الكلام في اليمين .
الكلام في اليمين في مواضع : في بيان أن اليمين واجبه و في بيان شرائط الوجوب و في بيان الوجوب و في بيان كيفية الوجوب و في بيان حكم أدائه و في بيان حكم الامتناع عن تحصيل الواجب أما دليل الوجوب فالحديث المشهور و هو قوله عليه الصلاة و السلام : [ البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه ] و على كلمة إيجاب .
و أما شرائط الوجوب فأنواع : .
منها : الإنكار لأنها وجبت للحاجة إلى دفع التهمة و هي تهمة الكذب في الإنكار فإذا كان مقرا لا حاجة لأن الإنسان لا يتهم في الإقرار على نفسه .
ثم الإنكار نوعان : نص و دلالة أما النص فهو صريح الإنكار و أما الدلالة فهو السكوت عن جواب المدعي من غير آفة لأن الدعوى أوجبت الجواب عليه و الجواب نوعان : إقرار و إنكار فلا بد من حمل السكوت على أحدهما و الحمل على الإنكار أولى لأن العاقل المتدين لا يسكت عن إظهار الحق المستحق لغيره مع قدرته عليه و قد يسكت عن إظهار الحق لنفسه مع قدرته عليه فكان حمل السكوت على الإنكار أولى فكان السكوت إنكارا دلالة .
و لو لم يسكت المدعى عليه و لم يقر و لكنه قال : لا أقر و لا أنكر و أصر على ذلك اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : هذا إنكار و قال بعضهم : هذا إقرار و الأول أشبه لأن قوله لا انكر إخبار عن السكوت عن الجواب و السكوت إنكار على ما مر .
و منها : الطلب من المدعي لأنها وجبت على المدعى عليه حقا للمدعي و حق الإنسان قبل غيره واجب الإيفاء عند طلبه ومنها عدم البينة الحاضرة عند أبي حنيفة و عندهما ليس بشرط حتى لو قال المدعي لي بينة حاضرة ثم أراد أن يحلف المدعي عليه ليس له ذلك عنده و عندهما له ذلك وجه قولهما أن اليمين حجة المدعي كالبينة و لهذا لا تجب إلا عند طلبه فكان له ولاية استيفاء أيهما شاء و لأبي حنيفة : أن البينة في كونها حجة المدعي حجة كالأصل لكونها كلام غير الخصم و اليمين كالخلف عليها لكونها كلام الخصم فلهذا لو أقام البينة ثم أراد استحلاف المدعي عليه ليس له ذلك و القدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف .
و منها : أن لا يكون المدعي حقا لله عز و جل خالصا فلا يجوز الاستحلاف في الحدود الخالصة حقا لله عز و جل كحد الزنا و السرقة و الشرب لأن استحلاف لأجل النكول و لا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لأنه بذل عند أبي حنيفة C و عندهما إقرار فيه شبهة العدم و الحدود لا تحتمل البذل و لا تثبت بدليل فيه شبهة لهذا لا تثبت بشهادة النساء و الشهادة على الشهادة إلا أن في السرقة يحلف على أخذ المال و كذا لا يمين في اللعان لأنه جار مجرى الحد .
و أما حد القذف فيجري فيه الاستحلاف في ظاهر الرواية لأنه ليس من الحدود المتمحضة حقا لله تعالى بل يشوبه حق العبد فأشبه التعزيز و في التعزيز يحلف كذا هذا و يجري الاستحلاف في القصاص في النفس و الطرف لأن القصاص خالص حق العبد .
و منها : أن يكون المدعي محتملا للإقرار به شرعا بأن كان لو أقر به لصح إقراره به فإن لم يكن لم يجر فيه الاستحلاف حتى إن من ادعى على رجل أنه أخوه و لم يدع في يده ميراثا فأنكر لا يحلف لأنه لو أقر له بالأخوة لم يجز إقراره لكونه إقرارا على غيره و هو أبوه و لو ادعى أنه أخوه و إن في يده مالا من تركة أبيه و هو مستحق لنصفه بإرثه من أبيه فأنكر يحلف لأجل الميراث لا للأخوة لأنه لو أقر أنه أخوه صح إقراره في حق الإرث حتى يؤمر بتسليم نصف الميراث إليه و لم يصح في حق النسب حتى لا يقضى بأنه أخوه .
و على هذا عبد في يد رجل ادعاه رجلان فأقر به لأحدهما و سلم القاضي العبد إليه فقال الآخر : لا بينة لي و طلب من القاضي تحليف المقر لا يحلفه في عين العبد لأنه لو أقر به لكان إقراره باطلا فإذا أنكر لا يحلف إلا أن يقول الذي لم يقر له : إنك أتلفت على العبد بإقرارك به لغيري فاضمن قيمته لي يحلف المقر بالله تعالى ما عليه رد قيمة ذلك العبد على هذا المدعي و لا رد شيء منها لأنه لو أقر بإتلافه لصح و ضمن القيمة فإذا أنكر يستحلفه .
و لو ادعى رجل أنه زوجه ابنته الصغيرة و أنكر الأب لا يحلف عند أبي حنيفة C لطريقين : .
أحدهما : أنه أقر به لا يصح إقراره به عنده فإذا أنكر لا يستحلف .
و الثاني : أن الاستحلاف لا يجري في النكاح و عندهما يجري لكن عند أبي يوسف يحلف على السبب و عند محمد على الحاصل و الحكم على ما نذكره في موضعه .
هذا إذا كانت صغيرة عند الدعوى فإن كانت كبيرة و ادعى أن أباها زوجها إياه في صغرها لا يحلف عند أبي حنيفة لما قلنا من الطريقين و عندهما لا يحلف أيضا لأحد طريقين و هو أنه لو أقر عليها في الحال لا يصح إقراره و لكن تحلف المرأة عندهما لأنها لو أقرت لصح إقرارها و عندهما الاستحلاف يجري فيه لكن عند أبي يوسف تحلف على السبب بالله عز و جل ما تعلم أن اباها زوجها و هي صغيرة إلا عند التعرض فتحلف على الحكم كما قال محمد .
و لو ادعت امرأة على رجل أنه زوجها عبده فأنكر المولى لايحلف عند أبي حنيفة C لطريقين : .
أحدهما : أنه لو أقر عليه لا يصح إقراره .
و الثاني : أنه لا استحلاف في النكاح عنده و عندهما لا يحلف أيضا لكن لطريق واحد و هو أنه لو أقر عليه لا يصح إقراره و لو ادعى رجل على رجل أنه زوجه أمته لا يحلف المولى عند أبي حنيفة و عندهما يحلف لطريق واحد و هو أن الاستحلاف لا يجري في النكاح عنده و عندهما يجري .
و منها : أن يكون المدعي مما يحتمل البذل عند أبي حنيفة مع كونه محتملا للإقرار و عندهما أن يكون مما يحتمل الإقرار سواء احتمل البذل أو لا .
و على هذا يخرج اختلافهم في الأشياء السبعة أنها لا يجري فيها الاستحلاف عند أبي حنيفة و هي النكاح و الرجعة و الفيء في الإيلاء و النسب و الرق و الولاء و الاستيلاد أما النكاح فهو أن يدعي رجل على امرأة أنها امرأته أو تدعي امرأة على رجل أنه زوجها و لا بينة للمدعي و طلب يمين المنكر .
و أما الرجعة فهو أن يقول الزوج للمطلقة بعد انقضاء عدتها : قد كنت راجعتك و أنكرت المرأة و عجز الزوج عن إقامة البينة فطلب يمينها و أما الفيء في الإيلاء فهو أن يكون الرجل آلى من امرأته و مضت أربعة أشهر فقال : قد كنت فئت إليك بالجماع فلم تبيني فقالت : لم تفىء إلي و لا بينة للزوج فطلب يمينها .
و أما النسب فنحو أن يدعي على رجل أنه أبوه أو ابنه فأنكر الرجل و لا بينة له و طلب يمينه و أما الرق فهو أن يدعي على رجل أنه عبده فأنكر و قال : أنه حر الأصل لم يجر عليه رق أبدا و لا بينة للمدعي فطلب يمينه .
و أما الولاء فإنه يدعي على امرأة أنه أعتق أباها و إن أباها مات و ولاؤه بينهما نصفان فأنكرت أن يكون أعتقه و أن يكون ولاؤه ثابتا منه و لا بينة للمدعي فطلب يمينها على ما أنكرت من الولاء .
و أما الاستيلاد فهو : أن تدعي أمة على مولاها فتقول : أنا أم ولد لمولاي و هذا ولدي فأنكر المولى لا يجري الاستحلاف في هذه المواضع السبعة عند أبي حنيفة و عندهما يجري و الدعوى من الجانبين تتصور في الفصول الستة و في الاستيلاد لا يتصور إلا من جانب واحد و هو جانب الأمة فأما جانب المولى فلا تتصور الدعوى لأنه لو ادعى لثبت بنفس الدعوى و هذا بناء على ما ذكرنا أن النكول بذل عنه و هذه الأشياء لا تحتمل البذل و عندهما إقرار فيه شبهة و هذه الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة .
وجه قولهما : أن نكول المدعى عليه دليل كونه كاذبا في إنكاره لأنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين الصادقة فكان النكول إقرارا دلالة إلا أنه دلالة قاصرة فيها شبهة العدم و هذه الأشياء تثبت بدليل قاصر فيه شبهة العدم ألا ترى أنها تثبت بالشهادة على الشهادة و شهادة رجل و امرأتين .
و لأبي حنيفة : أن النكول يحتمل الإقرار لما قلتم و يحتمل البذل لأن العاقل الدين كما يتحرج عن اليمين الكاذبة يتحرج عن التغيير و الطعن باليمين ببذل المدعي إلا أن حمله على البذل أولى لأنا لو جعلناه إقرارا لكذبناه لما فيه من الإنكار و لو جعلناه بذلا لم نكذبه لأنه يصير في التقدير كأنه قال : ليس هذا لك و لكني لا أمنعك عنه و لا أنازعك فيه فيحصل المقصود من غير حاجة إلى التكذيب و إذا ثبت أن النكول بذل و هذه الأشياء لا تحتمل البذل فلا تحتمل النكول فلا تحتمل التحليف لأنه إنما يستحلف المدعي لينكل المدعى عليه فيقضى عليه فإذا لم يحتمل النكول لا يحتمل التحليف