صفات الحدود .
فصل : و أما صفات الحدود فنقول و بالله التوفيق : لا خلاف في حدثني الزنا و الشرب و السكر و السرقة أنه لا يحتمل العفو و الصلح و الإبراء بعدما ثبت بالحجة لأنه حق الله تعالى خالصا لا حق للعبد فيه فلا يملك إسقاطه و كذا يجري فيه التداخل حتى لو زنا مرارا أو شرب الخمر مرارا أو سكر مرارا لا يوجب عليه إلا حدثني واحد لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر و أنه يحصل بحد واحد فكان في الثاني و الثالث احتمال عدم حصول المقصود فكان فيه احتمال عدم الفائدة و لا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة .
و لو زنا او شرب أو سكر أو سرق فحد ثم زنا أو شرب أو سرق يحد ثانيا لأنه تبين أن المقصود لم يحصل و كذا إذا سرق سرقات من أناس مختلفة فخاصموا جميعا فقطع لهم كان القطع عن السرقات كلها و الكلام في الضمان نذكره في كتاب السرقة إن شاء الله تعالى .
و أما حد القذف إذا ثبت بالحجة فكذلك عندنا لا يجوز العفو عنه و الإبرار و الصلح و كذلك إذا عفا المقذوف قبل المرافعة أو صالح على مال فذلك باطل و يرد بدل الصلح و له أن يطالبه بعد ذلك و عند الشافعي C يصح ذلك كله و هو إحدى الروايتين عن أبي يوسف C و كذا يجري فيه التداخل عندنا حتى لو قذف إنسانا بالزنا بكلمة أو قذف كل واحد بكلام على حدة لا يجب عليه إلا حدثني واحد سواء حضروا جميعا أو حضر واحد .
و قال الشافعي C : إذا قذف كل واحد بكلام على حدة فعليه لكل واحد حد على حدة و لو ضرب القاذف تسعة و سبعين سوطا ثم قذف آخر ضرب السوط الأخير فقط عندنا و عنده يضرب السوط الأخير للأول و ثمانين سوطا آخر للثاني .
و لو قذف رجلا فحد ثم قذف آخر يحد للثاني بلا خلاف و كذا هذا الحد لا يورث عند أصحابنا Bهم و عندهم يورث و يقسم بين الورثة على فرائض الله عز شأنه في قول و في قول يقسم بين الورثة إلا الزوج و الزوجة و الكلام في هذه الفرع بناء على أصل مختلف بيننا و بينه و هو أن حد القذف خالص حق الله سبحانه و تعالى أو المغلب فيه و حق العبد مغلوب عندنا و عنده هو حق العبد أو المغلب حق العبد .
و جه قوله : أن سبب و جوب هذا الحد هو القذف و القذف جناية على عرض المقذوف بالتعرض و عرضه حقه بدليل أن بدل نفسه حقه و هو القصاص في العمد أو الدية في الخطأ فكان البدل حقه و الجزاء الواجب على حق الإنسان حقه كالقصاص و الدليل عليه أنه يشترط فيه الدعوى و الدعوى لا تشترط في حقوق الله تبارك و تعالى كسائر الحقوق إلا أنه لم يفوض استيفاؤه إلى المقذوف لأجل التهمة لأن ضرب القذف أخف الضربات في الشرع فلو فوض إليه إقامة هذا الحد فربما يقيمه على وجه الشدة لما لحقه من الغيظ بسبب القذف ففوض استيفاؤه إلى الإمام دفعا للتهمة لا لأنه حق الله تعالى عز شأنه .
و لنا : أن سائر الحدود إنما كانت حقوق الله تبارك و تعالى على الخلوص لأنها و جبت لمصالح العامة و هي دفع فساد يرجع إليهم و يقع حصول الصيانة لهم فحد الزنا وجب لصيانة الإبضاع عن التعرض و حد السرقة و قطع الطريق وجب لصيانة الأموال و الأنفس عن القاصدين و حد الشرب وجب لصيانة الأنفس و الأموال و الأبضاع في الحقيقة بواسطة صيانة العقول عن زوال و الاستتار بالسكر و كل جناية يرجع فسادها إلى العامة و منفعة جزائها يعود إلى العامة كان الجزاء الواجب بها حق الله عز شأنه على الخلوص تأكيدا للنفع و الدفع كيلا يسقط بإسقاط العبد و هو معنى نسبه هذه الحقوق إلى الله تبارك و تعالى و هذا المعنى موجود في حد القذف لأن مصلحة الصيانة و دفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد فكان حق الله عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف و هذا لا ينفي كونه حقا لله تعالى عز شأنه على الخلوص كحد السرقة أنه خالص حق الله عز شأنه و إن كانت الدعوى من المسروق منه شرطا ثم نقول : إنما شرط فيه الدعوى و إن كان خالص حق الله تعالى عز اسمه لأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرا و غالبا دفعا للعار عن نفسه فيحصل ماهو المقصود من شرع الحد كما في السرقة و لأن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة إما صورة ومعنى و إما معنى لا صورة لأنها تجب بمقابلة المحل جبرا و الجبر لا يحصل إلا بالمثل و لا مماثلة بين الحد و القذف لا صورة و لا معنى فلا يكون حقه و أما حقوق الله سبحانه و تعالى فلا يعتبر فيها المماثلة لأنها تجب جزاء للفعل كسائر الحدود .
و لنا أيضا دلالة الإجماع من و جهين : .
أحدهما : أن ولاية الاستيفاء للإمام بالإجماع و لو كان حق المقذوف لكان ولاية الاستيفاء له كما في القصاص .
و الثاني : أنه يتنصف برق القاذف و حق الله تعالى هو الذي يحتمل التنصيف بالرق لا حق العبد لأن حقوق الله تعالى تجب جزاء للفعل و الجزاء يزداد بزيادة الجناية و ينتقص بنقصانها و الجناية تتكامل بكامل حال الجاني و تنقص بنقصان حاله فأما حق العبد فإنه يجب بمقابلة المحل و لا يختلف باختلاف حال الجاني .
و إذا ثبت أن حد القذف حق الله تعالى خالصا أو المغلب فيه حقه فنقول : لا يصح العفو عنه لأن العفو إنما يكون من صاحب الحق و لا يصح الصلح و الاعتياض لأن الاعتياض عن حق الغير لا يصح و لا يجري فيه الإرث لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث على ما قال E : [ من ترك مالا أو حقا فهو لورثته ] و لم يوجد شيء من ذلك فلا يورث و لا يجري فيه التداخل لما ذكرنا و الله أعلم