تاريخ البينة .
و جه قول أبي يوسف C ما ذكرنا : أن البينة المؤرخة تظهر الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة المطلقة عن تاريخ بيقين بل تحتمل المعارضة و عدمها فلا تثبت المعارضة بالشك فتثبت بينة صاحب التاريخ بلا معارض فكان صاحب التاريخ أولى .
و جه قول أبي حنيفة C ما مر أيضا : أن الملك الموقت يحتمل أن يكون سابقا و يحتمل أن يكون متأخرا لا حتمال أن الإطلاق لو أرخ لكان تاريخه أقدم يثبت السبق مع الاحتمال فسقط اعتبار التاريخ فبقي دعوى الملك المطلق هذا إذا قامت البينتان من الخارجين على ذي اليد على الملك من غير سبب فإن كان ذلك بسبب فنقول : لا يخلو إما إن ادعيا الملك بسبب واحد من الإرث أو الشراء أو النتاج و نحوها و إما إن ادعياه بسببين فإذ ادعيا الملك بسبب واحد فإن كان السبب هو الإرث فإن لم توقت البينتان فهو بينهما نصفان لما ذكرنا أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته و إنما الوارث يخلفه و يقوم مقامه في ملكه ألا ترى أنه يجهز من التركة و يقضى منها و يرد الوارث بالغيب و يرد عليه فكان المورثين حضرا وادعيا ملكا عن الوقت و إن و قتا و قتا فإن كان و قتهما واحدا فكذلك لما مر و إن كان أحد الوقتين أسبق يقضى لمن هو أسبق و قتا عند أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله و عند محمد C يقضى بينهما نصفين و لا عبرة للتاريخ عنده في الميراث لما مر أن الموروث ملك الميت و الوارث قام مقامه فلم يكن الموت تاريخا لملك الوارث فسقط التاريخ لملكه و التحقق بالعدم فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ فيستويان فيه .
و عن محمد أنهما إن لم يؤرخا ملك الميتين فكذلك فأما إذا أرخا ملك الميتين فيقضى لسبقهما تاريخا ذكره في نوادر هشام و أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله يقولان : بل الوارث بإقامة البينة يظهر الملك للوارث لا لنفسه فيصير كأنه حضر المورثان و أقام كل واحد منهما بينة مؤرخة و تاريخ أحدهما أسبق و لو كان كذلك لقضى لأسبقهما و قتا لإثباته الملك في و قت لا تعارضه فيه بية الآخر كذا هذا .
و لو و قتت إحدهما و لم توقت الأخرى يقضى بينهما نصفان بالإجماع أما عند محمد فإن التاريخ في باب الميراث ساقط فالتحق بالعدم و أما عندهما فيصير كأن المورثين الخارجين حضرا وادعيا ملكا فأرخه أحدهما و لم يؤرخه الآخر و هناك كان المدعى بينهما نصفين فكذا هنا لأنهما ادعيا تلقى الملك من رجلين و لا عبرة فيه بالتاريخ .
و إن كان السبب هوالشراء فنقول كان لا تخلو إما أن تكون الدار في يد ثالث و إما أن تكون في يد أحدهما و كل ذلك لا يخلو إما إن ادعيا الشراء من واحد و أما إن ادعياه من اثنين فإن كانت في يد ثالث وادعيا الشراء من واحد فإن كان صاحب اليد و أقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم و نقد الثمن مطلفا عن التاريخ و ذكر القبض يقضى بينهما نصفين عندنا و للشافعي فيه قولان في قول تتهاتر البينتان و في قول يقرع بينهما فيقضى لمن خرجت له القرعة و هي مسألة التهاتر و قد تقدمت و إذا قضى بالدار بينهما نصفين يكون لهما الخيار أن شاء أخذ كل واحد منهما نصف الدار الثمن و إن شاء نقص لأن غرض كل واحد منهما من شراء الوصول إلى جميع المبيع و لم يحصل فاوجب ذلك خللا في الرضا فلذلك أثبت لهما الخيار فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار رجع على البائع بنصف الثمن لأنه لم يحصل له إلا نصف المبيع و إن اختارالرد رجع كل واحد منهما بجميع الثمن لأنه انفسخ البيع فإن اختار أحدهما الرد و الآخر الأخذ فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي و تخييره إياهما فليس له أن يأخذ إلا النصف بنصف الثمن لأن حكم القاضي بذلك أوجب انفساخ العقد في حق كل واحد منهما في النصف فلا يعود إلا بالتحديد كما إذا قضى القاضي بالدار المشفوعة للشفيعين ثم سلم أحدهما الشفعة لا يكون لصاحبه إلا نصف الدار فأما إذا اختار أحدهما ترك الخصومة قبل تخيير القاضي فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن لأن المستحق بالعقد كل البيع و الإمنتاع بحكم المزاحمة فإذا انقطعت فقد زال المانع كأحد الشفيعين إذا سلم الشفقة قبل قضاء القاضي بالدار المشفوعة يقضي لصاحبه بالكل .
و كذلك إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل آخر سوى صاحب اليد و أقام البينة على ذلك يقضى بالدار بينهما نصفين عندما و ثبت الخيار لكل واحد منهما .
و الكلام في توابع الخيار على نحو ما بينا غير أن هناك الشهادة القائمة على صاحب اليد و هو البائع تقبل من غير ذكر الملك له و الشهادة القائمة على الشراء من غير صاحب اليد لا تقبل إلا بذكر الملك للبائع لأن المبيع في الفصل الأول في يد البائع و اليد دليل الملك فوقعت الغنية عن ذكره و في الفضل الثاني المبيع ليس في يد البائع فدعت الحاجة إلى ذكره لصحة البيع .
هذا إذا لم تؤرخ البينتان فأما إذا أرختا فإن استوى التاريخان فكذلك لسقوط اعتبارهما بالتعارض فبقي دعوى مطلق الشراء و إن كانت إحدهما أسبق تاريخا كانت أولى بالإجماع لأنها تظهر الملك في و قت لا تعارضها فيه الأخرى فتندفع بها الأخرى .
و لو أرخت إحداهما و أطلقت الأخرى فالمؤرخة أولى لأنها تظهر الملك في زمان معين و الأخرى لا تتعرض للوقت فتحتمل السبق و التأخير فلا تعارضها مع الشك و الإحتمال و لو لم تؤرخ البينتان و لكن ذكرت إحداهما القبض فهي أولى لأنها لما أثبتت قبض المبيع جعل كأن بيع صاحب القبض أسبق فيكون أولى و كذلك لو ذكرت احدهما تاريخا و الأخرى قبضا فبينة القبض أولى إلا أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الآخر فيقضى له و يرجع الآخر بالثمن على البائع و كذا لو أرخا تاريخا واحدا و ذكرت إحداهما القبض فبينة القبض أولى إلا إذا كان و قت الأخر أسبق .
هذا إذا ادعيا الشراء من واحد و هو صاحب اليد أو غيره فأما إذا ادعيا الشراء من اثنين سوى صاحب اليد مطلقا عن الوقت و أقاما البينة على ذلك يقضى بينهما نصفين لأنهما ادعيا تلقي الملك من البائعين فقاما مقامهما فصار كأن البائعين الخارجين حضرا و أقاما البينة على ملك مطلق و لو كان كذلك يقضي بينهما نصفين كذا هذا و يثبت لهما الخيار و الكلام في الخيار على نحو ما ذكرنا .
و لو و قتت البينتان فإذا كان و قتهما واحدا فكذلك و إن كان أحدهما أسبق من الأخر فالأسبق تاريخا أولى عند أبي حنيفة و أبي يوسف و كذا عند محمد في رواية الأصول بخلاف الميراث أنه يكون بينهما نصفان عنده و وجه الفرق له ذكره الداري و هو : أن المشتري يثبت الملك لنفسه و الوارث يثبت الملك للميت و عن محمد في الإملاء أنه سوى بين الميراث و الشراء و قال : لا عبرة بالتاريخ في الشراء أيضا إلا أن يؤرخا ملك البائعين و إن و قتت إحداهما و لم توقت الأخرى يقضى بينهما نصفين و لا عبرة للتاريخ أيضا .
فرق بين هذا و بين ما إذا ادعيا الشراء من رجل واحد فوقتت بينه أحدهما و أطلقت الأخرى أن بينة الوقت أولى .
و وجه الفرق : أنهما إذا ادعيا الشراء من اثنين فقد ادعيا تلقى الملك من البائعين فتاريخ إحدى البينتين لا يدل على سبق أحد الشراءين بل يجوز أن يكون شراء صاحبه أسبق من شرائه فلا يحكم بسبق أحدهما مع الاحتمال فيقسم بينهما نصفين بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من واحد لأن هناك اتفقا على تلقي الملك من واحد فتاريخ إحدى البينتين أوجب تلقى الملك منه في زمان لا ينازعه فيه أحد فيؤمر بالدفع إليه حتى يقوم على التلقي منه دليل آخر .
هذا إذا كانت الدار في يد ثالث فإن كانت في يد أحدهما فإن ادعيا الشراء من واحد فصاحب اليد أولى سواء أرخ الآخر أو لم يؤرخ و سواء ذكر شهود القبض أو لم يذكر لأن القبض من صاحب اليد أقوى لثبوته حسبا و مشاهدة و قبض الآخر لم يثبت إلا ببينة تحتمل الصدق و الكذب فكان القبض المحسوس أولى فصار الحاصل أن القبض الثابت بالحس أولى من الثابت بالخبر و من التاريخ أيضا و القبض الثابت بالخير أولى من التاريخ .
و إن ادعيا الشراء من اثنين يقضى للتاريخ سواء و قتت البينات أو لا و قتت احداهما دون الأخرى إلا إذا و قتتا و وقت صاحب اليد أسبق لأنها ادعيا تلقي الملك من البائعين فقاما مقام البائعين فصار كأن البائعين حضرا و أقاما البينة و لو كان كذلك يقضى للخارج كذا هذا ما إذا كان البائع واحدا لنهما اتفقا على أن الملك لهما بالشراء من جهته و لأحدهما يد فيجعل كأن شراء صاحب اليد أسبق .
و إن كان السبب هو النتاج بأن ادعى كل واحد من الخارجين أنها دابته نتجت عنده فإن أقام كل واحد منهما البينة على ملك مطلق يقضى بينهما نصفين لا ستواء الحجتين و تعذر العمل بهما بإظهار الملك في كل المحل فليعمل بهما بالقدر الممكن .
و إن أقاما على ملك موقت فإن اتفق الوقتان فكذلك و إن اختلفا يحكم سن الدابة إن علم و إن أشكل فعند أبي حنيفة يقضى لأسبقهما و قتا و عندهما يقضى بينهما .
وجه قولهما : أن السن إذا أشكل يحتمل أن يكون موافقا لوقت هذا و يحتمل أن يكون موافقا لوقت ذاك فسقط اعتبار الوقت و صار كأنهما سمتا عن الوقت أصلا وجه قول أبي حنيفة C : أن وقوع الإشكال في السن يوجب سقوط اعتبار حكم السبق فبطل تحكيمه فبقي الحكم للوقت فالأسبق أولى هذا يشكل بالخارج مع ذي اليد و إن خالف الوقتين جميعا فهو على ما ذكرنا في الخارج مع ذي اليد و إن أقام أحدهما البينة على النتاج و الآخر على ملك مطلق فبينة النتاج أولى لما مر .
هذا إذا ادعى الخارجان الملك من واحد أو اثنين بسببين منفقين من الميراث و الشراء و النتائج فإن كان بسببين مختلفين فنقول : لا يخلو إما إن كان من اثنين و إما إن كان من واحد فإن كان من اثنين يعمل يكل واحد من السببين بأن ادعى أحدهما أنه اشترى هذه الدابة من فلان و ادعى الآخر أن فلانا آخر و هبها له و قبضها منه قضي بينهما نصفين لأنهما ادعيا تلقي الملك من البائع و الواهب فقاما مقامهما كأنهما حضرا وادعيا و أقاما البينة على الملك مرسل و كذا لو ادعى ثالث ميراثا عن أبيه فإن يقسم بينهم أثلاثا و لو ادعى رابع و صدقه يقسم بينهم أرباعا لما قلنا .
و إن كان ذلك من واحد ينظر إلى السببين فإن كان أحدهما أقوى يعمل بعضهم لأن العمل بالراجح واجب و إن استويا في القوة يعمل بهما بقدر الإمكان على ما هو سبيل دلائل الشرع .
بيان ذلك : إذا أقام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار من فلان و نقده الثمن و قبض الدار و أقام الآخر البينة أن فلانا ذاك و هبها له و قبضها يقضى لصاحب الشراء لأنه يفيد الحكم بنفسه و الهبة لا تفيد الحكم إلا بالقبض فكان الشراء أولى و كذلك الشراء مع الصدقة و القبض لما قلنا و كذلك الشراء مع الرهن و القبض لأن الشراء يفيد ملك الرقبة و الرهن يفيد ملك الرقبة أقوى و لو اجتمعت البينتان مع القبض يقضي بينهما نصفين لا ستواء السببين و قيل : هذا فيما لا يحتمل القسمة كالدابة و العبد و نحوهما .
فأما فيما يحتمل القسمة كالدار و نحوها فلا يقضى لهما بشيء على أصل أبي حنيفة C في الهبة من رجلين لحصول معنى الشيوع و قيل : لا فرق بين ما يحتمل القسمة و بين مالا يحتملها هنا لأن هذا في معنى الشيوع الطارىء لقيام البينة على الكل و أنه لا يمنع الجواز و كذلك لو اجتمعت الصدقه مع القبض أو الهبة و الصدقة مع القبض يقضى بينهما نصفين لا ستواء السببين لكن هذا إذا لم يكن المدعى في يد أحدهما فإن كان يقضى لصاحب اليد بازجماع لما مر و لو اجتمع الرهن و الهبة أو الرهن و الصدقة فالقياس أن تكون الهبة أولى و كذا الصدقة لأن كل واحد منهما يفيد ملك الرقبة و الرهن يفيد ملك اليد و الحبس و ملك الرقبة أقوى و في الاستحسان الرهن أولى لأن المرهون عندنا مضمون بقدر الدين فأما الموهوب فليس بمضمون أصلا فكان الرهن أقوى و لو اجتمع النكاحان بأن ادعت امرأتان و أقامت كل واحدة منهما البينة على أنه تزوجها عليه يقضي بينهما نصفين لا ستواء السببين .
و لو اجتمع النكاح مع الهبة أو الصدقة أو الرهن فالنكاح أولى لأنه عقد يفيد الحكم بنفسه فكان أقوى .
و لو اجتمع الشراء و النكاح فهو بينهما نصفان عند أبي يوسف و للمرأة نصف نصف القيمة على الزوج و عند محمد الشراء أولى و للمرأة القيمة على الزوج .
وجه قول محمد : أن الشراء أقوى من النكاح بدليل أنه لا يصح البيع بدون تسمية الثمن و يصح النكاح بدون تسمية المهر و كذا لا تصح التسمية بدون الملك في البيع و تصح في باب النكاح كما لو تزوج على جاربة غيره دل إن الشراء أقوى من النكاح .
وجه قول أبي يوسف : أن النكاح مثل الشراء فإن كان واحد منهما معاوضة يفيد الحكم بنفسه هذا إذا ادعى كل واحد منهما قدر ما يدعي الآخر فأما إذا ادعى أحدهما أكثر مما يدعي الآخر بأن ادعى أحدهما كل الدار و الآخر نصفها و أقاما البينة على ذلك فإنه يقضى لمدعي الكل بثلاثة أرباع الدار و لمدعي النصف بربعها عند أبي حنيفة و عندهما يقضى لمدعي الكل بثلثي الدار و لمدعي النصف بثلثها و إنما اختلف جوابهم لاختلافهم في طريق القسمة فتقسم في طريق القسمة فتقسم عنده بطريق المنازعة و هما قسما بطريق العدل و المضاربة .
و تفسير القسمة بطريق المنازعة : أن ينظر إلى القدر الذي وقع التنازع فيه فيجعل الجزء الذي خلا من المنازعة سالما لمدعيه