قسمة التفريق .
أما قسمة التفريق فنقول و بالله تعالى التوفيق : إن الذي تصادفه القسمة لا يخلو من أحد وجهين : .
إما أن يكون مما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين أصلا بل لهما فيه منفعة .
و إما أن يكون مما في تبعيضه مضرة فإن كان مما لا مضرة في تبعيضه أصلا بل فيه منفعة للشريكين كالمكيل و الموزون و العددي المتقارب فتجوز قسمة التفريق فيها قسمة جبر كما تجوز فيها قسمة الرضا لتحقق ما شرع له القسمة و هو تكميل منافع الملك و إن كان مما في تبعيضه ضرر فلا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون فيه ضرر بكل واحد منهما وإما أن يكون فيه ضرر بأحدهما نفع في حق الآخر فإن كان في تبعيضه ضرر بكل واحد منهما فلا تجوز قسمة الجبر فيه و ذلك نحو اللؤلؤة الواحدة و الياقوتة و الزمردة و الثوب الواحد و السرج و القوس و المصحف الكريم و القباء و الجبة و الخيمة والحائط و الحمام و البيع الصغير و الحانوت الصغير والرحى و الفرس و الجمل و البقرة و الشاة لأن القسمة في هذه الأشياء قسمة إضرار بالشريكين جميعا و القاضي لا يملك الجبر على الإضرار و كذلك النهر و القناة و العين و البئر لما قلنا فإن كان مع ذلك أرض قسمت الأرض و تركت البئر و القناة على الشركة فأما إذا كانت أنهار الأرضين متفرقة أو عيونا أو آبارا قسمت الآبار و العيون لأنه لا ضرر في القسمة وكذا الباب و الساحة و الخشبة إذا كان في قطعهما ضرر فإن كانت الخشبة كبيرة يمكن تعديل القسمة فيها من غير ضرر جازت و تجوز قسمة الرضا في هذه الأشياء بأن يقتسماها بأنفسهما بتراضيهما لأنهما يملكان الإضرار بأنفسهما مع ما أن ذلك لا يخلو عن نوع نفع و ما لا تجري فيه القسم لا يجبر واحد منهما على بيع حصته من صاحبه عند عامة العلماء و قال مالك C : إذا اختصما فيه باع القاضي و قسم الثمن بينهما والصحيح قول العامة لأن الجبر على إزالة الملك غير مشروع .
و على هذا طريق بين رجلين طلب أحدهما القسمة و أبى الآخر فإن كان يستقيم لكل واحد منهما طريق نافذ بعد القسمة يجبر على القسمة لأن القسمة تقع تحصيلا لما شرعت له و هو تكميل منافع الملك فيجبر عليها و إن كان لا يستقيم لا يجبر على القسمة لأنها قسمة إضرار بالشريكين فلا يليها القاضي إلا إذا كان لكل واحد منهما في نصيبه من الدار مفتح من وجه آخر فيقسم أيضا لأن القسمة في هذه الصورة لا تقع إضرارا و لو اقتسما بأنفسهما جازت لتراضيهما بالضرر .
و كذلك المسيل المشترك إذا طلب أحدهما القسمة و أبى الآخر وإن كان بحال لو قسم يصيب كل واحد منهما بعد القسمة قدر ما يسيل ماؤه أو كان له موضع آخر يمكنه التسييل فيه يقسم و إن لم يمكن لم يقسم لما ذكرنا في الطريق .
و على هذا إذا طلب أحدهما مفتح الدار من غير رفع الطريق و أبى الآخر إلا برفع الطريق أنه إذا كان لكل واحد منهما مفتح آخر يفتحه في نصيبه قسم بينهما بغير رفع الطريق لأن ما هو المطلوب من القسمة و هو تكميل منافع الملك في هذه القسمة أوفر و أن لم يكن رفع بينهما طريقا و قسم الباقي لأنه إذا لم يكن بينهما مفتح كانت القسمة بغير طريق تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها فكانت إضرارا بهما و هذا لا يجوز إلا إذا اقتسما بأنفسهما بغير طريق فيجوز لما قلنا .
و لو اختلفا في سعة الطريق و ضيقه جعل الطريق على قدر عرض باب الدار و طوله على أدنى ما يكفيها لأن الطريق وضع للاستطراق و الباب هو الموضوع مدخلا إلى أدنى ما يكفي للاستطراق فيحكم فيه و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و على هذا إذا بنى رجلان في أرض رجل بإذنه و طلب أحدهما قسمة البناء و أبى الآخر و صاحب الأرض غائب لم تقسم لأن الأرض المبني عليها بينهما شائع بالإعارة أو بالإجارة فلو قسم البناء بينهما لكان لكل واحد منهما سبيل في بعض نصيب صاحبه و فيه ضرر فلا يجبر على القسم و لو اقتسما بالتراضي جازت و كذا لو هدمها و كانت الآلة بينهما .
و على هذا زرع بين رجلين في أرض مملكة لهما طلب أحدهما قسمة الزرع دون الأرض فإن كانت الزرع قد بلغ و سنبل لا يقسم لما ذكرنا من قبل و لو طلبا جميعا لا يقسم أيضا لأن المانع هو الربا و حرمة الربا لا تحتمل الارتفاع بالرضا .
و إن كان الزرع بقلا فطلب أحدهما لا يقسم أيضا لأن الأرض مملوكة لهما على الشركة فلو قسم لكان كل واحد منهما بسبيل من القطع و فيه ضرر و لا جبر على الضرر .
و لو اقتسما بأنفسهما و شرطا القطع جازت لأنهما رضيا بالضرر ولو شرطا الترك لم يجز لأن رقبة الأرض مشتركة بينهما فكان شرط الترك منهما في القسمة شرطا لانتفاع كل واحد منهما بملك شريكه و مثل هذا الشرط مفسد للبيع فكان فسدا للقسمة لأن فيها معنى البيع و كذلك لو لم تكن الأرض مملوكة لهما و كانت في أيديهما بالإعارة أو بالإجارة و الزرع بقل لا تقسم لما ذكرنا و لو اقتسما بأنفسهما جازت بشرط القطع و لا تجوز بشرط الترك كالبيع على ما ذكرنا .
و كذلك طلع بين رجلين طلب أحدهما قسمة الطلع دون النخل و الأرض لم يقسم لما ذكرنا في الزرع و لو اقتسما بالتراضي فإن شرطا القطع جاز و إن شرطا الترك لم يجز لما ذكرنا في الزرع و لو تركه بعد القسمة بإذن صاحبه فأدرك و قلع فالفضل له طيب لأنه و إن حصل في ملك مشترك لكنه حصل بإذن شريكه فلا يكون خبيثا و إن لم يأذن له يتصدق بالفضل لتمكن الخبث فيه فكان سبيله التصدق .
هذا و إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بكل واحد من الشريكين فأما إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بأحدهما دون الآخر كالدار المشتركة بين رجلين و لأحدهما فيها شقص قليل فإن طلب الكثير القسمة قسمتا إجماعا لأن القسمة في حقه مفيدة لوقوعها محصلة لما شرعت له من تكميل منافع الملك و في حق صاحب القليل لقلة نصيبه فكانت القسمة في حقه منعا له من الانتفاع بنصيب شريكه فجازت و إن طلب صاحب القليل القسمة فقد ذكر الحاكم الجليل في مختصره أنه يقسم و ذكر القدوري C أنه لا يقسم .
وجه ما ذكره الحاكم : أنه لا ضرر في هذه القسمة في حق صاحب الكثير بل له في منفعة فكان في الإباء متعنتا فلا يعتبر إباؤه و صاحب القليل قد رضي بالضرر حيث طلب القسمة فيجبر على القسمة كما إذا لم يكن في تبعيضه ضرر بأحدهما أصلا بخلاف الفصل الأول لأن هنالك تقع القسمة إضرارا بكل واحد منهما و لم يوجد الرضا بالضرر و القاضي لا يملك الجبر على الإضرار فهو الفرق .
وجه ما ذكره القدوري C : أن صاحب القليل متعنت في طلب القسمة لتكون القسمة ضررا محضا في حقه فلا يعتبر طلبه و قسمة الجبر لم تشرع بدون الطلب و لو اقتسما بأنفسهما جازت لما ذكرنا أن صاحب القليل قد رضي بالضرر بنفسه و لا ضرر فيه لصاحب الكثير أصلا فجازت قسمتها و على هذا دار بين شريكين قسمت بينهما فأصاب أحدهما موضع بغير طريق شرط له في القسمة فإن كان له فيما أصابه مفتح إلى الطريق جازت القسمة لأنه لا مضرة له فيها إذ يمكنه الانتفاع بنصيبه بفتح طريق آخر و إن لم يكن له فيما أصابه مفتح أصلا فإن ذكر الحقوق في القسمة فله حق الاختيار في نصيب صاحبه لأن الطريق من الحقوق فصار مذكورا بذكر الحقوق و إن لم يذكر لم تجز القسمة لأنها قسمة إضرار في حق أحد الشريكين .
و كذلك إذا قسمت بغير مسيل شرط لأحدها و وقع المسيل في نصيب الآخر فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الطريق و لو اقتسما على أن لا طريق له و لا مسيل جازت لأنه رضي بالضرر و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و على هذا الأصل تخرج قسمة الجمع أنه لا يجبر عليها في جنسين لأنها في الأجناس المختلفة تقع إضرارا في حق أحدهما فلا يجبر عليها على ما سنذكر إن شاء الله تعالى .
هذا الذي ذكرنا قسمة التفريق و أما قسمة الجمع فهي أن يجمع نصيب كل واحد من الشريكين في عين على حدة و أنها جائزة في جنس واحد و لا تجوز في جنسين لأنها عند اتحاد الجنس تقع وسيلة إلى ما شرعت له و هو تكميل منافع الملك و عند اختلاف الجنس تقع تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها .
إذا عرفت هذا فنقول : لا خلاف في الأمثال المتساوية و هي المكيلات و الموزونات و العدديات المتقاربة من جنس واحد تقسم قسمة جمع لأنه يمكن استيفاء ما شرعت له القسمة فيها من غير ضرر لانعدام التفاوت و كذلك تبر الذهب و تبر النحاس و تبر الحديد لما قلنا و كذلك الثياب إذا كانت من جنس واحد كالهروية و كذلك الإبل و البقر و الغنم لأن التفاوت عند اتحاد الجنس و المطلوب لا يتفاحش بل يقل و التفاوت القليل ملحق بالعدم أو يجبر بالقيمة فيمكن تعديل القسمة فيه و كذلك اللآلىء المنفردة و كذا اليواقيت المنفرد لما قلنا و كذا لا خلاف في أنه لا يقسم في جنسين من المكيل و الموزون و المذروع و العددي قسمة جمع كالحنطة و الشعير و القطن و الحديد و الجوز و اللوز و الثياب البردية و المروية و كذلك اللآلىء و اليواقيت و كذا الخيل و الإبل و البقر و الغنم و كذا إذا كان من كل جنس فرد كبرذون و جمل و بقرة و شاة و ثوب و قباء و جبة و قميص و وسادة و بساط لأن هذه الأشياء لو قسمت على الجمع كان لا يخلو من أحد وجهين : إما أن تقسم باعتبار أعيانها و أما أن تقسم باعتبار قيمتها بان يضم إلى بعضها دراهم أو دنانير .
لا سبيل إلى الأول لأن فيه ضررا بأحدهما لكثرة التفاوت عند اختلاف الجنس و القاضي لا يملك الجبر على الضرر و لا سبيل إلى الثاني لأن ذلك قسمة في غير محلها لأن محلها الملك المشترك و لم يوجد في الدراهم .
و لو اقتسما بأنفسهما أو تراضيا على ذلك جازت القسمة حتى لو اقتسما ثوبين مختلفي القيمة و زاد مع الأوكس دراهم مسماة جاز و كذا في سائر المواضع و يكون ذلك قسمة الرضا لا قسمة القضاء و كذا الأواني سواء اختلفت أصولها أو اتحدت لأنها بالصناعة أخذت حكم جنسين حتى جاز بيع الأواني الصغار واحدا باثنين .
و أما الرقيق فلا يقسم عند أبي حنيفة C قسمة جمع و عندهما يقسم و جه قولهما : أن الرقيق على اختلاف أوصافها و قيمتها جنس واحد فاحتمل القسمة كسائر الحيوانات من الإبل و البقر و الغنم و ما فيها من التفاوت يمكن تعديله بالقيمة .
وجه قول أبي حنيفة : أنه لم يوجد شرط القسمة و جواز محال و بيان ذلك على نحو ما ذكرنا : أنا لو قسمناها رقا باعتبار أعيانها فقد أضررنا بأحدهما لتفاحش التفاوت بين عبد و عبد في المعاني المطلوبة من هذا الجنس فكانا في حكم جنسين مختلفين و من شرط جواز هذه القسمة أن لا تتضمن ضررا بالمقسوم عليه و لو قسمناها باعتبار القيمة لوقعت القسمة في غير محلها لأن محلها الملك المشترك و لا شركة في القيمة و المحلية من شرائط صحة التصرف فصح ما ذكرنا و لو اقتسما بأنفسهما جاز لتراضيهما بالضرر و كذا لو كان مع الرقيق غيره قسم كذا ذكره في كتاب القسمة لأنه إن كان لا يحتمل القسمة مقصودا فيجعل تبعا لما يحتملها فيقسم بطريق التبعية كالشرب و الطريق أنه لا يجوز بيعهما مقصودا ثم يدخلان في البيع تبعا للنهر و الأرض كذا هذا .
و ذكر الجصاص أن المذكور في الأصل محمول على قسمة الرضا .
و أما قسمة القضاء فلا تجوز و إن كان مع غيره لأن غير المقسوم ليس تبعا للمقسوم بل هو أصل بنفسه بخلاف الشرب و الطريق و كذلك الدور عند أبي حنيفة لا تقسم قسمة جمع حتى لو كان بين رجلين داران تقسم كل واحدة على حدتها سواء كانتا منفصلتين أو متلاصقتين و عندهما ينظر القاضي في ذلك إن كان الأعدل في الجمع و إن كان الأعدل في التفريق فرق .
و كذا لو كان بينهما أرضان أو كرمان فهو علىالاختلاف و أما البيتان فيقسمان قسمة جمع إجماعا متصلين كانا أو منفصلين و كذا المنزلان المتصلان و أما المنفصلان في دار واحدة فعلى الخلاف وجه قولهما أن الدور كلها جنس واحد و التفاوت الذي بين الداربن يمكن تعديله بالقيمة فيفوض إلى رأي القاضي إن رأى العدل في التفريق فرق و إن رأى الأعدل في الجميع جمع .
و أبي حنيفة C : على نحو ما ذكرنا في الرقيق إن القسمة فيها باعتبار أعيانها و يقع ضرر التفاوت متفاحشا بين دار و دار لاختلاف الدور في أنفسها و اختلافها باختلاف البناء و البقاع فكانا في حكم جنسين مختلفين و القسمة فيها باعتبار القيمة تقع تصرفا في غير محله فلا يصح .
و لو اقتسما بأنفسهما أو بالقاضي بتراضيهما جاز لما مر و الله الله تعالى أعلم و أما دار و ضعية أو دار و حانوت فلا يجمع بالإجماع بل يقسم كل واحد على حدة لا ختلاف الجنس .
و منها : الطلب في أحد نوعي القسمة و هو قسمة الجبر حتى إنه لو لم يوجد الطلب من أحد من الشركاء أصلا لم تجز القسمة لأن القسمة من القاضي تصرف في ملك الغير و التصرف في ملك الغير من غير إذنه محظور في الأصل إلا أنه عند طلب البعض يرتفع الحظر لأنه إذا طلب علم أنه له في استيفاء هذه الشركة ضررا إذ لو كان الطلب لتكميل المنفعة لطلب صاحبه و كان عليه أن يمتنع من الإضرار ديانة فإذا أبى القسمة علم أنه لا يمتنع فيدفع القاضي ضرره بالقسمة فكانت القسمة في هذه الصورة من باب دفع الضرر و القاضي نصب له .
و نظيره الشفعة فإن الشفيع يتملك الدار على المشتري بالشفعة من غير رضى دفعا لضرره لأنه لما طلب الشفعة علم أنه يتضرر بجواره فالشرع دفع ضرره عنه بإثبات حق التمليك بالشفعة جبراعليه كذا هذا .
و منها : الرضا في أحد نوعي القسمة و هو رضا الشركاء فيما يقسمونه بأنفسهم إذا كانوا من أهل الرضا او رضا من يقوم مقامهم إذا لم يكونوا من أهل الرضا فإن لم يوجد لا يصح حتى لو كان في الورثة صغير لا و صي له أو كبير غائب فاقتسموا فالقسمة باطلة لما ذكرنا أن القسمة فيها معنى البيع و قسمة الرضا أشبه بالبيع ثم لا يملكون البيع إلا بالتراضي فكذا القسمة إلا إذا لم يكونوا من أهل الرضا كالصبيان و المجانين فيقسم الولي أو الوصي إذا كان في القسمة منفعة لهم لأنهما يملكان البيع فيملكان القسمة .
و كذا إذا كان فيهم صغير و له ولي أو وصي يقتسمون برضا الولي أو الوصي فإذا لم يكن نصب القاضي عن الصغير وصيا و اقتسموا برضاه فإن أبى ترافعوا إلى القاضي حتى يقسم بينهم .
و منها : حضرة الشركاء أو من يقوم مقامهم في نوعي القسمة حتى لو كان فيهم كبير غائب لا تجوز القسمة أصلا و لا يقسم القاضي أيضا إذا لم يكن عنه خصم حاضر و لكنه لة قسم لا تنقض قسمته لأنه صادف محل الاجتهاد فلا ينقض و منها البينة في قسمة القضاء في لإقرار بميراث الإقرار عند أبي حنيفة C و عندهما ليست بشرط و يقسم بإقرارهم فنقول : جملة الكلام في بيان هذين الشرطين أن جماعة إذا جاؤوا إلى القاضي و هم عقلاء بالغون أصحاء في أيديهم مال فأقروا أنه ملكهم و طلبوا القسمة من القاضي فهذا لا يخلو في الأصل من أحد و جهين إما أن يقروا بالملك مطلقا عن ذكر سبب و إما أن يقروا بالملك بسبب ادعوا انتقال الملك به من أحد و كل وجه على و جهين إما أن يكون المال الذي في أيديهم منقولا و إما أن يكون عقارا فإن أقروا بالملك مطلقا عن سبب الانتقال قسم بإقرارهم و يذكر في الإشهاد في كتاب الصك أني قسمت بإقرارهم و لم أقض فيه على أحد و لا يطلب منهم البينة على أصل الملك منقولا كان المال أو عقارا إذا لم يكن فيهم كبير غائب لأنه وجد دليل الملك و هو اليد و الإقرار من غير منازع و لا دعوى انتقال الملك من أحد إليه فإن كان فيهم كبير غائب لم يقسم لما ذكرنا إن حضرة الشركاء أو من يقوم مقامهم شرط و لم يوجد لأن الخصوم في هذا الموضع لا يصلحون خصما عن الغائب .
و إن أقروا بالملك بسبب الميراث بأن قالوا هو بيننا ميراث عن فلان فإن كان المال منقولا قسم بينهم بإقرارهم بالإجماع و لا تطلب منهم البينة و إن كان فيهم كبير غائب بعد أن كان الحاضران اثنين كبيرين أو أحدهما صغير قد نصب عنه وصي و إن كان المال عقارا فلا يقسم عند أبي حنيفة C حتى يقيموا البينة على موت فلان و على عدد الورثة و عند أبي يوسف و محمد رحمهما الله يقسم بينهم بإقرارهم و يشهد على ذلك في الصك .
وجه قولهما : أن محل قسمة الملك المشترك و قد وجد لوجود دليل الملك و هو اليد و الإقرار من غير منازع فصادفت القسمة محلها فيقسم و يكتب أنه قسم بإقرارهم كما في المنقول و لأن البينة إنما تقام على منكر و الكل مقرون فعلى من تقام البينة ؟ وجه قول أبي حنيفة : أن هذه قسمة صادفت حق الميت بالإبطال فلا تصح إلا ببينة كدعوى الاستحقاق على الميت .
و بيان ذلك : أن الدار قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت بدليل أن الزوائد الحادثة قبل القسمة تحدث على ملكه حتى لو كانت التركة شجرة فأثمرت كان الثمر له حتى تقضى منه ديونه و تنفذ منه و صاياه فكانت القسمة تصرفا على ملكه بالإبطال فلا يجوز إلا ببينة بخلاف المنقول لأن القسمة ليس قطعا لحق الميت بل هي حفظ حق الميت لأن المنقول محتاج إلى الحفظ و القسمة نوع حفظ له و أما العقار فمستغن عن الحفظ فبقيت قسمته قطعا لحقه فلا يملك إلا ببينة .
و أما قولهما : لا منكر ههنا فعلى من تقام البينة ؟ قلنا : تقام على بعض الورثة من البعض و إن كانوا مقرين و ذلك جائز كالأب أو الوصي إذا أقرا على الصغير لا يصح إقراره إلا بالبينة و لا منكر ههنا كذا هذا .
هذا إذا أقر بالملك بسبب الإرث فإن أقروا به بسبب الشراء من فلان الغائب فإن كان المال منقولا قسم بينهم بإقرارهم بلا خلاف و إن كان عقارا ذكر في ظاهر الرواية أنه يقسم بإقرارهم و لا تطلب منهم البينة على شراء من فلان و فرق بين الشراء و بين الميراث .
و روى عن أبي حنيفة Bه : أنه لا يقسم إلا بالبينة كالميراث .
وجه هذه الرواية : أنهم لما اقروا أنهم ملكوه بالشراء من فلان فقد اقروا بالملك له و ادعوا الانتقال إليهم من جهته فإقرارهم مسلم و دعواهم ممنوعة و محتاجة إلى الدليل و هو البينة وجه ظاهر الرواية : و هو الفرق بين الشراء و بين الميراث : أن امتناع القسمة في المواريث بنفس الإقرار لما يتضمن من إبطال حق الميت و ذلك منعدم في باب البيع إذ لا حق باق للبائع في المبيع بعد البيع و التسليم فصادفت محلها فصحت هذا إذا لم يكن في الورثة كبيرغائب أو صغير حاضر فإن كانوا فأقروا بالميراث فلا يشكل عند أبي حنيفة Bه أنه لا يقسم بإقرارهم لأنه لا يقسم بين الكبار الحضور فكيف يقسم ههنا ؟ و أما عندهما فينظر إن كانت الدار في يد الكبار الحضور يقسم بينهم لما بينا و يضع حصة الغائب على يد عدل يحفظه لأن بعض الورثة خصم من البعض و ينصب عن الصغير و صيا و إن كانت الدار في يد الغائب الكبير أو في يد الحاضر الصغير أو في أيديهما منها شيء لا يقسم حتى تقوم البينة على الميراث و عدد الروثة بالإجماع لا إذا كان في يده من الدار شيء فالحاجة إلى استحقاق ذلك من يده فلا يصح إلا ببينة هذا إذا لم تقم البينة على ميراث العقار فأما إذا قامت البينة عليه و طلبوا القسمة فإنه ينظر إن كان الحاضر اثنين فصاعدا و الغائب واحد أو أكثر و فيهم صغير حاضر فإنه يقسم و يعزل نصيب كل كبير و صغير فيوكل و كيلا بحفظه بخلاف الملك المطلق إذا حضر شريكان و شريك غائب أنه لا يقسم .
و وجه الفرق ما ذكرنا : أن قسمة العقار تصرف على الميت و قضاء عليه بقطع حقه عن التركة و كل واحد من الورثة قائم مقام الميت فيما له و عليه و لهذا يرد كل واحد منهم بالعيب و يرد عليه فإذا كان الحاضر اثنين فصاعدا أمكن أن يجعل أحدهما خصما عن الميت في القضاء عليه و الآخر مقضيا له فتصح القسمة و إن كان الحاضر واحد و الباقون غيبا لم يقسم لأنه لا يمكن أن يجعل هو خصما عن الميت حتى تسمع البينة عليه لا ستحالة كون الشخص الواحد في زمان واحد بجهة واحدة مقضيا له و عليه .
و إن كان مع الحاضر وارث صغير نصب القاضي عنه وصيا و قسم لأن القسمة ههنا ممكنة لوجود متقاسمين حاضرين و إذا قسم المنقول بين الورثة بإقرارهم أو العقار بالبينة عند أبي حنيفة C و فيهم كبير غائب فعزل نصيبه و وضعه على يدي عدل ثم حضر الغائب فإن أقر كما أقروا أولئك فقد مضى الأمر و إن أنكر ترد القسمة في المنقول بالإجماع .
و كذلك في العقار عند أبي يوسف و محمد و عند أبي حنيفة عليه الرحمة في العقار لا ترد القسمة لأن القسمة المبنية على البينة قد تقدمت على الغائب فلا يعتبر إنكاره .
و لو كانت الدار ميراثا و فيها و صية بالثلث و بعض الورثة غائب فطلب الموصى له بالثلث القسمة بعدما أقام البينة على الميراث و الثلث قسم لأن الموصى له بمنزلة واحدة من الورثة فإذا كان معه وارث حاضر فكأنه حضر اثنان من الورثة و لو كان كذلك قسم و إن كان الباقون غيبا كذا هذا و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و منها : أن يكون المقسوم عليه مالكا للمقسوم و قت القسمة و هو أن يكون له فيه ملك فإن لم يكن لم تجز القسمة لما سنذكر إن شاء الله تعالى