ما يصنع بمال المفقود .
فصل : و أما بيان ما يصنع بماله فالذي يصنع أنواع : منها أن القاضي يحفظ ماله يقيم من ينصبه للحفظ لأنه مال لا حافظ له لعجز صاحبه عن الحفظ فيحفظ عليه القاضي نظرا له كما يحفظ مال الصبي و المجنون الذي لا ولي لهما .
و منها : أنه يبيع من ماله ما يتسارع إليه الفساد و يحفظ ثمنه لأن ذلك حفظ له معنى و لا يأخذ ماله الذي في يد مودعه و مضاربه ليحفظه لأن يدهما يد نيابة عنه في الحفظ فكان محفوظا بحفظه معنى فلا حاجة إلى حفظ القاضي و منها : أنه ينفق على زوجته من ماله إن كان عالما بالزوجية لأن اللإنفاق عليها إحياء لها فكان من باب حفظ ملك الغائب عليه عند عجزه عن الحفظ بنفسه فيملكه كما يملك حفظ ماله .
و منها : أنه ينفق من ماله على أولاده الصغار الذكور و الإناث و على أولاده الفقراء الزمنى من الذكور و الفقيرات من الإناث سواء كن زمنى أو لا و على و الديه المحتاجين إن كان عالما بالنسب لأن نفقة أولاده إنما تجب بحكم الجزئية و البعضية إحياء لهم و إحياء نفسه واجب فكذا إحياء جزئه و كله فكان الإنفاق عليهم من ماله إحياء لهم معنى و هو عاجز عن ذلك بنفسه فيقوم به القاضي .
و إن لم يعلم القاضي بالزوجية و النسب فأحضروا رجلا في يده مال وديعة للمفقود أو مضاربة أو عليه دين له فأقر الرجل بذلك و بالزوجية و النسب أنفق عليهم من ذلك المال لأن للمرأة أن تأخذ نفقتها من مال زوجها إذا ظفرت به قدر ما يكفيها قال النبي صلى الله عليه و سلم لامرأة أبي سفيان : [ خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك و ولدك بالمعروف ] فإذا أقر أن هذا ماله و هذه امرأته ثبت لها حق الأخذ و كذا في الأولاد يأخذ البعض كفايته من مال البعض عند الحاجة فإذا أقر بالنسب و المال فقد ثبت لهم حق الأخذ .
و هذا قول أصحابنا الثلاثة Bهم و عند زفر C ليس للقاضي ذلك لكونه قضاء على الغائب .
و نحن نقول : ليس هذا من باب القضاء على الغائب بل هو من باب النظر للغائب و للقاضي ولاية النظر للغائب لما علم على ما ذكرنا في كتاب النفقات .
و لو أخذ القاضي منهم كفيلا كان حسنا لجواز أن يحضر المفقود فيقيم البينة على أنه كان طلق امرأته أو كان أعطاهم النفقة معجلة هذا إذا أقر الرجل بهما فأما إذا أنكرهما جميعا أو أقر بأحدهما دون الآخر فأقاموا البينة على ذلك لا تسمع بينتهم لأنه يكون قضاء على الغائب و له من غير أن يكون عنه و له خصم حاضر لأن المودع و المضارب و الغريم ليسوا خصماء عن الغائب في إثبات الزوجية و إيجاب النفقة عليه و كذا الأولاد و الوالدون و المرأة ليسوا خصماء للغائب في إثبات ملك المال له و كل ذلك لا يجوز فإن أعطوهم شيئا فهو من مال أنفسهم لأنهم متطوعون في ذلك و لا ينفق من ماله على من سواهم من ذوي الأرحام لأن نفقتهم ليست بعلة الجزئية و البعضية لعدمها بل بطريق الصلة و البر بهم و الإحسان إليهم .
ألا ترى أنهم ليس لهم أن يمدوا أيديهم فيأخذوا من ماله عند حاجتهم إليه بخلاف الوالدين و المولودين فكان الإنفاق من ماله قضاء من ماله قضاء على الغائب و الأصل أن كل مال ثبت حق الأخذ منه للمنفق عليه من غير قضاء القاضي له أن ينفق منه و ما لا يثبت حق الأخذ منه إلا بقضاء ليس للقاضي أن ينفق منه ثم القاضي إنما ينفق من مال المفقود على ما ذكرنا إذا كان المال دراهم أو دنانير أو طعاما أو ثيابا هي من جنس كسوتها .
فأما إذا كان من جنس آخر من العروض و العقار فلا ينفق لأنه لا يمكنه الإنفاق إلا بالبيع و ليس للقاضي أن يبيع العقار و العروض على الغائب بالإجماع لأن البيع على الغائب في معنى الحجر عليه و الحجر على الحر البالغ لا يجوز عند أبي حنيفة و عندهما إن جاز على الحاضر لكن لا يجوز على الغائب لأن الجواز على الحاضر لدفع الظلم بالامتناع عن قضاء الدين مع القدرة على القضاء من ثمن العين و لم يتحقق الظلم منه حالة الغيبة لما لم يعرف منه الامتناع من الانفاق فافترق الحالان و إنما ملك بيع ما يتسارع إليه الفساد لأن ذلك و إن كان بيعا صورة فهو حفظ و إمساك له معنى و القاضي يملك حفظ مال المفقود و أما الأب فليس له أن يبيع العقار في نفقة الغائب من غير إذن القاضي بالإجماع و أما المنقول فله أن يبيعه عند أبي حنيفة من غير أمر القاضي و عندهما : لا يبيع المنقول كما لا يبيع العقار لما علم في كتاب النفقات و الله تعالى أعلم