شرائط أداء الشهادة .
و أما شرائط أداء الشهادة فأنواع : بعضها يرجع إلى الشاهد و بعضها يرجع إلى نفس الشهادة و بعضها يرجع إلى مكان الشهادة و بعضها يرجع إلى المشهود به .
أما الذي يرجع إلى الشاهد فأنواع : بعضها يعم الشهادات كلها و بعضها يخص البعض دون البعض .
أما الشرائط العامة فمنها : العقل لأن من لا يعقل لا يعرف الشهادة فكيف يقدر على أدائها و منها : البلوغ فلا تقبل شهادة الصبي العاقل للأنه لا يقدر على الأداء إلا بالتحفظ و التحفظ بالتذكر و التذكر بالتفكر و لا يوجد من الصبي عادة و لان الشهادة فيها معنى الولاية و الصبي مولى عليه و لأنه لو كان له شهادة للزمته الإجابة عند الدعوة للآية الكريمة و هو قوله تعالى : { و لا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي : دعوا للأداء فلا يلزمه إجماعا .
و منها : الحرية فلا تقبل شهادة العبد لقوله تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } و الشهادة شيء فلا يقدر على أدائها بظاهر الآية الكريمة و لأن الشهادة تجري مجرى الولايات و التمليكات .
أما معنى الولاية : فإن فيه تنفيذ القول على الغير و إنه من باب الولاء و أما معنى التمليك فإن الحاكم يملك الحكمى بالشهادة فكأن الشاهد ملكه الحكم و العبد لا ولاية له على غيره و لا يملك فلا شهادة له و لأنه لو كان له شهادة لكان يجب عليه الإجابة إذا دعي لأدائها للآية الكريمة و لا يجب لقيام حق المولى و كذا لا تقبل شهادة المدبر و المكاتب و أم الولد لأنهم عبيد و كذا معتق البعض عند أبي حنيفة و عندهما تقبل شهادته لأنه بمنزلة المكاتب عنده و عندهما بمنزلة حر عليه دين .
و منها : بصر الشاهد عند أبي حنيفة و محمد رحمهما الله فلا تقبل شهادة الأعمى عندهما سواء كان بصيرا وقت التحمل أو لا و عند أبي يوسف : ليس بشرط حتى تقبل شهادته إذا كان بصيرا وقت التحمل .
و هذا إذا كان المدعى شيئا لا يحتاج إلى الإشارة إليه وقت الأداء فأما إذا كان شيئا يحتاج إلى الإشارة إليه وقت الأداء لا تقبل شهادته إجماعا .
وجه قول أبي يوسف : أن اشتراط البصر ليس لعينه بل لحصول العلم بالمشهود به و ذا يحصل إذا كان بصيرا وقت التحمل .
وجه قولهما : أنه لا بد من معرفة المشهود له و الإشارة إليه عند الشهادة فإذا كان أعمى عند الأداء لا يعرف بالمشهود له من غيره فلا يقدر على أداء الشهادة و منها : النطق فلا تقبل شهادة الأخرس لأن مراعاة لفظة الشهادة شرط صحة أدائها و لا عبارة للأخرس أصلا فلا شهادة له .
و منها العدالة لقبول الشهادة على الإطلاق فإنها لا تقبل على الإطلاق دونها لقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } و الشاهد المرضي : هو الشاهد العدل و الكلام في العدالة في مواضع : في بيان ماهية العدالة أنها ماهي في عرف الشرع و في بيان صفة العدالة المشروطة و في بيان أنها شرط أصل القبول و جوادا أم شرط القبول على الإطلاق و وجوبا .
أما الأول : فقد اختلفت عبارات مشايخنا رحمهم الله في ماهية العدالة المتعارفة قال بعضهم : من لم يطعن عليه في بطن و لا فرج فهو عدل لأن أكثر أنواع الفساد و الشر يرجع إلى هذين العضوين .
و قال بعضهم : من لم يعرف عليه جريمة في دينه فهو عدل و قال بعضهم : من غلبت حسناته سيئاته فهو عدل و قد روي عن النبي E أنه قال : [ إذا رأيتم الرجل يعتاد الصلاة في المساجد فاشهدوا له بالإيمان و روي : من صلى إلى قبلتنا و أكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان ] و قال بعضهم : من يجتنب الكبائر وأدى الفرائض و غلبت حسناته سيئاته فهو عدل و هو اختيار أستاذ أستاذي الإمام فخر الدين على لابزدوي C تعالى .
و اختلفت في ما هية الكبائر و الصغائر قال بعضهم : ما فيه في كتاب الله D فهو كبيرة و ما لا حد فيه فهو صغيرة و هذا ليس بسديد فإن شرب الخمر و أكل ربا كبيرتان و لا حد فيهما في كتاب الله تعالى و قال بعضهم : ما يوجب الحد فهو كبيرة و ما لا يوجب فهو صغيرة و هذا يبطل أيضا بأكل الربا فإنه كبيرة و لا يوجب الحد و كذا يبطل أيضا بأشياء أخر هي كبائر و لا توجب الحد نحو : عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و نحوها و قال بعضهم : كل ما جاء مقرونا بوعيد فهو كبيرة نحو : قتل النفس المحرمة و قذف المحصنات و الزنا و الربا و أكل مال اليتيم و الفرار من الزحف و هو مروي عن عبد الله بن عباس Bهما و قيل له إن عبد الله ين سيدنا عمر Bهما قال : الكبائر سبع فقال : هي إلى سبعين أقرب و لكن لا كبيرة مع توبة و لا صغيرة مع إصرار .
و روى عن الحسن عن النبي E أنه قال [ ماتقولون في الزنا و السرقة و شرب الخمر ] قالوا : الله و رسوله أعلم قال E : [ هن فواحش و فيهن عقوبة ] .
ثم قال E : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ] فقالوا : بلى يا رسول الله فقال صلى الله عليه و سلم : [ الإشراك با لله و عقوق الوالدين ] و كان عليه السلام متكئا فجلس ثم قال : [ ألا و قول الزور ألا و قول الزور ألا و قول الزور ] .
فإذا عرفت تفسير العدالة في عرف الشرع فلا عدالة لشارب الخمر لأن شربه كبيرة فتسقط به العدالة و من مشايخنا من قال : إذا كان الرجل صالحا في أموره تغلب حسناته سيئاته و لا يعرف بالكذب و لا بشيء من الكبائر غير أنه يشرب الخمر أحيانا لصحة البدن و التقوي لا التهي يكون عدلا و عامة مشايخنا على أنه لا يكون عدلا لأن شرب الخمر كبيرة محضة و إن كان للتقوي و من شرب النبيذ لا تسقط عدالته بنفس الشرب لأن شربه للتقوي دون التهلي حلال و أما السكر منه فإن كان وقع منه مرة و هو لا يدري أو وقع سهوا لا تسقط عدالته و إن كان يعتاد السكر منه تسقط عدالته لأن السكر منه حرام و لا عدالة لمن يحضر مجلس الشرب و يجلس بينهم و إن كان لا يشرب لأن حضوره مجلس الفسق فسق و لا عدالة للنائح و النائحة لأن فعلهما محظور و أما المغني فإن كان يجتمع الناس عليه للفسق بصورته فلا عدالة له و إن كان هو لا يشرب لأنه رأس الفسقة و إن كان يفعل ذلك مع نفسه لدفع الوحشة لا تسقط عدالته لأن ذلك مما لا بأس به لأن السماع مما يرقق القلوب لكن لا يحل الفسق به .
و أما الذي يضرب شيئا من الملاهي فإنه ينظر إن لم يكن مستشنعا كالقصب و الدف و نحوه لا بأس به و لا تسقط عدالته و إن كان مستشنعا كالعود و نحوه سقطت عدالته لأنه لا يحل بوجه من الوجوه و الذي يلعب بالحمام فإن كان لا يطيرها تسقط عدالته لأنه يطلع على عورات النساء و يشغله ذلك عن الصلاة و الطاعات و من يلعب بالرند فلا عدالة له و كذلك من يلعب بالشطرنج و يعتاده فلا عدالة له و إن أباحه بعض الناس لتشحيذ الخاطر و تعلم أمر الحرب لانه حرام عندنا لكونه لعبا .
قال E : [ كل لعب حرام إلا ملاعبه الرجل أهله و تأديبه فرسه و رميه عن قوسه ] .
و كذلك إذا اعتاد ذلك يشغله عن الصلاة و الطاعات فإن كان يفعله أحيانا و لا يقامر به لا تسقط عدالته و لا عدالة لمن يدخل الحمام بغير مئزر لأن ستر العورة فريضة : و من ترك الصلاة بالجماعات استخفافا بها و هوانا بتركها فلا عدالة له لأن الجماعة واجبة و إن كان تركها عن تأويل بأن كان الإمام غير مرضي عنده لا تسقط عدالته و لا عدالة لمن يفجر بالنساء أو يعمل بعمل قوم لوط و لا للسارق و قاطع الطريق و المتلصص و قاذف المحصنات و قاتل النفس المحرمة و آكل الربا و نحوه لأن هؤلاء من رؤس الكبائر و لا عدالة للمخنث لأن فعله و عمله كبيرة ولا عدالة لمن لم يبال من أين يكتسب الدراهم من أي وجه كان لأن من هذا حاله لا يأمن منه أن يشهد زورا طمعا في المال و المعروف بالكذب لا عدالة له و لا تقبل شهادته أبدا و إن تاب لأن من صار معروفأ بالكذب و اشتهر به لا يعرف صدقة في توبته بخلاف الفاسق إذا تاب عن سائر أنواع الفسق تقبيل شهادته .
و كذا من و قع في الكذب سهوا وابتلى به مرة ثم تاب لأنه قل ما يخلو مسلم عن ذلك فلو منع القبول لا نسد باب الشهادة .
و أما الأقلف : فتقبل شهادته إذا كان عدلا و لم يكن تركه الختان رغبة عن السنة لعمومات الشهادة و لأن إسلامه إذا كان في حال الكبر فيجوز أنه خاف على نفسه التلف فإن لم يخف و لم يختتن تاركا للسنة لم تقبل شهادته كالفاسق و الذي يرتكب المعاصي أن شهادة لا تجوز و إن كنا لا نستيقن كونه فاسقا في تلك الحال .
و تقبل شهادة و لد الزنا إذا كان عدلا لعمومات الشهادة لأن زنا الوالدين لا يقدح في عدالته لقوله سبحانه و تعالى : { و لا تزر وازرة وزر أخرى } و ما روى عنه صلى الله عليه و سلم : [ و لد الزنا أسوأ الثلاثة ] فذا في و لد معين و الله تعالى أعلم .
و تقبل شهادة الخصي لعمومات الشهادة و روى عن سيدنا عمر Bه : أنه قبل شهادة علقمة الخصي و لم ينقل أنه أنكر عليه منكر من الصحابة و لأن الخصاء لا يقدح في العدالة فلا يمنع قبول الشهادة .
و أما شهادة صاحب الهوى إذا كان عدلا في هواه و دينه نظر في ذلك إن ذلك هوى يكفره لا تقبل شهادته لأن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة و إن كان لا يكفره : فإن كان صاحب العصيبة و صاحب الدعوة إلى هواه أو كان فيه مجانة لا تقبل أيضا لأن صاحب العصبية و الدعوة لا يبالي من الكذب و التزوير لتزويج هواه فكان فاسقا فيه .
و كذا إذا كان فيه مجانة لأن الماجن لا يبالي من الكذب فإن لم يكن كذلك و هو عدل في هواه تقبل لأن هواه يزجره عن الكذب إلا صنف من الرافضة يسمون بالخطابية فإنهم لا شهادة لهم لأن من نحاتهم أنه تحل الشهادة لمن يوافقهم على من يخالفهم و قيل : من نحلتهم أن من ادعى أمرا من الأمور و حلف عليه كان صادقا دعواه فيشهدون له فإن كان هذا مذهبهم فلا تخلو شهادتهم عن الكذب .
و كذا لا عدالة لأهل الإلهام لأنهم يحكمون بالإلهام فيشهدون لمن يقع في قلوبهم أنه صادق في دعواه و معلوم أن ذلك لا يخلو عن الكذب و لا عدالة لمن يظهر شتيمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأن شتيمة واحد من آحاد المسلمين مسقطة للعدالة فشيمتهم أولى .
و لا عدالة لصاحب المعصية لقوله E : [ ليس منا من مات على المعصية ] .
و قال E : [ من مات على المعصية كحمار نزع بدينه ] فكانت المعصية معصية مسقطة للعدالة .
و الأصل في هذا الفصل : أن من ارتكب جريمة فإن كانت من الكبائر سقطت عدالته إلا أن يتوب فإن لم تكن من الكبائر : فإن أصبر عليها و اعتاد ذلك فكذلك لأن الصغيرة بالإصرار عليها تصير كبيرة قال عليه الصلاة و السلام : [ لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار ] وإن لم يصر عليها لا تسقط عدالته إذا غلبت حسناته سيئاته .
و أما بيان صفة العدالة المشروطة فقد اختلف أصحابنا رحمهم الله قال أبي حنيفة Bه : الشرط هو العدالة الظاهرة فأما العدالة الحقيقية و هي الثابتة بالسؤال عن حال الشهود بالتعديل و التزكية فليست بشرط .
و قال أبو يوسف و محمد C : إنها شرط .
و لقب المسألة : أن القضاء بظاهر العدالة جائز عنده و عندهما لا يجوز و جملة الكلام فيه : أنه لا خلاف في أنه إذا طعن الخصم في الشاهد أنه لا يكتفي بظاهر العدالة بل يسأل القاضي عن حال الشهود و كذا لا خلاف في أنه يسأل عن حالهم في الحدود و القصاص و لا يكتفي بالعدالة الظاهرة سواء طعن الخصم فيهم أو لم يطعن .
و اختلفوا فيما سوى حدود و القصاص إذا لم يطعن الخصم قال أبي حنيفة C : لا يسأل و قالا : يسأل عن مشايخنا من قال : هذا الاختلاف اختلاف زمان لا اختلاف حقيقة لأن زمن أبي حنيفة C كان من أهل خير و صلاح لأنه زمن التابعين و قد شهد لهم النبي صلى الله عليه و سلم بالخيرية بقوله : [ خير القرون قرني الذي أنا فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب ] الحديث فكان الغالب في أهل زمانه الصلاح و السداد فوقعت الغنية عن السؤال عن حالهم في السر ثم تغير الزمان و ظهر الفساد في قرنهما فوقعت الحاجة إلى السؤال عن العدالة فكان اختلاف جوابهم لاختلاف الزمان فلا يكون اختلافا حقيقا و منهم من حقق الخلاف .
وجه قولهما : أن العدالة الظاهرة تصلح للدفع لا للإثبات لثبوتها باستصحاب الحال دون الدليل و الحاجة ههنا إلى الإثبات و هو إيجاب القضاء و الظاهر لا يصلح حجة له فلا بد من إثبات العدالة بدليلها و لأبي حنيفة ظاهر قوله D : { و كذلك جعلناكم أمة و سطا } أي عدلا .
وصف الله سبحانه و تعالى مؤمني هذه الأمة بالوساطة و هي العدالة و قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه : عدول بعضهم على بعض فصارت العدالة أصلا في المؤمنين و زوالها بعارض و لأن العدالة الحقيقية مما لا يمكن الوصول إليها فتعلق الحكم بالظاهر و قد ظهرت عدالتهم قبل السؤال عن حالهم فيجب الاكتفاء به إلا أن يقطن الخصم لأنه إذا طعن الخصم و هو صادق في الطعن فيقع التعارض بين الظاهرين فلا بد من الترجيح بالسؤال و السؤال في الحدود و القصاص طريق لدرئها و الحدود يحتال فيها للدرء .
و لو طعن المشهود عليه في حرية الشاهدين و قال : إنهما رقيقان و قالا : نحن حران فالقول قوله حتى تقول لهما البينة على حريتهما لأن الأصل في بني آدم و إن كان هو الحرية لكونهم أولاد آدم و حواء عليهما السلام و هما حران لكن الثابت بحكم استصحاب الحال لا يصلح للإلزام على الخصم و لا بد من إثباتها بالدلائل .
و الأصل فيه : أن الناس كلهم أحرار إلا في أربعة : الشهادات و الحدود و القصاص و العقل هذا إذا كانا مجهولي النسب لم تعرف حريتهما و لم تكن ظاهرة مشهورة بأن كانا من الهند أو الترك أو غيرهم ممن لا تعرف حريته أو كانا عربيين فأما إذا لم يكونا ممن يجري عليه الرق فالقول قولهما و لا يثبت رقهما إلا بالبينة