الشرائط المصححة للدعوى .
فصل : و أما الشرائط المصححة للدعوى فأنواع : .
منها : عقل المدعي و المدعى عليه فلا تصح دعوى المجنون و الصبي الذي لا يعقل و كذا لا تصح الدعوى عليهما حتى لا يلزم الجواب و لا تسمع البينة لأنها مبنيان على الدعوى الصحيحة و منها أن يكون المدعي معلوما لتعذر الشهادة و القضاء بالمجهول و العلم بالدعوى إنما يحصل بأحد أمرين : إما الإشارة و إما التسمية .
و جملة الكلام فيه : أن المدعى لا يخلو : إما أن يكون عينا و إما أن يكون دينا فإن كان عينا فلا يخلو : أما إن كان محتملا للنقل أو لم يكن محتملا للنقل فإن كان محتملا للنقل فلا بد من إحضاره لتمكن الإشارة إليه عند الدعوى و الشهادة فيصير معلوما بها إلا إذا تعذر نقله كحجر الرحى و نحوه فإن شاء القاضي استحضره و إن شاء بعث إليه أمينا و إن لم يكن محتملا للنقل و هو العقار فلا بد من بيان حده ليكون معلوما لأن العقار لا يصير معلوما إلا بالتحديد ثم لا خلاف في أنه لا يكتفي فيه بذكر حد واحد و كذا بذكر حدين عند أبي حنيفة و محمد خلافا لأبي يوسف و هل تقع الكفاية بذكر ثلاثة حدود قال علمائنا الثلاثة Bهم : نعم و قال زفر Bه لا و هي مسألة كتاب الشروط و كذا لا بد من بيان موضع المحدود و بلده ليصير معلوما .
هذا إذا كان المدعى عينا فإن كان دينا فلا بد من بيان جنسه و نوعه و قدره و صفته لأن الدين لا يصير معلوما إلا ببيان هذه الأشياء .
و منها : أن يذكر المدعي في دعوى العقار أنه في يد المدعى عليه لأن الدعوى لا بد و أن تكون على خصم و المدعي عليه .
إنما يصير خصما إذا كان بيده فلا بد و أن يذكر أنه في يده ليصير خصما فإذا ذكر و أنكر المدعى عليه و لا بينه للمدعي فإنه يحلف من غير الحاجة إلى إقامة البينة من المدعي على أنه في يد المدعى عليه ولو كان له بينة لا تسمع حتى يقيم البينة على أنه في يد هذا المدعى عليه ووجه الفرق : أن من الجائز أن يكون صاحب اليد غيره و اصطلحا على ذلك فلو سمع القاضي بينته لكان قضاء على الغائب و هذا المعنى هنا متعذر لأنه لا قضاء هنا أصلا لأن المدعى عليه لا يخلو إما أن يحلف و إما أن ينكل فإن حلف فالأمر فيه ظاهر و إن نكل فكذا لأن القاضي لا يقضي بشيء و إنما يأمره بأن يخرج من الدار و يخلي بينها و بين المدعي .
و منها : أن يذكر أنه يطالبه به لأن حق الإنسان إنما يجب إيفاؤه بطلبه و منها أن يكون بلسانه عينا إذا لم يكن به عذر إلا إذا رضي المدعى عليه بلسان غيره عند أبي حنيفة و عندهما ليس بشرط حتى لو و كل المدعي بالخصومة من غير عذر و لم يرض بعضهم المدعى عليه لا تصح دعواه عنده حتى لا يلزم الجواب و لا تسمع منه البينة و عندهما تصح حتى يلزم و تسمع لما علم في كتاب الوكالة و منها مجلس الحكم فلا تسمع الدعوى إلا بين يدي القاضي كما لا تسمع الشهادة إلا بين يديه .
و منها : حضرة الخصم فلا تسمع الدعوى و البينة إلا على خصم حاضر إلا إذا التمس المدعي بذلك كتابا حكيما للقضاء به فيجيبه القاضي إليه فيكتب إلى القاضي الذي للغائب في بلده بما سمعه من الدعوى و الشهادة ليقضي عليه عليه السلام هذا عندنا و عند الشافعي C : حضره المدعى عليه ليست بشرط لسماع الدعوى و البينة و القضاء فيجوز القضاء على الغائب عنده و عندنا لا يجوز .
وجه قول الشافعي C : أنه ظهر صدق المدعي في دعواه على الغائب بالبينة فيجوز القضاء ببينته قياسا على الحاضر و دلالة الوصف أن دعوى المدعي و إن كان خيرا يحتمل الصدق و الكذب لكن يرجح جانب صدقه على جانب الكذب في خبره بالبينة فيظهر صدقه في دعواه كما إذا كان المدعى عليه حاضرا يحققه أن المدعى عليه لا يخلو إما أن يكون مقرا وإما أن يكون منكرا فإن كان مقرا فكان المدعي صادقا في دعواه فلا حاجة إلى القضاء و إن كان منكرا فظهر صدقه بالبينة فكان القضاء بالبينة قضاء بحجة مظهرة للحق فجاز .
و لنا : ما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لسيدنا علي Bه : [ لا تقض لأحد الخصمين مالم تسمع كلام الآخر ] نهاه E عن القضاء لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر و القضاء بالحق للمدعي حال غيبة المدعى عليه قضاء لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر فكان منهيا عنه لأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق قال الله تبارك و تعالى جل شأنه : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } .
و قال E لعمرو بن العاص : [ اقض بين هذين قال : أقضي و أنت حاضر بيننا فقال E اقضي بينهما بالحق ] و الحق اسم للكائن الثابت و لا ثبوت مع احتمال العدم و احتمال العدم ثابت في البينة لا حتمال الكذب فلم يكن الحكم بالبينة حكما بالحق فكان ينبغي أن لا يجوز الحكم بها أصلا إلا أنها جعلت حجة لضرورة فصل الخصومات و المنازعات و لم يظهر حالة الغيبة و قد خرج الجواب عن كلامه .
ثم إنما لا يجوز القضاء عندنا على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضر فإن كان يجوز لأنه يكون قضاء على الحاضر حقيقة و معنى و الخصم الحاضر و الوكيل و الوصي و الوارث و من كان بينه و بين الغائب اتصال فيما و قع فيه الدعوى لأن الوكيل و الوصي نائبان عنه بصريح النيابة و الوارث نائب عنه شرعا و حضرة النائب كحضرة المنوب عنه فلا يكون قضاء على الغائب معنى .
و كذا إذا كان بين الحاضر و الغائب اتصال فيما وقع فيه الدعوى بأن كان ذلك سببا لثبوت حق الغائب لأن الحاضر يصير مدعى عليه فيما هو حقه و من ضرورة ثبوت حقه ثبوت حق الغائب فكان الكل حق الحاضر لأن كل ما كان من ضرورات الشيء كان ملحقا به فيكون قضاء على الحاضر حتى إن من ادعى على الآخر أنه أخوه و لم يدع ميراثا و لا نفقة لا تسمع دعواه لأنه دعوى على الغائب لأنه يريد إثبات نسبه من أب المدعى عليه و أمه و هما غائبان و ليس عنهما خصم حاضر لأنه لم توجد الإنابة و لا حق يقضي به على الوارث ليكون ثبوت النسب من الغائب من ضروراته تبعا له فلا تسمع دعواه أصلا .
و لو ادعى عليه ميراثا أو نفقة عند الحاجة تسمع دعواه و تقبل بينته لأنه دعوى حق مستحق على الحاضر و هو المال و لا يمكنه إثباته إلا بإثبات نسبه من الغائب فينصب خصما عن الغائب ضرورة ثبوت الحق المستحق تبعا له و لهذا لو أقر بالنسب من غير دعوى المال لا يصح إقراره بخلاف ما لو ادعى على رجل أنه أبوه أو ابنه أنه يصح من غير دعوى المال الحاضر لأنه ليس فيه حمل نسب الغير على الغير فكان دعوى على الحاضر ألا ترى أنه لو أقر به يصح إقراره بخلاف الإقرار بالأخوة .
و على هذا تخرج المسائل المخمسة و توابعها على ما نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى .
و منها : عدم التناقض في الدعوى و هو أن لا يسبق منه ما يناقض دعواه لا ستحالة و جود الشيء مع ما يناقضه و ينافيه حتى لو أقر بعين في يد لرجل فأمر القاضي بدفعها إليه ثم ادعى أنه كان اشتراها منه قبل ذلك لا تسمع دعواه لأن إقراره بالملك لغيره للحال يمنع الشراء منه قبل ذلك لأن الشراء يوجب الملك للمشتري فكان مناقضا للإقرار و الإقرار يناقضه فلا يصح .
و كذا لو لم يقر و نكل عن اليمين فقضى عليه بنكوله ثم ادعى أنه كان اشتراه منه قبل ذلك لا تسمع دعواه و لا تقبل بينته في ظاهر الرواية لأن النكول بمنزلة الإقرار .
و روى عن أبي يوسف : أنه تسمع دعواه و تقبل بينته و هذا إذا ادعى أنه اشتراه منه قبل الإقرار و النكول فأما إذا ادعى أنه اشتراه منه بعد ذلك تسمع دعواه بلا خلاف لأن الإقرار بالملك لفلان لا يمنع الشراء منه بعد ذلك لا نعدام التناقص لا ختلاف الزمان .
و لو قال : هذا لفلان اشيريته منه تسمع منه موصولا قال ذلك أو مفصولا لأنه لم يسبق منه مايناقص الدعوى بل سبق منه ما يقررها لأن سابقة الملك لفلان شرط تحقق الشراء منه .
و لو قال : هذا العبد لفلان اشتريته منه موصولا فالقياس أن لا تصح دعواه و في الاستحسان تصح و لو قال ذلك مفصولا لا تصح قياسا و استحسانا .
وجه القياس : أن قوله : هو لفلان إقرار منه يكون ملكا لفلان في الحال فهذا يناقص دعوى الشراء لأن الشراء يوجب كونه ملكا للمشتري فلا يصح كما إذا قال مفصولا .
وجه الاستحسان : أن قوله هو لفلان اشتريته منه موصولا معناه في متعارف الناس و عاداتهم أنه كان لفلان فاشتريته منه قال الله D : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } أي إذ كنتم قليلا إذ لم يكونوا قليلا و قت نزول الآية الشريفة فيحمل عليه تصحيحا له و لا عادة جرت بذلك في المفصول فحمل على حقيقته و هو بحقيقته مناقضة فلا تسمع .
هذا إذا بين أنه اشتراه قبل الإقرار فإن بين أنه اشتراه بعده تسمع دعواه لا نعدام التناقض على بينا و كذلك لو لم يبين و ادعى الشراء مبهما بثمن معلوم تسمع لأنه لما لم يذكر الوقت يحمل على حال تصحيحا له هذا إذا قال : هذا الشيء لفلان و لم يقل : لا حق لي فيه فإن قال : لا حق لي فيه ثم ادعى الشراء بعد ذلك لا تسمع دعواه لأن قوله لا حق لي فيه لتأكيد البراءة إلا إذا تبين أنه اشتراه بعد الإقرار فتسمع لما قلنا .
و لو ادعى على رجل دينا فقال المدعى عليه لم يكن لك علي شيء قط فأقام المدعي البينة و قضى القاضي بذلك ثم أقام المدعى عليه البينة أنه كان قد قضاه إياه تسمع دعواه و تقبل بينته لجواز أنه لم يكن عليه شيء و إنما قضاه إياه لدفع الدعوى الباطلة .
و لو قال : لم يكن لك علي شيء و لا أعرفك فأقام المدعي البينة و قضى القاضي ببينته ثم أقام المدعى عليه البينة أنه كان قضاه لا تسمع دعواه و لا تقبل بينته لأن قوله : لا أعرفك يناقض دعوى القضاء لأن الظاهر أنه لا يقضي إلا بعد معرفته إياه فكان في دعوى القضاء مناقضا فلا تسمع .
و لو ادعى على رجل أنه اشترى منه بعينه و العبد في يد البائع فأنكر البائع البيع فأقام المشتري البينة و قضى القاضي به ثم وجد به عيبا فأراد أن يرده على البائع فأقام البائع البينة على أن المشتري كان أبرأه عن كل عيب لم تسمع دعواه و لا تقبل بينته لأن إنكار البيع يناقض دعوى الإبراء عن العيب لأن الإبراء يقتضي و جود البيع فكان مناقضا في دعوى الإبراء فلا تسمع و على هذا مسائل : و الأصل في هذا الباب أنه إذا سبق من المدعي ما يناقص دعواه يمنع صحة الدعوى إلا في النسب و العتق فإن التناقض فيهما غير معتبر بأن قال لمجهول النسب : هو ابني من الزنا ثم قال : هو ابني من النكاح تسمع دعواه و كذا مجهول النسب إذا أقر لرجل ثم ادعى أنه حر الأصل تسمع دعواه حتى تقبل بينته لأن بيان النسب مبني على أمر خفي و هو العلوق منه إذا هو مما يغلب خفاءه على الناس فالتناقض في مثله غير معتبر كما إذا اختلعت امرأة زوجها على مال ثم ادعت أنه كان طلقها ثلاثا قبل الخلع و أقامت البينة على ذلك تسع دعواها و تقبل بينتها لما قلنا كذا هذا و كذا الرق و الحرية و منها أن يكون المدعى .
مما يحتمل للثبوت لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة تكون دعوى كاذبة حتى لو قال لمن لا يولد مثله لمثله : هذا ابني لا تسمع دعواه لا ستحالة أن يكون الأكبر سنا ابنا لمن هو أصغر سنا منه و كذا إذا قال لمعروف النسب من غير : هذا ابني و الله تعالى أعلم