حكم الملك و الحق الثابت في المحل .
فصل : و أما بين حكم الملك و الحق الثابت في المحل فنقول و با لله التوفيق : حكم الملك و لاية التصرف للمالك في المملوك باختياره ليس لأحد و لاية الجبر عليه إلا لضرورة و لا لأحد و لاية المنع عنه و إن كان يتضرر به إلا إذا تعلق به حق الغير فيمنع عن التصرف من غير رضا صاحب الحق و غير المالك لا يكون له التصرف في ملكه من غير إذنه و رضاه إلا لضرورة و كذلك حكم الحق الثابت في المحل .
إذا عرف هذا فنقول : للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء سواء كان تصرفا يتعدى ضرره إلى غيره أو لا يتعدى فله أن يبني في ملكه مرحاضا أو حماما أو رحى أو تنورا و له أن يعقد في بنائه حدادا أو قصارا و له أن يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة أو ديماسا و أن كان يهن من ذلك البناء و يتأذى به جاره و ليس لجاره أن يمنعه حتى لو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر عليه لأن الملك مطلق للتصرف في الأصل و المنع منه لعارض تعلق حق الغير فإذا لم يوجد التعلق لا يمنع إلا أن الامتناع عما يؤذي الجار ديانة واجب للحديث قال E : [ المؤمن من أمن جاره بواثقه ] و لو فعل شيئا من ذلك حتى و هن البناء و سقط حائط الجار لا يضمن لأنه لا صنع منه في ملك الغير .
و على هذا سفل لرجل و عليه علو لغيره انهدما لم يجبر صاحب السفل على بناء السفل لأنه ملكه و الإنسان لا يجبرعلى عمارة ملك نفسه و لكن يقال لصاحب العلو : إن شئت فابن السفل من مال نفسك و ضع عليه علوك ثم امنع صاحب السفل عن الإرتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء مبنيا لأن البناء و إن كان تصرفا في الملك الغير لكن فيه ضرورة لأنه لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلا بالتصرف في ملك غيره فصار مطلقا له شرعا و له حق الرجوع بقيمة البناء مبنيا لأن البناء ملكه لحصوله بإذن الشرع و إطلاقه فله أن لا يمكنه من الانتفاع بملكه إلا ببدل يعدله و هو القيمة .
و ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن في ظاهر الرواية يرجع بما أنفقه و كذا ذكر الخصاف أنه يرجع بما أنفق لأنه لما لم يقدر على الانتفاع بالعلو إلاببناء السفل و لا ضرر لصاحب السفل في بنائه بل فيه نفع صار مأذونا بالإنفاق من قبله دلالة فكان له حق الرجوع بما أنفق و هذا بخلاف البئر المشترك والدولاب المشترك و الحمام المشترك و نحو ذلك إذا خربت فامتنع أحدهما عن العمارة أنه يجبر الآخر علىالعمارة لأن هناك ضرورة لأنه لا يمكن الانتفاع به بواسطة القسمة لأنه لا يحتمل القسمة و الترك لذلك تعطيل الملك و فيه ضرر بهما فكان الذي أبى العمارة متعنتا محضا في الامتناع فيدفع تعنته بالجبر على العمارة .
هذا إذا انهدما بأنفسهما فأما إذا هدم صاحب السفل سفله حتى انهدم العلو يجبر على إعادته لأنه أتلف حق صاحب العلو بإتلاف محله و يمكن جبره بالإعادة فتجب عليه إعادته و على هذا حائط بين دارين انهدم و لهما عليه جذوع لم يجبر واحد منهما على بنائه لما قلنا و لكن إذا أبى أحدهما البناء يقال للآخر : إن شئت فابن من مال نفسك و ضع خشبك عليه و امنع صاحبك من الوضع حتى يرد عليك نصف قيمة البناء مبنيا أو نصف ما أنفقته على حسب ما ذكرنا في السفل و العلو و قيل : إنما يرجع إذا لم يكن موضع الحائط عرضيا و لا يمكن كل واحد منهما أن يبني حائطا على حدة في نصيبه بعد القسمة .
فأما إذا كان عرضيا يمكن قسمته و أن يبنى كل واحد منهما في نصيبه حائطا يصلح لوضع الجذوع عليه فبناه كما كان يغير إذن صاحبه لا يكون له حق الرجوع على صاحبه بل يكون متبرعا لأنه يبني ملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة فكان متبرعا فلا يرجع عليه بشيء .
و لو أراد أحدهما قسمة عرضة الحائط لم تقسم إلا عن تراض منهما بالقسمة لأن لكل واحد منهما عليه حق وضع الخشب و في القسمة جبرا إبطال حق الآخر من غير رضاه و هذا لا يجوز و يحتمل ان يقال : هذا إذا لم يكن عرضيا فإن كان يقسم قسمة جبر لأنه لا يتضمن إبطال حق الغير و لو كانت الجذوع عليه لأحدهما فطلب أحدهما القسمة و أبى الآخر فإن كان الطالب صاحب الجذوع يجبر الآخر على القسمة لأنه في الرنتفاع متعنت و إنما الحق لصاحب الجذوع و قد رضي بسقوط حقه .
وإن كان الطالب من لا جذع له لا يجبر صاحب الجذوع على القسمة لأن فيه إبطال حقه في وضع الجذوع فلا يجوز من غير رضاه و لو هدم الحائط أحدهما يجبر على إعادته لما ذكرنا أنه أتلف محل حق أحدهما فيجب جبره على الإعادة و على هذا سفل لرجل و عليه علو لغيره فأراد صاحب السفل أن يفتح بابا أو يثبت كوة أو يحفر طاقا أو يقد وتدا على الحائط أو يتصرف فيه تصرفا لم يكن قبل ذلك ليس له ذلك من غير رضا صاحب العلو سواء أضر ذلك بالعلو بأن أوجب و هن الحائط أو لم يضر به عند أبي حنيفة C : و عندهما له ذلك إن لم يضر بالعلو .
و لو أراد صاحب السفل أن يحفر في سفله بئرا أو بالوعة أو سردابا فله ذلك من غير رضا صاحب العلو إجماعا و كذا إيقاد النار للطبخ أو للخبر و صب الماء للغسل أو للوضوء بالانفاق و على هذا الاختلاف لو أراد صاحب العلو أن يحدث على علوه بناء أو يضع جذوعا لم يكن قبل ذلك أو يشرع فيه بابا أو كنيفا لم يكن قبله ليس له ذلك عند أبي حنيفة سواء أضر بالسفل أو لا و عندهما له أن يفعل ذلك ما لم يضر بالسفل و له إيقاد النار و صب الماء للوضوء و الغسل إجماعا منهم من قال : لا خلاف بينهم في الحقيقة و قولهما تفسير قول أبي حنيفة C ومنهم من حقق الخلاف .
وجه قولهما : أن صاحب السفل يتصرف في ملك نفسه فلا يمنع إلا لحق الغير و حق الغير لا يمنع من التصرف لعينه بل لما يتضرر به صاحب الحق ألا ترى أن الإنسان لا يمنع من الاستظلال بجدار غبره و من الاصطلاء بنار غيره لانعدام تضرر المالك و الخلاف هنا في تصرف لا يضر بصاحب العلو فلا يمنع عنه و لأبي حنيفة C : أن حرمه التزصرف في ملك الغير و حقه لا يقف على الضرر بل هو حرام سواء تضرر به أم لا .
ألا تري أن المرآة و المبحار من دار المالك إلى موضع آخر حرام و إن كان لا يتضرر به المالك والدليل عليه أنه يباح التصرف في ملك الغير و حقه برضاه .
و لو كانت الحرمة لما يلحقه من الضرر لما أبيح لأن الضرر لا ينعدم برضا المالك و صاحب الحق دل أن التصرف في ملك الغير و حقه حرام أضر بالمالك أو لا و هنا حق لصاحب العلو متعلق بالسفل فيحرم التصرف فيه إلا بإذنه و رضاه بخلاف ما ضربنا من المثال و هو الاستظلال بجدار غيره و الاصطلاء بنار غيره لأن ذلك ليس تصرفا في ملك الغير و حقه إذ لا أثر لذلك متصل بملك الغير و حقه و هنا بخلافه .
و على هذا إذا كان مسيل ماء في قناة فأراد صاحب القناة أن يجعله ميزابا أو كان ميزانا فأراد أن يجعله قناة ليس له ذلك و كذلك لو أراد أن يجعل ميزابا أطول من ميزابه أو أعرض أو أراد ان يسيل ماء سطح آخر في ذلك الميزاب لم يكن له ذلك لأن صاحب الحق لا يملك التصرف زيادة على حقه و كذلك لو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطا ليسدوا مسيله أو أرادوا أن ينقلوا الميزاب عن موضعه أو يرفعوه أو يسفلوه لم يكن لهم ذلك لأن ذلك تصرف في حق الغير بالإبطال و التغيير فلا يجوز من غير رضا صاحب الحق و لو بنى أصل الدار لتسييل ميزابه على ظهره فلهم ذلك لأن مقصود صاحب الميزاب حاصل في الحالين .
دار لرجل فيها طريق فأراد أهل الدار أن يبنوا في ساحة الدار مايقطع طريقه ليس لهم ذلك لأن فيه إبطال حق المرور و ينبغي أن يتركوا في ساحة الدار عرض باب الدار لأن عرض باب الدارلأن عرض الطريق مقدر بعرض باب الدار و لو أراد رجل أن يشرع إلى الطريق جناحا أو ميزابا فنقول : هذا في الأصل لا يخلو من أحد و جهين : إما إن كانت السكة نافذة و إما إن كانت غير نافذة فإن كانت نافذة فإنه ينظر إن كان ذلك مما يضر بالمارين فلا يحل له أن يفعل ذلك في دينه لقوله E : [ لا ضرر و لا إضرار في الإسلام ] و لو فعل ذلك فلكل واحد أن يقطع عليه ذلك .
و إن كان ذلك مما لا يضر بالمارين حل له الانتفاع به مالم يتقدم إليه أحد بالرفع و النقص فإذا تقدم إليه واحد من عرض الناس لا يحل له الانتفاع به بعد ذلك عند أبي حنيفة C و عندهما يحل له الانتفاع قبل التقدم و بعده و كذلك هذا الحكم في غرس الأشجار و بناء الدكاكين و الجلوس للبيع و الشراء على قارعة الطريق .
وجه قولهما : ما ذكرنا أن حرمة التصرف في حق الغير ليس لعينه بل للتحرز عن الضرر و الإضرار بالمارة فاستوى فيه حال ماقبل التقدم و بعده و لأبي حنيفة C : أن إشراع الجناح و الميزاب إلى طريق العامة تصرف في حقهم لأن هواء البقعة في حكم البقعة و البقعة حقهم فكذا هواؤها فكان الانتفاع بذلك تصرفا في حق الغير و قد مر أن التصرف في حق الغير بغير إذنه حرام سواء أضر به أو لا إلا أنه حل له الانتفاع بذلك قبل التقدم لوجود الإذن منهم دلالة و هي ترك التقدم بالنقص و التصرف في حق الإنسان بإذنه مباح فإذا وقعت المطالبة بصريح النقض بطلت الدلالة فبقي للانتفاع بالمبني تصرفا في حق مشترك بين الكل من غير إذنهم و رضاهم فلا يحل .
هذا إذا كانت السكة نافذة فأما إذا كانت غير نافذة فإن كان له حق في التقدم فليس لأهل السكة حق المنع لتصرفه في حق نفسه و إن لم يكن له حق في التقديم فلهم منعه سواء كان لهم في ذلك مضرة أو لا لما ذكرنا أن حرمة التصرف في حق الغير لا تقف على المضرة و الله سبحانه و تعالى أعلم