فصل : حكم السرقة .
و أما حكم السرقة فنقول و بالله التوفيق : للسرقة حكمان : أحدهما يتعلق بالنفس و الآخر يتعلق بالمال .
أما الذي يتعلق بالنفس فالقطع لقوله سبحانه و تعالى : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و لما روينا من الأخبار و عليه إجماع الأمة فالكلام في هذا الحكم يقع في مواضع : في بيان صفات هذا الحكم و في بيان محل إقامته و في بيان من يقيمه و في بيان ما يسقط بعد ثبوته و في بيان حكم السقوط بعد الثبوت أو عدم الثبوت أصلا لمانع من الشبهة .
أما صفات هذا الحكم فأنواع : .
منها : أن يبقى وجوب ضمان المسروق عندنا فلا يجب الضمان و القطع في سرقة واحدة لقب المسألة أن الضمان و القطع هل يجتمعان في سرقة واحدة ؟ عندنا لا يجتمعان حتى لو هلك المسروق في يد السارق بعد القطع أو قبله لا ضمان عليه و عند الشافعي رحمه فيقطع و يضمن ما استهلكه .
وجه قوله : أنه وجد من السارق سبب وجوب القطع و الضمان فيجبان جميعا و إنما قلنا ذلك لأنه وجد منه السرقة و أنها سبب لوجوب القطع و الضمان لأنها جناية حقين حق الله عز و جل و حق المسروق منه .
أما الجناية على حق الله سبحانه و تعالى : فهتك حرمة حفظ الله سبحانه و تعالى إذ المال حال غيبة المالك محفوظ بحفظ الله سبحانه و تعالى و أما الجناية على حق العبد : فإتلاف ماله فكانت الجناية على حقين فكانت مضمونة بضمانين فيجب ضمانة القطع من حيث إنها جناية على حق الله سبحانه و تعالى و ضمان المال من حيث إنها جناية على حق العبد كمن شرب خمر الذمي أنه يجب عليه الحد حقا لله تعالى و الضمان حقا للعبيد .
و كذا قتل الخطأ يوجب الكفارة حقا لله تعالى والدية حقا للعبد كذا هذا و الدليل عليه : أن المسروق لو كان قائما يجب رده على المالك فدل أنه بقي معصوما حقا للمالك .
و لنا الكتاب و السنة و المعقول : أما الكتاب العزيز : فقوله سبحانه و تعالى : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } و الاستدلال بالآية من وجهين : .
أحدهما : أن الله سبحانه و تعالى سمى القطع جزاء و الجزاء يبنى على الكفاية فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيا فلم يكن جزاء تعالى الله سبحانه عز شأنه عن الخلف في الخبر .
و الثاني : أنه جعل القطع كل الجزاء لأنه عز شأنه ذكره و لم يذكر غيره فلو أوجبنا الضمان لصار القطع بعض الجزاء فيكون نسخا لنص الكتاب العزيز .
و أما السنة : فما روي [ عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف Bه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا قطع السارق فلا غرم عليه ] و الغرم في اللغة ما يلزم أداؤه و هذا نص في الباب .
و أما المعقول فمن وجهين : .
أحدهما : بناء و الآخر ابتداء أما وجه البناء : فهو أن المضمونات عندنا تملك عند أداء الضمان أو اختياره من وقت الأخذ فلو ضمنا السارق قيمة المسروق أو مثله لملك المسروق من وقت الأخذ فتبين أنه قطع في ملك نفسه و ذلك لا يجوز .
و أما وجه الابتداء فما قاله بعض مشايخنا و هو أن الضمان إنما يجب بأخذ مال معصوم ثبتت عصمته حقا للمالك فيجب أن يكون المضمون بهذه الصفة ليكون اعتداء بالمثل في ضمان العدوانات و المضمون حالة السرقة خرج من أن يكون معصوما حقا للمالك بدلالة وجوب القطع و لو بقي معصوما حقا للمالك لما وجب إذا الثابت حقا للعبد يثبت لدفع حاجته و حاجة السارق كحاجة المسروق منه فتتمكن فيه شبهة الإباحة و إنها تمنع وجوب القطع و القطع واجب فينتفي الضمان ضرورة إلا أنه وجب رد المسروق حال قيامه لأن وجوب الرد يقف على الملك على العصمة .
ألا ترى أن من غصب خمر المسلم يؤمر بالرد إليه لقيام ملكه فيها و لو هلكت في يد الغاصب لا ضمان عليه لعدم العصمة فلم يكن من ضرورة سقوط العصمة الثابتة حقا للعبد زوال ملكه عن المحل و ههنا الملك قائم فيؤمر بالرد إليه و العصمة زائلة فلو يكون مضمونا بالهلاك و يخرج على هذا الأصل مسائل إذا استهلك السارق و المسروق بعد القطع لا يضمن في ظاهر الرواية و روى الحسن عن أبي حنيفة C أنه يضمن .
وجه هذه الرواية : أن المسروق بعد القطع بقي على ملك المسروق منه ألا تعرى أن يجب رده على المالك و قبض السارق ليس بقبض مضمون فكان المسروق في يده بمنزلة الأمانة فإذا استهلكها ضمن .
وجه ظاهر الرواية : أن عصمة المحل الثابتة حقا للمالك قد سقطت في حق السارق لضرورة إمكان إيجاب القطع فلا يعود إلا بالرد إلى المالك فلم يكن معصوما قبله فلا يكون مضمونا و لو استهلك رجل آخر يضمنه لأن العصمة إنما سقطت في حق السارق لا في حق غيره فيضمن و لو سقط القطع لشبهة ضمن لأن المانع من الضمان هو القطع و قد زال المانع .
و لو باع السارق المسروق من إنسان أو ملكت منه بوجه من الوجوه فإن كان قائما فلصاحبه أن يأخذه لأنه عين ملكه و للمأخوذ منه أن يرجع على السارق بالثمن الذي دفعه لأن الرجوع بالثمن لا يوجب ضمانا على السارق في عين المسروق لأن يرجع عليه بثمن المسروق لا بقيمته ليوجب ذلك ملك المسروق للسارق و إن كان هلك في يده فلا ضمان على السارق و لا على القابض هكذا روي عن أبي يوسف .
أما السارق فلأن القطع ينفي الضمان و أما المشتري فلأنه لو ضمنه المالك لكان له أن يرجع بالضمان على السارق فيصر كأن المالك ضمن السارق و قطعه ينفي الضمان عنه و إن كان استهلكه القابض كان للمالك أن يضمنه القيمة لأنه قبض ماله بغير إذنه و هلك في يده و للمشتري أن يرجع على السارق بالثمن لأن الرجوع بالثمن ليس بتضمين .
و لو اغتصبه إنسان من السارق فهلك في يده بعد القطع فلا ضمان للسارق و للمسروق منه .
أما السارق فلأنه ليس بمالك و أما المالك فلأن العصمة الثابتة له حقا قد بطلت .
قال القدوري : و كان للمولى أن يضمنه الغاصب لأنه لو ضمن لا يرجع بالضمان على السارق و على هذا يخرج ما إذا سرق ثوبا فخرقه في الدار خرقا فاحشا ثم أخرجه و هو يساوي عشرة دراهم لا يقطع لأن الخرق الفاحش سبب لوجوب الضمان و أنه يوجب ملك المضمون و ذلك يمنع القطع و إن خرقه عرضا فقد مر الاختلاف فيه .
و منها : أن يجري فيه التداخل حتى إنه لو سرق سرقات فرفع فيها كلها فقطع أو رفع في بعضها فقطع فيما رفع فالقطع للسرقات كلها و لا يقطع في شيء منها بعد ذلك لأن أسباب الحدود إذا اجتمعت و إنها من جنس واحد يكتفي فيها بحد واحد كما في الزنا و هذا لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر و الردع و ذلك يحصل بإقامة الحد الواحد فكان في إقامة الثاني و الثالث شبهة عدم الفائدة فلا يقام و لهذا يكتفي في باب الزنا بالإقامة لأول حد كذا هذا و لأن محل الإقامة قد فات إذ محلها اليد اليمنى لأن كل سرقة وجدت ما أوجبت إلا قطع اليد اليمنى فإذا قطعت في واحدة منها فقد فات محل الإقامة و صار كما لو ذهبت اليد بآفة سماوية .
و أما حكم الضمان فلا خلاف بين أصحابنا Bه في إنه إذا حضر أصحاب السرقات و خاصموا فيها فقطع بمخاصمتهم انه لا ضمان على السارق في السرقات كلها لأن مخاصمة المسروق منه بالقطع بمنزلة الإبراء عن الضمان عندنا فإذا خاصموا جميعا فكأنهم أبرؤوا و أما إذا خاصم واحد في سرقة فقطع فلا ضمان على السارق فيما خوصم بإجماع بين أصحابنا Bهم و أما فيما لم يخاصم فيه فقد اختلفوا .
قال أبو حنيفة C : لا ضمان عليه في شيء من السرقات خاصموا أو لم يخاصموا .
و قال أبو يوسف و محمد رحمهما الله : يضمن في السرقات كلها إلا فيما خوصم .
وجه قولهما : أن المسروق منه مخير بين أن يدعي المال يستوفي حقه و هو الضمان و بين أن يدعي السرقة ليستوفي حق الله سبحانه و تعالى و هو القطع و لا ضمان له فكان سقوط الضمان مبينا على دعوى السرقة و الخصومة فيها فمن خاصم منهم فقد وجد منه ما يوجب سقوط الضمان و من لم يخاصم لم يوجد منه المسقط فيبقى حقه في الضمان كما كان .
و لأبي حنيفة C : أن النافي للضمان هو القطع و القطع وقع للسرقات كلها فينفي الضمان في السرقات كلها هذا إذا كان المسروق هالكا أما إذا كان قائما رد كل مسروق إلى صاحبه لأن القطع بنفي الضمان لا الرد .
و منها أنه لا يحتمل العفو حتى لو أمر الإمام يقطع السارق فعفا عنه المسروق منه كان عفوه باطلا لأن صحة العفو يعتمد كون المعفو عنه حقا للعافي و القطع خالص حق الله سبحانه و تعالى و لا حق للعبد فيه فلا يصح عفوه و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و أما محل إقامة هذا الحكم فالكلام فيه في موضعين : .
أحدهما : في بيان أصل المحل و مراعاة لترتيب فيه .
و الثاني : في بيان موضع إقامة الحكم منه أما الأول فأصل المحل عند أصحابنا طرفان فقط و هما اليد اليمنى و الرجل اليسرى فنقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى و تقطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية و لا يقطع بعد ذلك أصلا و لكنه يضمن السرقة و يعزر و يحبس حتى يحدث توبة عندنا و عند الشافعي C الأطراف الأربعة محل القطع على الترتيب فتقطع اليد اليمنى في المرة الأولى و تقطع الرجل اليسرى في المرة الثانية و تقطع اليد اليسرى في المرة الثالثة و تقطع الرجل اليمنى في السرقة الرابعة .
احتج الشافعي C بقوله تعالى : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و الأيدي اسم جمع و الاثنان فما فوقهما جماعة على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال الله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } و أنه لم يكن لكل واحد إلا قلب واحد إلا أن الترتيب في قطع الأيدي ثبت بدليل آخر و هذا لا يخرج اليد اليسرى من أن تكون محلا للقطع في الجملة .
و روي أن سيدنا أبا بكر Bه : قطع سارق حلي أسماء و كان أقطع اليد و الرجل .
و لنا : ما روي أن سيدنا عليا Bه [ أتي بسارق فقطع يده ثم أتي به و الثانية و قد سرق فقطع رجله ثم أتي به الثالثة و قد سرق فقال لا أقطعه إن قطعت يده فبأي شيء يأكل ؟ بأي شيء يتمسح ؟ و إن قطعت رجله بأي شيء يمشي ؟ إني لأستحي من الله فضربه بخشبة و حبسه ] .
و روي أن سيدنا عمر Bه : [ أتي بسارق أقطع اليد و الرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم و أراد أن يقطعه فقال له سيدنا علي Bه : إنما عليه قطع يد و رجل فحبسه سيدنا عمر Bه و لم يقطعه ] و سيدنا عمر و علي Bهما لم يزيدا في القطع على قطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى و كان ذلك بمحضر من الصحابة Bهم و لم ينقل أنه أنكر عليهما منكر فيكون إجماعا من الصحابة Bهم .
و لنا : أيضا دلالة الإجماع و المعقول أما دلالة الإجماع : فهي أنا أجمعنا على أن اليد اليمنى إذا كانت مقطوعة لا يعدل إلى اليد اليسرى بل إلى الرجل اليسرى و لو كان لليد اليسرى مدخلا في القطع لكان لا يعدل إلا إليها لأنها منصوص عليها و لا يعدل عن المنصوص عليه إلى غيره فدل العدول إلى الرجل اليسرى لا إليها على أنه لا مدخل لها في القطع بالسرقة أصلا و هذا النوع من الاستدلال ذكره الكرخي C .
و أما المعقول : فهو أن في قطع اليد اليسرى تفويت جنس منفعة من منافع النفس أصلا و هي منفعة البطش لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد قطع اليمنى فتصير النفس في حق هذه المنفعة هالكة فكان قطع اليد اليسرى إهلاك النفس من وجه و كذا قطع الرجل اليمنى بعد قطع الرجل اليسرى تفويت منفعة المشي لأن منفعة المشي تفوت بالكلية فكان قطع الرجل اليمنى إهلاك النفس من كل وجه و إهلاك النفس من كل وجه لا يصلح حدا في السرقة كذا إهلاك النفس من وجه لأن الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في الحدود احيتاطا و لا حجة له في الآية الشريفة لأن ابن مسعود Bه قال : { فاقطعوا أيديهما } و لا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه بل سماعا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرجت قراءته مخرج التفسير لمبهم الكتاب العزيز .
و هكذا روي عن عبد الله بن عباس Bهما في قوله عز و جل : { فاقطعوا أيديهما } أنه قال : أيمانهما و هكذا روي عن الحسن و إبراهيم رحمهما الله .
و أما حديث لا قطع فقد روى الزهري في الموطأ عن سيدتنا عائشة Bه أنها قالت : لما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى فقطع سيدنا أبو بكر Bه رجله اليسرى و كانت تنكر أن يكون أقطع اليد و الرجل ثم إنما تقطع يده اليمنى في الكرة الأولى إذا كانت اليد اليسرى صحيحة يمكنه أن اليد اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الإبهام أو أصبعين سوى الإبهام لا تقطع اليد اليمنى لأن القطع في السرقة شرع زاجرا لا مهلكا فإذا لم تكن اليد اليسرى يمكن الانتفاع بها فقطع اليد اليمنى يقع تفويتا لجنس المنفعة و هي منفعة البطش أصلا فيقع إهلاكا للنفس من وجه فلا تقطع و لا يقطع رجله اليسرى أيضا لأنه يذهب أحد الشقين على الكمال فيهلك النفس من وجه .
و لو كانت اليد اليسرى مقطوعة أصبع واحدة سوى الإبهام تقطع يده اليمنى لأن القطع لا يتضمن فوات جنس المنفعة .
و كذا إن كانت الرجل اليمنى مقطوعة أو شلاء أو بها عرج يمنع المشي عليها لا تقطع اليد اليمنى لما فيه من فوات الشق و لا رجله اليسرى و إن كانت صحيحة أنها يبقى بلا رجلين فيفوت جنس المنفعة .
و لو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها فإن كان يستطيع القيام و المشي عليها تقطع يده اليمنى لأن الجنس لا يفوت و إن كان لا يستطيع لا يقطع لفوات الشق .
و لو كانت يداه صحيحتين و لكن رجله اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع تقطع يده اليمنى لأن جنس المنفعة لا يفوت و لا فيه فوات الشق أيضا .
و لو سرق و يمناه شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع لقوله سبحانه و تعالى : { فاقطعوا أيديهما } أي أيمانهما من غير فصل بين يمين و يمين و لأنها لو كانت سليمة تقطع فالناقصة المعيبة أولى بالقطع ثم فرق بين القطع في السرقة و بين الإعتاق في الكفارة حيث جعل فوات أصبعين سوى الإبهام من اليد اليسرى نقصانا مانعا من قطع اليد اليمنى و لم يجعل فوات أصبعين نقصانا مانعا من جواز الإعتاق ما لم يكن ثلاثا .
وجه الفرق : أن القطع حد فهذا القدر من النقصان يورث شبهة بخلاف العتق و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و لو قال الحاكم للحداد : اقطع يد السارق فقطع اليد اليسرى فهذا على وجهين إما أن قال : اقطع يده مطلقا و إما أن قيده فقال : اقطع يده اليمنى فإن أطلق فقال له : اقطع يده فقطع اليسرى لا ضمان عليه للحال لأنه فعل ما أمر به حيث أمره بقطع اليد و قد قطع اليد و إن قيد فقال : اقطع يده اليمنى فقطع اليسرى فإن أخرج السارق يده و قال : هذا هو يميني فلا ضمان عليه أيضا لأنه قطع بأمره فلا يضمن كمن قال لآخر : اقطع يدي فقطعه لا ضمان عليه كذا هذا و إن لم يخرج السارق يده و لم يقل ذلك و لكنه قطع اليسرى خطأ لا ضمان عليه عند أصحابنا Bه و عند زفر Bه يضمن لأن الخطأ في حقوق العباد ليس بعذر .
و لنا : أن هذا خطأ في الاجتهاد لأنه أقام اليسار مقام اليمين باجهتاده متمسكا بظاهر قوله سبحانه و تعالى : { فاقطعوا أيديهما } من غير فصل بين اليمين و اليسار فكان هذا خطأ من المجتهد في الاجتهاد و أنه موضوع .
و موضوع المسألة في هذا الخطأ لا فيما إذا أخطأ فظن اليسار يمينا مع اعتقاد وجوب قطع اليمين ما مع أن عند أبي حنيفة لا يضمن هناك أيضا على ما نبين و إن قطع اليسرى عمدا لا ضمان عليه أيضا عند أبي حنيفة و عندهما يضمن لهما : أنه تعمد الظلم بإقامة اليسار مقام اليمين فلم يكن معذورا فيضمن .
و لأبي حنيفة Bه : أنه أتلف و أخلف خيرا مما أتلف فلا يضمن كرجلين شهدا على رجل ببيع عبد قيمته ألف بألفين ثم رجعا أنهما لا يضمنان لما قلنا كذا هذا و إنما قلنا : إنه أخلف خيرا مما أتلف لأنه لما قطع اليسرى فقد سلمت له اليمنى لأنها لا تقطع بعد ذلك لأنه لا يؤتى على أطرافه الأربعة و اليمنى خير من اليسرى .
ثم على قول أبي حنيفة عليه الرحمة هل يكون هذا القطع و هو قطع اليسرى قطعا من السرقة حتى إذا هلك المال في يد السارق أو استهلكه لا يضمنه أو لا يكون من السرقة حتى يضمن .
اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : يكون و قال بعضهم : لا يكون هذا كله إذا قطع الحداد بأمر الحاكم .
فأما الأجنبي إذا قطع يده اليسرى فإن كان خطأ تجب الدية و إن كان عمدا يجب القصاص و سقط عنده القطع في اليمين لأنه لو قطع يؤدي إلى إهلاك النفس من وجه على ما بيننا و يرد عليه المسروق إن كان قائما و عليه ضمانة في الهلاك لأن المانع من الضمان هو القطع و قد سقط .
و لو وجب عليه قطع اليد اليمين في السرقة فلم تقطع حتى قطع يمينه فهذا على وجهين : إما أن يكون قبل الخصومة و إما أن يكون بعدها فإن كان قبل الخصومة فعلى قاطعه القصاص إن كان عمدا و الأرش إن كان خطأ و تقطع رجله اليسرى في السرقة كأنه سرق و لا يمين له .
و إن كان يعد الخصومة فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب إلا أنا ههنا لا تقطع رجله اليسرى لأنه لما خوصم كان الواجب في اليمين و قد فاتت فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية و إن كان بعد القضاء فلا ضمان على القاطع لأنه احتسب لإقامة حد الله سبحانه و تعالى فكان قطعه عن السرقة حتى لا يجب الضمان على السارق فيما هلك من مال السرقة في يده أو استهلك .
و أما الموضع الذي يقطع من اليد اليمنى فهو مفصل الزند عند عامة العلماء Bه .
و قال بعضهم تقطع الأصابع و قال الخوارج : تقطع من المنكب لظاهر قوله سبحانه و تعالى : { فاقطعوا أيديهما } و اليد اسم لهذه الجملة و الصحيح قولنا لما روي أنه عليه الصلاة و السلام : [ قطع يد السارق من مفصل الزند ] فكان فعل بيانا للمراد من الآية الشريفة كأنه نص سبحانه و تعالى فقال : فاقطعوا أيديهما من مفصل الزند و عليه عمل الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يومنا هذا و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و أما بيان من يقيم هذا الحكم فالذي يقيمه الإمام أو من ولاه لأن هذا حد و المتولى لإقامة الحدود الأئمة أو من ولوهم من القضاة و الحكام و هذا عندنا و عند الشافعي C المولى يملك إقامة الحد على مملوكه و الكلام في هذا الفصل استوفيناه في كتاب الحدود .
و أما بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه فنقول : ما يسقطه بعد وجوبه أنواع : منها تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة بأن يقول له : لم تسرق مني و منها تكذيبه البينة بأن يقول : شهد شهودي بزور لأنه إذا كذب فقد بطل الإقرار و الشهادة فسقط القطع .
و منها رجوع السارق عن الإقرار بالسرقة فلا يقطع و يضمن المال لأن الرجوع يقبل في الحدود و لا يقبل في المال لأنه يورث شبهة في الإقرار و الحد يسقط بالشبهة و لا يسقط بالمال .
رجلان أقرا بسرعة يساوي مائة درهم ثم قال أحدهما : الثوب ثوبنا لم نسرقه أو قال : هذا لي درئ القطع عنهما لأنهما لما أقرا بالسرقة فقد ثبتت الشركة بينهما في السرقة ثم لما أنكر أحدهما فقد رجع عن إقراره فبطل الحد عنه برجوعه فيورث شبهة في حق الشريك لاتحاد السرقة و لو قال أحدهما سرقنا هذا الثوب من فلان فكذبه الآخر و قال : كذبت لم نسرقه قطع المقر وحده في قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف : لا يقطع واحد منهما .
وجه قول أبي يوسف : أنه أقر بسرقة واحدة بينهما على الشركة فإذا لم تثبت في حق شريكه بإنكاره يؤثر ذلك في حق صاحبه ضرورة اتحاد السرقة و هذا بخلاف ما إذا أقر بالزنا بامرأة فأنكرت أنه يحد الرجل على أصله لأن إنكار المرأة لا يؤثر في إقرار الرجل إذ ليس من ضرورة عدم الزنا من جانبها عدمه من جانبه كما لو زنا بصبية أو مجنونة بخلاف الإقرار بالسرقة لأن ذلك وجد من أحدهما على وجه الشركة فعدم السرقة من أحدهما يؤثر في حق الآخر .
وجه قول أبي حنيفة : أن إقراره بالشركة في السرقة إقرار بوجود السرقة من كل واحد منهما إلا أنه لما أنكر صاحبه السرقة يثبت منه فعل السرقة و عدم الفعل منه لا يؤثر في وجود الفعل من صاحبه فبقي إقرار صاحبه على نفسه بالسرقة فيؤخذ به بخلاف إقرار الرجل على نفسه بالزنا بامرأة و هي تجحد أنه لا يجب الحد على الرجل على أصله لأن الزنا لا يقوم إلا بالرجل و المرأة فإذا أنكرت لم يثبت منها فلا يتصور الوجود من الرجل بخلاف الإقرار بالسرقة على ما بينا و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و منها : رد السارق و المسروق إلى الملك قبل المرافعة عندهما و إحدى الروايتين عن أبي يوسف و روي عنه أنه لا يسقط و لا خلاف في أن الرد بعد المرافقة لا يسقط الحد .
وجه رواية أبي يوسف : أن السرقة حين وجودها انعقدت موجبة للقطع فرد المسروق بعد ذلك لا يخل بالسرقة الموجودة فلا يسقط القطع الواجب كما لو رده بعد المرافعة و لهما : أن الخصومة شرط لظهور السرقة الموجبة للقطع لما بينا فيما تقدم و لما رد المسروق على المالك فقد بطلت الخصومة بخلاف ما بعد المرافعة لأن الشرط وجود الخصومة لا بقاؤها و قد وجدت .
و منها : ملك السارق المسروق قبل القضاء نحو ما إذا وهب المسروق منه المسروق من السارق قبل القضاء .
و جملة الكلام فيه : أن الأمر لا يخلو إما إن وهبه منه قبل القضاء و إما إن وهبه بعد القضاء قبل الإمضاء فإن وهبه قبل القضاء يسقط القطع بلا خلاف و إن وهبه بعد القضاء قبل الإمضاء يسقط عندهما و قال أبو يوسف : لا يسقط و هو قال الشافعي رحمهما الله .
احتج أبو يوسف بما روي أن سارق رداء صفوان أخذ فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أن يقطع يده فقال صفوان : يا رسول الله إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال عليه الصلاة و السلام : فهلا قبل أن تأتيني به ] فدل أن الهبة قبل القضاء تسقط و بعده لا تسقط و لأن وجوب القطع حكم معلق بوجود السرقة و قد تمت السرقة و وقعت موجبة للقطع لاستجماع شرائط الوجوب فطريان الملك بعد ذلك لا يوجب خللا في السرقة الموجودة فبقي القطع واجبا كما كان كما لو رد المسروق على المالك بعد القضاء بخلاف ما قبل القضاء لأن الخصومة شرط ظهور السرقة الموجبة للقطع عند القاضي و قد بطل حق الخصومة .
وجه قولهما : أن القبض شرط لثبوت الملك في الهبة و الملك في الهبة يثبت من وقت القبض فيظهر الملك له من ذلك الوقت من كل وجه أو من وجه و كون المسروق ملكا للسارق على الحقيقة أو الشبهة يمنع من القطع و لهذا لم يقطع قبل القضاء فكذلك بعده لأن القضاء في باب الحدود إمضاؤها فما لم يمض فكأنه لم يقض و لو كان لم يقض أليس أنه لا يقطع فكذا إذا لم يمض و لأن الطارئ في باب الحدود ملحق بالمقارن إذا كان في الإلحاق إسقاط الحد و ههنا فيه إسقاط الحد فيلحق به .
و أما الحديث فلا حجة له فيه لأن المروي قوله : هو على صدقة و قوله [ هو ] يحتمل أنه أراد به المسروق و يحتمل أنه أراد به القطع وهبة القطع لا تسقط الحد يدل عليه أن روي في بعض الروايات أنه قال : وهبت القطع و كذا يحتمل أنه تصدق عليه بالمسروق أو وهبة منه و لكنه لم يقبضه و القطع إنما يسقط بالهبة مع القبض .
و على هذا إذا باع المسروق من السارق قبل القضاء أو بعده على الاتفاق و الاختلاف و لو زنى بامرأة ثم تزوجها لا يسقط الحد لأن الملك الثابت بالنكاح لا يحتمل الاستناد إلى وقت الوطء فلا تثبت الشبهة في الزنا فيحد .
و أما حكم السقوط بعد الثبوت لمانع و هو الشبهة و غيرها فدخول السارق في ضمان السارق حتى لو هلك في يده بنفسه أو استهلكه السارق يضمن لأن المانع من الضمان هو القطع فإذا سقط القطع زال المانع فيضمن و الله أعلم .
و الثاني : وجوب رد عين السارق على صاحبه إذا كان قائما بعينه و جملة الكلام فيه : أن المسروق في يد السارق لا يخلو : إما إن كان على حاله لم يتغير و إما إن أحدث السارق فيه حدثا فإن كان على حاله رده على المالك لما روي عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال : [ على اليد ما أخذت حتى ترده ] و روي أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ من وجد عين ماله فهو أحق به ] و روي أنه عليه الصلاة و السلام : [ رد رداء صفوان Bه عليه و قطع السارق فيه ] .
و كذلك إن كان السارق قد ملك المسروق رجلا ببيع أو هبة أو صدقة أو تزوج امرأة عليه أو كان السارق امرأته فاختلعت من نفسها به و هو قائم في يد المالك فلصاحبه أن يأخذه لأن ملكه إذ السرقة لا توجب زوال الملك عن العين المسروقة فكان تمليك السارق باطلا و يرجع المشتري على السارق بالثمن الذي اشتراه به لما مر فإن كان قد هلك في يدي القابض و كان البيع قبل القطع أو بعده فلا ضمان لا على السارق و لا على القابض لما بينا فيما تقدم .
و إن أحدث السارق فيه حدثا لا يخلو إما إن أحدث حدثا أوجب النقصان و إما إن أحدث حدثا أوجب الزيادة فإن أحدث حدثا أوجب النقصان يقطع و تسترد العين على المالك و ليس عليه ضمان النقصان لأن نقصان المسروق هلاك بعضه .
و لو هلك كله يقطع و لا ضمان عليه كذا إذا هلك البعض و يرد العين لأن القطع لا يمنع الرد ألا نرى أنه لا يمنع رد الكل فكذا البعض .
و إن أحدث حدثا أوجب الزيادة فالأصل في هذا أن السارق إذا أحدث في المسروق حدثا لو أحدثه الغاصب في المغصوب لا يقطع حق المالك ينقطع المسروق منه و إلا فلا إلا أن باب الغصب يضمن الغاصب للمالك مثل المغصوب أو قيمته و ههنا لا يضمن السارق لمانع و هو القطع .
إذا عرف هذا فنقول : السارق إذا قطع الثوب المسروق و خاطه قميصا انقطع حق المالك لأنه لو فعله الغاصب لانقطع حق المغصوب منه كذا إذا فعله السارق و لا ضمان على السارق لما بينا و لو صبغه أحمر أو أصفر فكذلك لا سبيل للمالك على العين المسروقة على في قول أبي حنيفة C و في قولهما يأخذ المالك الثوب و يعطيه ما زاد الصبغ فيه .
وجه قولهما : أنه لو وجد هذا من الغاصب لخير المالك بين أن يضمن الغاصب قيمته الثوب و بين أن يأخذ الثوب و يعطيه ما زاد الصبغ فيه إلا أن التضمين ههنا متعذر لضرورة القطع فتعين الوجه الآخر و هو أن يأخذ الثوب و يعطيه ما زاد الصبغ فيه إلا أن التضمن ههنا متعذر لضرورة القطع فتعين الوجه الآخر و هو أن يأخذ الثوب و يعطيه ما زاد الصبغ فيه إذ الغصب و السرقة لا يختلفان في هذا الباب إلا في الضمان و لأبي حنيفة : الفرق بين الغصب و السرقة ههنا و هو أن حق المغصوب منه إنما لم ينقطع عن الثوب بالصبغ لأن أصل الثوب ملكه و هو متقوم و للغاصب فيه حق متقوم أيضا إلا أنا أثبتنا الخيار للمالك لا للغاصب لأن المالك صاحب أصل و الغاصب صاحب وصف و ههنا حق السارق في الصبغ متقوم و حق المالك في أصل الثوب ليس بمتقوم في حق السارق لأجل القطع ألا ترى أنه لو أتلفه السارق لا ضمان عليه فاعتبر حق السارق و جعل حق المالك في الأصل تبعا لحقه في الوصف و تعذر تضمينه لضرورة القطع فيكون له مجانا و لكن لا يحل له أن ينتفع بهذا الثوب بوجه من الوجوه كذا قال أبو حنيفة C لأن الثوب على ملك المسروق منه إلا أنه تعذر رده و تضمينه في الحكم و القضاء فما لم يملكه السارق لا يحل له الانتفاع به لأنه ملكه بوجه محظور من غير بدل لتعذر إيجاب الضمان فلا يباح له الانتفاع به ويجوز أن يصير مال إنسان في يد غيره على وجه يخرج من أن يكون واجب الرد و الضمان إليه من طريق الحكم و القضاء لكن لا يحل له الانتفاع به فيما بينه و بين الله تبارك و تعالى كالمسلم إذا دخل دار الحرب بأمان فأخذ شيئا من أموالهم لا يحكم عليه بالرد و يلزمه ذلك فيما بينه و بين الله جل جلاله .
و كذلك الباغي إذا أتلف ملك العادل ثم تاب لا يحكم عليه بالضمان و يفتى به فيما بينه و بين الله تبارك و تعالى و كذلك الحربي إذا أتلف شيئا من مالنا ثم أسلم لا يحكم عليه بالرد و يفتى بذلك فيما بينه و بين الله جلت عظمته و كذلك السارق إذا استهلك المسروق لا يقضي عليه بالضمان و لكن يفتى به فيما بينه و بين الله تعالى و كذا قاطع الطريق إذا قتل إنسانا بعصا ثم جاء تائبا بطل عنه الحد و يؤمر بأداء الدية إلى ولي القتيل .
و لو قتل حربي مسلما بعصا ثم أسلم لا يفتى بدفع الدية إلى الولي بخلاف الباغي و قاطع الطريق و الفرق أن القتل من الحربي لم يقع سببا لوجوب الضمان لأن عصمة المقتول لم تظهر في حقه فلا يجب بالإسلام لأنه يجب ما قبله و قال الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } بخلاف قاطع الطريق لأن فعله وقع سببا لوجوب الضمان إلا أنه لا يحكم بالضمان لمانع و هو ضرورة إقامة الحد إلا أن الحد إذا لم يجب لشبهة يحكم بالضمان فيظهر أثر المانع في الحكم و القضاء لا في الفتوى و كذا فعل الباغي وقع سببا لوجوب الضمان لكن لم يحكم بالوجوب لمانع و هو عدم الفائدة لقيام المنعة و هذا المانع يخص الحكم و القضاء فكان الوجوب ثابتا عند الله سبحانه و تعالى فيقضى به .
و على هذا يخرج ما إذا سرق نقرة فضة فضربها دراهم أن يقطع و الدراهم ترد على صاحبها في قول أبي حنيفة و عندهما ينقطع حق المالك عن الدراهم بناء على أن هذا الصنع لا يقطع حق المالك في باب الغصب عنده و عندهما ينقطع لو سرق حديدا أو صفرا أو نحاسا أو ما أشبه ذلك فضربها أواني ينتظر إن كان بعد الصناعة و الضرب تباع وزنا فهو على الاختلاف الذي ذكرنا و إن كان تباع عددا فيقطع حق المالك بالإجماع كما في الغصب و على هذا إذا سرق فطحنها و غير ذلك من هذا الجنس و سنذكر جملة ذلك في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى و الله أعلم بالصواب