أنواع المياه .
و أما بيان أنواع المياه فنقول : المياه أربعة أنواع : الأول : الماء الذي يكون في الأواني و الظروف و الثاني : الماء الذي يكون في الآبار و الحياض و العيون و الثالث : ماء الأنهار الصغار التي تكون لأقوام مخصوصين و الرابع ماء الأنهار العظام كجيحون و سيحون و دجلة و الفرات و نحوها أما بيان حكم كل نوع منها على القسمة : .
أما الأول : فهو مملوك لصاحبه لا حق لأحد فيه لأن الماء و إن كان مباحا في الأصل لكن المباح يملك بالاستيلاء إذا لم يكن مملوكا لغيره كما إذا استولى على الحطب و الحشيش و الصيد فيجوز بيعه كما يجوز بيع هذه الأشياء و كذا السقاؤون يبيعون المياه المحروزة في الظروف به جرت العادة في الأمصار و في سائر الأعصار من غير نكير فلم يحل لأحد أن يأخذ منه فيشرب من غير إذنه و لو خاف الهلاك على نفسه من العطش فسأله فمنعه فإن لم يكن عنده فضل فليس له أن يقاتله أصلا لأن هذا دفع الهلاك عن نفسه بإهلاك غيره لا بقصد إهلاكه و هذا لا يجوز و إن كان عنده فضل ماء عن حاجته فللممنوع أن يقاتله ليأخذ منه الفضل لكن بما دون السلاح كما إذا أصابته مخمصة و عند صاحبه فضل طعام فسأله فمنعه و هو لا يجد غيره و أما الثاني كان الماء الذي يكون في الحياض و الآبار و العيون فليس بمملوك لصاحبه بل هو مباح في نفسه سواء كان في أرض مباحة أو مملوكة لكن له حق خاص فيه لأن الماء في الأصل خلق مباحا لقول النبي عليه الصلاة و السلام : [ الناس شركاء في ثلاث : الماء و الكلا و النار ] و الشركة العامة تقتضي الإباحة إلا أنه إذا جعل في إناء و أحرزه فقد استولى عليه و هو غير مملوك لأحد فيصير مملوكا للمستولي كما في سائر المباحات الغير المملوكة و إذا لم يوجد ذلك بقي على أصل الإباحة الثابتة بالشرع فلا يجوز بيعه لأن محل البيع هو المال المملوك و ليس له أن يمنع الناس من الشفة وهو الشرب بأنفسهم و سقي دوابهم منه لأنه مباح لهم و قد [ روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن منع نبع البئر ] و هو فضل مائها الذي يخرج منها فلهم أن يسقوا منها لشفاههم و دوابهم فأما لزروعهم و أشجارهم فله أن يمنع ذلك لما في الإطلاق من إبطال حقه أصلا إلا إذا كان ذلك في أرض مملوكة فلصاحبها أن يمنعهم عن الدخول في أرضه إذا لم يضطروا إليه بأن و جدوا غيره لأن الدخول إضرارا به من غير ضرورة فله أن يدفع الضرر عن نفسه و إن لم يجدوا غيره واضطروا و خافوا الهلاك يقال له : إما أن تأذن بالدخول و إما أن تعطي بنفسك فإن لم يعطهم و منهم من الدخول لهم أن يقاتلوه بالسلاح ليأخذوا قدر ما يندفع به الهلاك عنهم و الأصل فيه ما روى أن قوما وردوا ماء فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فأبوا و سألوهم أن يعطوهم دلوا فأبوا فقالوا لهم : إن أعناقنا و أعناق مطايانا كادت تقطع فأبوا فذكروا ذلك لسيدنا عمر Bه فقال : هلا و ضعتم فيهم السلاح ؟ بخلاف الماء المحرز في الأواني و الطعام حالة المخمصة لأن الماء هناك مملوك لصاحبه و كذا الطعام فلا بد من مراعاة حرمة الملك لحرمة القتال بالسلاح و لا ملك هناك بل هو على الإباحة الأصلية على ما بينا فإذا منعه أحد ماله حق أخذه قاتله بالسلاح كما إذا منعه ماله المملوك .
و أما الثالث : الماء الذي يكون في الأنهار التي تكون لأقوام مخصوصين فيتعلق به أحكام بعضها يرجع إلى نفس الماء و بعضها يرجع إلى الشرب و بعضها يرجع إلى النهر أما الذي يرجع إلى نفس الماء فهو أنه غير مملوك لأحد لما ذكرنا أن الماء خلق مباح الأصل بالنص و إنما يأخذ حكم الملك بالإحراز بالأواني فلا يجوز بيعه لعدم الملك .
و لو قال : اسقني يوما من نهرك على أن أسقيك يوما من نهر كذا لا يجوز لأن هذا مبادلة الماء بالماء فيكون بيعا أو إجارة الشرب بالشرب و كل ذلك لا يجوز و لا يجوز إجارته لأن الإجارة تمليك المنفعة لا تمليك العين بمنافعها ليست بمملوكة .
و لو استأجر حوضا أو بئرا ليسقي منه ماء لا يجوز لأن هذا استئجار الماء و كذا لو استأجر النهر ليصيد منه السمك لأن هذا استئجار السمك و كذا لو استأجر أجمة ليحتطب لأن هذا استئجار الحطب و الأعيان لا تحتمل الإجارة و ليس لصاحب النهر أن يمنع من الشفة و هو شرب الناس و الدواب و له أن يمنع من سقي الزرع و الأشجار لأن له فيه حقا خاصا و في إطلاق السقي إبطال حقه لأن كل أحد يتبادر إليه فيسقي منه زرعه و أشجاره فيبطل حقه أصلا و لو أذن بالسقي و النهر خاص له جاز لأنه أبطل حق نفسه وأما الذي يرجع إلى الشرب فهو أنه لا يجوز بيعه منفردا بأن باع شرب يوم أو أكثر لأنه عبارة عن حق الشرب و السقي و الحقوق لا تحتمل الإفراد بالبيع و الشراء و لو اشترى به دارا و عبدا و قبضهما لزمه رد الدار و العبد لأنه مقبوض بحكم عقد فاسد فكان واجب الرد كما في سائر البياعات الفاسدة و لا شيء على البائع بما انتفع به من الشرب .
ولو باع الأرض مع الشرب جاز تبعا للأرض و يجوز أن يحمل الشيء تبعا لغيره و إن كان لا يجعله مقصودا بنفسه كأطراف الحيوان و لا يدخل الشرب في بيع الأرض إلا بالتسمية صريحا أو يذكر ما يدل عليه بأن يقول : بعتها بحقوقها أو كل قليل و كثير هو لها داخل فيها و خارج عنها من حقوقها فإن لم يذكر شيئا من ذلك لا يدخل لأن اسم الأرض بصيغته و حروفه لا يدل على الشرب و لا تجوز إجازته مفردا لأن الحقوق لا تحتمل الإجازة على الانفراد كما لا تحتمل البيع و كذا لو جعله أجره في إجازة الدار و العبد و نحو ذلك لا يجوز لأن الأجر في باب الإجارة كالثمن في باب البيع و إنه لا يصلح ثمنا في البياعات فلا يصلح أجر في الإجارات و لو انتفع بالدار و العبد لزمه أجر مثله لأن استوفى منفعة المعقود عليه عقدا فاسدا فيلزمه أجرة المثل كما في سائر الإجارات الفاسدة .
و لو استأجر الأرض مع الشرب جاز تبعا للأرض كما في البيع على ما ذكرنا و لو استأجر أرضا و لم يذكر الشرب و المسيل أصلا فالقياس أن يكون االشرب و المسيل في البيع و في الاستحسان كانا له و يدخلان تحت إجارة الأرض من غير تسمية نصا لوجودها دلالة لأن الإجازة تمليك المنفعة بعوض و لا يمكن الانتفاع بالأرض بدون الشرب فيصير الشرب مذكورا بذكر الأرض دلالة بخلاف البيع لأن البيع تمليك العين للعين تحتمل الملك بدونه و لا تجوز هبته و التصدق به لأن كل واحد منهما تمليك و الحقوق المفردة لا تحتمل التمليك و لا يجوز الصلح عليه بأن صالح من دعوى على شرب سواء كان دعوى المال أو الحق من القصاص في النفس و ما دونه لأن الصلح في معنى البيع إلا أنه يسقط القصاص و يكون الصلح كأنه على العفو لما ذكرنا في كتاب الصلح لأن صورة الصلح أورثت سبهة و القصاص لا يستوي مع الشبهات و تجب على القاتل و الجارح الدية و أرش الجناية و لا تصح تسميته في باب النكاح بأن تزوج امرأة عليه و على الزوج مهر المثل لأن النكاح تصرف تمليك و أنه لا يحتمل التمليك و إذا لم تصح التسمية يجب العوض الأصلي و هو مهر المثل و لا تسميته في الخلع بأن اختلعت المرأة من نفسها عليه و عليها رد المأخوذ من المهر لأن تسميته في معرض التمليك إن لم يصح فهو مال لكونه مرغوبا فيه فمن حيث أنه لم يحتمل التمليك لم يصلح بدل الخلع و من حيث هو مال مرغوب فيه في نفسه لم يبطل ذلك أصلا فيظهر في و جوب رد المأخوذ و هذا أصلي في باب الخلع محفوظ أنه شيء تعذر تسليم البدل المذكور و هو مال مرغوب في نفسه يجب عليها رد المأخوذ من المهر و مورثه لأن الإرث لا يقف على الملك لا محالة بل يثبت في حق المال كما يثبت في الملك كخيار العيب و نحو ذلك و يوصي به حتى لو أوصى لرجل أن يسقي أرضه مدة معلومة من شربه جازت الوصية و تعتبر من الثلث لأن الوصية و إن كان تمليكا لكنها تمليك بعد الموت ألا ترى أن الموصى له لا يملك الموصى به في الحال و إنما يملك بعد الموت فأشبه الميراث فإذا احتمل الإرث احتمل الوصية التي هي أخت الميراث و إذا مات الموصى له تبطل الوصية حتى لا يصير ميراثا لورثة الموصى له لأن الشرب ليس بعين مال و شبه الخدمة ثم الوصية بالخدمة تبطل بموت الموصى له و لا تصير ميراثا فكذلك بالشرب و لو أوصى أن يتصدق بالشرب على المساكين لم يصح لأنه لما لم يحتمل التمليك بالتصدق استوى فيه الحال و الإضافة إلى مابعد الموت بالوصية و يسقى كل واحد من الشركاء على قدر شربه .
و لو اختلفا في قدر الشرب و لا بينه لأحدهم تحكم الأراضي فيكون الشرب بينهم على قدر أراضيهم و لا يعتبر عدد الرؤوس بخلاف الجماعة إذا اختلفوا في طريق مشترك بينهم أنه لا تحكم فيه بقعة الدار بل يعتبر فيه عدد الرؤوس و إنما كان كذلك لا خلاف المقصود من شرب السقي يختلف باختلاف الأراضي و المقصود من الطريق هو المرور و أنه لا يختلف باختلاف الدور .
و لو كان الأعلى منهم لا يشرب مالم يسكر النهر عن الأسفل بأن كانت أرضه ربوة لم يكن له ذلك و لكن يشرب بحصته لأن في سكر النهر حتى يشرب الأعلى منع الأسفل من الشرب تعالى و هذا لا يجوز إلا إذا تراضيا على أن يسكر كل في نوبته فيجوز .
و لو أراد أحد الشركاء أن ينصب على النهر المشترك رحى أو دلالة أو سانية نظر فيه فإن كان لا يضر بالشرب و النهر و كان موضع البناء أرض صاحبه و إلا فلا لأن رقبة النهر و موضع البناء ملك بين الجماعة على الشركة و حق الكل متعلق بالماء و لا سبيل إلى التصرف في الملك المشترك و الحق المشترك إلا ب0رضا الشركاء .
و أما الذي يرجع إلى النهر فالأصل فيه : أن النهر الخاص لجماعة لا يملك أحدهم التصرف فيه من غير رضا الباقين سواء أضر بهم التصرف أو لا لأن رقبة النهر مملوكة لهم و حرمة التصرف في المملوك لا تقف على الإضرار بالملك حتى لو أراد واحد من الشركاء أن يحفر نهرا صغيرا من النهر المشترك فيسوق الماء إلى أرض أحياها ليس لها منه شرب ليس له ذلك إلا برضاهم لأن الحفر تصرف في محل مملوك على الشركة من غير رضاهم فيمنع عنه و كذلك لو كان هذا النهر يأخذ الماء من النهر العظيم فأراد واحد أن يزيد فيها كوة من غير رضا الشركاء ليس له ذلك و إن كان ذلك لا يضرهم لأن ذلك تصرفهم في النهر بإجراء زيادة ماء فيه من غير رضاهم فيمنع عنه .
و لو أراد أن ينصب عليه رحى فإن كان موضع البناء مملوكا له و الماء يدير الرحى عليه سيبه له ذلك و إن كان موضع البناء مشتركا أو تقع الحاجة إلى تعريج الماء ثم الإعادة ليس له ذلك لما فيه من الضرر بالشركاء بتأخير وصول حقهم إليهم بالتعريج كما إذا حفر نهرا في أرضه و أراد أن يعرج الماء إليه ثم يعيده إلى النهر و كذلك لو أراد أحدهم أن ينصب دالية أو سانية فهو على هذا التفصيل و ليس لأحدهم أن يضع قنطرة على هذا النهر من غير رضاهم لأن القنطرة تصرف في حافتي و في هواه و كل ذلك مشترك .
و لو كان النهر بين شريكين له خمس كوى من النهر الأعظم و لأحد الشريكين أرض في أعلى النهر و للآخر أرض في أسفله فأراد صاحب الأعلى أن يسد شيئا من تلك الكوى لما يدخل من الضرر في أرضه ليس له ذلك إلا برضا شريكه لأنه يتضرر به شريكه فلا يجوز له دفع الضرر عن نفسه بإضرار غيره و إن أراد أن يتهايآ حتى يسد في حصته ما شاء لم يكن له ذلك إلا برضا الشريك لما قلنا و إن تراضيا على ذلك زمانا ثم بدا لصاحب الأسفل أن ينقض فله ذلك لأن المراضاة على ما لا يحتمل التمليك تكون مهايأة و أنها غير لازمة .
و لو كان النهر بين رجلين له كوى فأضاف رجل أجنبي إليها كوة و حفر نهرا منه إلى أرضه برضا منهما و مضى على ذلك زمان ثم بدا لأحدهما أن ينقض فله ذلك لأن العارية لا تكون لازمة و كذلك لو مات لورثتهما أن ينقضوا ذلك لما قلنا .
و لو كان نهر بين جماعة يأخذ الماء من النهر الأعظم و لكل رجل نهر من هذا النهر فمنهم من له كوتان و منهم من له ثلاث كوى فقال صاحب الأسفل لصاحب الأعلى : إنكم تأخذون أكثر من نصيبكم لأن دفعة الماء و كثرته في أول النهر و لا يأتينا إلا و هو قليل فأرادوا المهايأة أياما معلومة فليس لهم ذلك و يترك الماء و النهر على حاله لأن ملكهم في رقبة النهر لا في نفس الماء و لو أراد واحد منهم أن يوسع كوة نهره لم يكن له ذلك لأنه يدخل فيها الماء زائدا على حقه فلا يملك ذلك و لو حفر في أسفل النهر جاز و لو زاد في عرضه لا يجوز لأن الكوى من حقوق النهر فيملكه يملك النهر بخلاف الزيادة في العرض .
و لو كان نهر يأخذ الماء من النهر الأعظم بين قوم فخافوا أن ينبثق فأرادوا أن يحصنوه فامتنع بعضهم عن ذلك فإن كان ضررا عاما يجبرون على أن يحصنوه بالحصص و إن لم يكن فيه ضرر عام لا يجبرون عليه لأن الانتفاع متعذر عند عموم الضرر فكان الجبر على التخصيص من باب دفع الضرر عن الجماعة فجاز و إذا لم يكن الضرر عاما يمكن الانتفاع بالنهر فكان الجبر بالتحصيص جبرا عليه لزيادة الانتفاع بالنهر و هذا لا يجوز .
و لو كان نهر لرجل ملاصق لأرض رجل فاختلف صاحب الأرض و النهر في مسناة فالمسناة لصاحب الأرض عند أبي حنيفة C له أن يغرس فيها طينه و لكن ليس له أن يهدمها و عند أبي يوسف و محمد المسناة لصاحب النهر حريما لنهره و له أن يغرس فيها و يلقي طينه و يجتاز فيها و إن لم يكن ملاصقا بل كان بين النهر و الأرض حائل من حائط و نحوه كانت المسناة لصاحب النهر بالإجماع و بعض مشايخنا بنوا هذا الاختلاف على أن النهر هل له حريم أم لا بأن حفر رجل نهرا في أرض موات بإذن الإمام عند أبي حنيفة لا حريم له و عندهما له حريم .
و وجه البناء عليه : أنه لما لم يكن للنهر حريم عند أبي حنيفة كان الظاهر شاهدا لصاحب الأرض فكان القول قوله و لما كان له حريم عندهما كان الظاهر شاهدا لصاحب النهر فيكون القول قوله و بعضهم لم يصححوا البناء و قالوا : لا خلاف أن للنهر حريما في أرض الموات لأن للبئر و للعين حريما فيها بالإجماع و قد روي عليه الصلاة و السلام : [ أنه جعل لهما حريما ] لحاجتهما إلى الحفر لتعذر الانتفاع بها بدون الحفر لأن حاجة النهر إلى الحريم كحاجة البئر و العين بل أشد فكان جعل الشرع للبئر و العين حريما جعلا للنهر من طريق الأولى دل أن البناء على هذا الأصل غير صحيح فكان هذا خلافا مبتدأ .
وجه قولهما : أنه لما كان للنهر حريم بالاتفاق كان الظاهر شاهدا لصاحب النهر فيجب العمل بالظاهر حتى يقوم الدليل بخلافه و لهذا كان القول قول صاحب البئر و العين عند الاختلاف كذا هذا و لأبي حنيفة : أن المسناة إذا كانت مستوية بالأرض فالظاهر أنها ملك صاحب الأرض إذ لو كانت حريما للنهر لكانت مرتفعة لكونها ملقى طينه فكان الظاهر شاهدا لصاحب الأرض إلا أنه لا يملك هدمها لتعلق حق صاحب النهر بها و في الهدم إبطاله و يجوز أن يمنع الإنسان من التصرف في ملكه لتعلق حق الغير كحائط لإنسان عليه جذوع لغيره فأراد هدم الحائط يمنع منه كذا هذا .
ثم كري النهر المشترك على أصحاب النهر و ليس على أصحاب الشفة في الكري شيء لأن هذا من حقوق الملك و لا ملك لأهل الشفة في رقبة النهر بل لهم حق شرب الماء و السقي للدواب فقط .
و اختلف في كيفية الكري عليهم .
قال أبو حنيفة : عليهم أن يكروا من أعلاه و إذا جاوزوا أرض رجل دفع عنه و كان الكري على من بقي .
و قال أبو يوسف و محمد : الكري عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب و الأراضي حتى إن النهر لو كان بين عشرة أنفس أراضيهم عليه لأخر كري فوهة النهر إلى أن يجاوز شرب أولهم بينهم على عشرة أسهم على كل واحد منهم العشر فإذا جاوزوا شرب الأول سقط عنه الكرى و كان على الباقين على تسعة أسهم فإذا جاوزوا شرب الثاني سقط عنه الكري و كان على الباقين على ثمانية أسهم هكذا و هذا عند أبي حنيفة و أما عندهما فالكري بينهم على عشرة أسهم من أعلى النهر إلى أسفله .
وجه قول أبي حنيفة : أن الكري من حقوق الملك و الملك في الأعلى مشترك بين الكل من فوهة النهر إلى شرب أولهم فكانت مؤنته على الكل فأما بعده فلا ملك لصاحب الأعلى فيه إنما له حق و هو حق تسييل الماء فيه فكانت مؤنته على صاحب الملك لا على صاحب الحق و لهذا كانت مؤنة الكري على أصحاب النهر و لا شيء على أهل الشفة لأن الملك لأصحاب النهر و لأهل الشفة حق الشرب و سقي دوابهم و كذا كل من كان له ميل على سطح مملوك لغيره فكانت غرامته على صاحب السطح لا عليه لما قلنا .
و أما الأنهار العظام كسيحون و دجلة و الفرات و نحوها فلا ملك لأحد فيها و لا في رقبة النهر و كذا ليس لأحد حق خاص فيها و لا في الشرب بل هو حق لعامة المسلمين فلكل أحد أن ينتفع بهذه الأنهار بالشفة و السقي و شق النهر منها إلى أرضه بأن أحيا أرضا ميتة بإذن الإمام له أن يشق إليها نهرا من هذه الأنهار و ليس للإمام و لا لأحد منعه إذا لم يضر بالنهر و كذا له أن ينصب عليه رحى و دالية وسانية إذا لم يضر بالنهر لأن هذه الأنهار لم تدخل تحت يد أحد فلا يثبت الاختصاص بها لأحد فكان الناس فيها كلهم على السواء فكان كل واحد بسبيل من الانتفاع لكن بشريطة عدم الضرر بالنهر كالانتفاع بطريق العامة و إن أضر بالنهر فلكل واحد من المسلمين منعه لما بينا أنه حق لعامة المسلمين و إباحة التصرف في حقهم مشروطة بانتفاء الضرر كالتصرف في الطريق الأعظم .
و سئل أبو يوسف عن نهر [ مرو ] و هو نهر عظيم أحيا رجل أرضا كانت مواتا فحفر لها نهرا فوق مرو من موضع ليس يملكه أحد فساق الماء إليها من ذلك النهر فقال أبو يوسف : إن كان يدخل على أهل مرو ضرر في مائهم ليس له ذلك و إن كان لا يضرهم فله ذلك و ليس لهم أن يمنعوه لما قلنا .
و سئل أيضا : إذا كان لرجل من هذا النهر كوى معروفة هل له أن يزيد فيها فقال : إن زاد في ملكه و ذلك لا يضر بأهل النهر فله ذلك و لو كان نهر خاص لقوم يأخذ الماء من هذا النهر فأراد واحد منهم أن يزيد كوة لم يكن له ذلك و إن كان لا يضر بالنهر .
و وجه الفرق : أن الزيادة في الفصل الأول تصرف في حق مشترك بين العامة و حرمة التصرف في حقوق العامة لا تثبت إلا بشريطة الضرر و الزيادة في الفصل الثاني تصرف في ملك مشترك بأخذ زيادة الماء في النهر و التصرف في الملك المشترك لا تقف حرمته على الضرر بالمالك هو الفرق و لو جزر ماء هذه الأنهار عن أرض فليس لمن يليها أن يضمها إلى أرض نفسه لأنه يحتمل أن يعود ماؤها إلى مكانه و لا يجد إليه سبيلا فيحمل على جانب آخر فيضر حتى لو أمن العود أو كان بإزائها من الجانب الآخر أرض موات لا يستضر أحد يحمل الماء عليه فله ذلك و يملكه إذا أحياه بإذن الإمام أو بغير إذنه على الاختلاف المعروف .
و لو احتاجت هذه الأنهار إلى الكري فعلى السلطان كراها من بيت المال لأن منفعتها لعامة المسلمين فكانت مؤنتها من بيت المال لقوله عليه الصلاة السلام : [ الخراج بالضمان ] و كذا لو خيف منها الغرق فعلى السلطان إصلاح مسناتها من بيت المال لما قلنا و الله سبحانه و تعالى أعلم