حكم الامتناع عن تحصيله .
فصل : و أما حكم الامتناع عن تحصيله فالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فإن كان ذلك في دعوى المال يقضى عليه بالمال عندنا لكن ينبغي للقاضي أن يقول له : إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات فإن حلفت و إلا قضيت عليك لجواز أن يكون المدعى عليه ممن لا يرى القضاء بالنكول أو يكون عنده أن القاضي لا يرى القضاء بالنكول أو لحقه حشمة القضاء القضاة و مهابة المجلس في المرة الأولى فكان الاحتياط أن يقول له ذلك فإن نكل عن اليمين بعد العرض عليه ثلاثا فإن القاضي يقضي عليه عندنا .
و عند الشافعي C : لا يقضي بالنكول و لكن برد اليمين إلى المدعي فيحلف فيأخذ حقه .
احتج الشافعي C بقول النبي عليه الصلاة و السلام : البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه جعل البينة حجة المدعي و اليمين حجة المدعى عليه و لم يذكر عليه الصلاة و السلام النكول فلو كان حجة المدعي لذكره و المعقول أنه يحتمل أنه نكل لكونه كاذبا في الإنكار فاحترز عن اليمين الكاذبة و يحتمل أنه نكل مع كونه صادقا في الإنكار تورعا عن اليمين الصادقة فلا يكون حجة القضاء مع الشك و الاحتمال لكن يرد اليمين إلى المدعي ليحلف فيقضى له لأنه ترجع جنبة الصدق في دعواه بيمينه و قد ورد الشرع برد اليمين إلى المدعي فإنه روى أن سيدنا عثمان Bه ادعى على المقدار مالا بين يدي سيدنا عمر Bه فأنكر المقداد و توجهة عليه اليمين فرد اليمين على سيدنا عثمان و سيدنا عمر جوز ذلك .
و لنا : ما روى أن شريحا قضى على رجل بالنكول فقال المدعى عليه : أنا أحلف فقال شريح : مضى قضائي و كان لا تخفى قضاياه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا منهم على جواز القضاء بالنكول و لأنه ظهر صدق المدعي في دعواه عند نكول المدعى عليه فيقض له كما لو أقام البينة .
و طلالة الوصف أن المانع من ظهور الصدق في خبره إنكاره المدعى عليه و قد عارضه النكول لأنه كان صادقا في انكاره لما نكل فزال المانع للتعارض فظهر صدقه في دعواه .
و قوله : يحتمل أنه نكل تورعا عن اليمين الصادقة قلنا هذا احتمال نادر لأن اليمين الصادقة مشروعة فالظاهر أن الإنسان لا يرضى بفوات حقه تحرزا عن مباشرة أمر مشروع و مثل هذا الاحتمال ساقط الاعتبار شرعا ألا يرى أن البينة حجة القضاء بالاجماع و إن كانت محتملة في الجملة لأنها خبر من ليس بمعصوم عن الكذب لكن لما كان الظاهر هو الصدق سقط اعتبار احتمال الكذب كذا هذا .
و أما الحديث فنقول : البينة حجة المدعي و هذا لا ينفي أن يكون غيرها حجة .
و قوله : لو كان حجة لذكره .
قلنا : يحتمل أنه يذكره لم يذكره لما قلتم و يحتمل أنه لم يذكره نصا مع كونه حجة تسليطا للمجتهدين على الاجتهاد ليعرف كونه حجة بالرأي و الاستنباط فلا يكون حجة مع الاحتمال وأما رد اليمين على المدعي فليس بمشروع لما قلنا من قبل .
و أما الحديث المقداد : فلا حجة فيه لأن فيه ذكر الرد من نكول المدعى عليه و هو خارج عن أقاويل الكل فكان مؤولا عند الكل ثم تأويله أن المقداد Bه ادعى الإيفاء فأنكر سيدنا عثمان Bه فتوجهت اليمين عليه و نحن به نقول هذا إذا نكل عن اليمين في دعوى المال فإن كان النكول في دعوى القصاص فنقول : لا يخلو إما أن تكون الدعوى في القصاص في النفس و إما أن تكون فيما دون النفس فإن كان في النفس فعند أبي حنيفة لا يقضي فيه لا بالقصاص و لا بالمال لكنه يحبس حتى يقر أو يحلف أبدا و إن كان الدعوى في القصاص في الطرف فإنه يقضى بالقصاص في العمد و بالدية في الخطأ و عندهما لا يقضى بالقصاص في النفس و الطرف جميعا و لكن يقضى بالأرش و الدية فيهما جميعا بناء على أن النكول بذل عند أبي حنيفة C و الطرف تحتمل البذل و الإباحة في الجملة فإن من وقعت في يده آكله و العياذ باالله تعالى فأمر غيره بقطعها يباح له قطعها صيانة للنفس و به تبين أن الطرف يسلك مسلك الأموال لأنه خلق وقاية للنفس كالمال .
فأما النفس فلا تحتمل البذل و الإباحة بحال و كذا المباح له القطع إذا قطع لا ضمان عليه و المباح له القتل إذا قتل يضمن فكان الطرف جاريا مجرى المال بخلاف النفس فأمكن القضاء بالنكول في الطرف دون النفس فكان القياس أن لا يستخلف في النفس عنده كما لا يستخلف في الأشياء السبعة لأن الاستحلاف للتوسل إلى المقصود المدعى و هو إحياء حقه بالقضاء بالنكول و لا يقضي فيها بالنكول أصلا عنده فكان ينبغي أن لا يستخلف إلا أنه استحسن في الاستحلاف فيها لأن الشرع ورد به في القسامة و جعله حقا مقصودا في نفسه تعظيما لأمر الدم و تفخيما لشأنه لكون اليمين الكاذبة مهلكة فصار بالنكول مانعا حقا مستحقا عليه مقصودا فيحبس حتى يقر أو يحلف بخلاف الأشياء السبعة فإن الاستحلاف فيها للتوصل إلى استيفاء المقصود بالنكول و أنه لا يقع وسيلة إلى هذا المقصود و عندهما النكول إقرار فيه شبه العدم لأنه إقرار بطريق السكوت و أنه محتمل و القصاص يدرأ بالشبهات و إذا سقط القصاص للشبهة يجب المال بخلاف شهادة النساء مع الرجال و الشهادة على الشهادة أنها لا تقبل في باب القصاص أصلا لأن التعذر هناك من جهة من له القصاص و هو عدم الإتيان بحجة مظهرة للحق و هي شهادة شهود أصول مذكور و التعذر هنا من جهة من عليه القصاص و هو عدم التنصيص على الإقرار و الأصل أن القصاص إذا بطل من جهة من له القصاص لا تجب الدية و إذا بطل من جهة من عليه تجب الدية .
و أما في دعوى السرقة إذا حلف على المال و نكل يقضى بالمال لا بالقطع لأن النكول حجة في الأموال دون الحدود الخالصة .
و أما في حد القذف إذا استحلف على ظاهر الرواية فنكل يقضي بالحد في ظاهر الأقاويل لأنه بمنزلة القصاص في الطرف عند أبي حنيفة و عندهما بمنزلة التعزير و قال بعضهم : هو بمنزلة سائر الحدود لا يقضى فيه بشيء و لا يحلف لأنه حد و قيل : يحلف و يقضي فيه بالتعزير دون الحد كما في السرقة يحلف و يقضي بالمال دون القطع و الله سبحانه و تعالى أعلم