيه ضرر بالمرتهن فسقط التكليف بالإحضار .
و لو ادعى الراهن هلاك الرهن فقال المرتهن : لم يهلك فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن الرهن كان قائما و الأصل في الثابت بقاؤه فالمرتهن يستصحب حالة القيام و الراهن يدعي زوال تلك الحالة و القول قول من يدعي الأصل لأن الظاهر شاهد له و لأن الراهن بدعوى الهلاك يدعي على المرتهن استفاء الدين و هو منكر فكان القول قوله مع يمينه و يحلف على البتات لأنه يحلف على فعل نفسه و هو القبض السابق لأن المرتهن لا يصير مستوفيا بالهلاك لأنه لا صنع له فيه بل بالقبض السابق و ذلك فعله بخلاف ما إذا كان الرهن عند عدل فغاب بالرهن فاختلف الراهن و المرتهن في هلاك الرهن إن هناك يحلف المرتهن على العلم لا على البتات لأن ذلك تحليف على فعل غيره و هو قبض العدل فتعذر التحليف على البتات فيحلف على العلم كما لو ادعى الراهن أنه أوفى الدين وكيل المرتهن و المرتهن ينكر أنه يحلف على العلم لما ذكرنا كذا هذا .
و إن كان الرهن مما لا حمل له و لا مؤنة فالقياس أنه يجبر على قضاء الدين و في الاستحسان لا يجبر ما لم يحضر المرتهن الرهن لأنه ليس في إحضاره ضرر زائد و على هذا الأصل مسائل في الزيادات .
و لو اشترى شيئا و لم يقبضه و لم يسلم الثمن حتى لقيه البائع في غير مصره الذي وقع البيع فيه فطالبه بالثمن و أبى المشتري حتى يحضر المبيع لا يجبر المشتري على تسليم الثمن حتى يحضر البائع المبيع سواء كان له حمل و مؤنة أو لم يكن فرق بين البيع و الرهن .
و وجه الفرق : أن البيع معاوضة مطلقة و المساواة في المعاوضات المطلقة مطلوبة عادة و شريعة و لا تتحقق المساواة من غير إحضار المبيع بخلاف الرهن لأنه ليس بمعاوضة مطلقة و إن كان فيه معنى المعاوضة فلا يلزم اعتبار المساواة بين المرهون و المرهون به و هو الدين في هذا الحكم