بيان ما يؤخذ به أهل الذمة و ما يتعرض له و ما لا يتعرض .
وأما بيان ما يؤخذ به أهل الذمة وما يتعرض له وما لا يتعرض فنقول وبالله التوفيق : إن أهل الذمة يؤخذون بإظهار علامات يعرفون بها ولا يتركون يتشبهون بالمسلمين في لباسهم ومركبهم وهيئتهم فيؤخذ الذمي بأن يجعل على وسطه كشحا مثل الخيط الغليظ ويلبس قلنسوة طويلة مضروبة ويركب سرجا على قربوسة مثل الرمانة ولا يلبس طيلسانا مثل طيالسة المسلمين ورداء مثل أردية المسلمين .
والأصل فيه : ما روي أن عمر بن عبد العزيز C مر على رجال ركوب ذوي هيئة فظنهم مسلمين فسلم عليهم فقال له رجل من أصحابه : أصلحك الله تدري من هؤلاء ؟ فقال من هم ؟ فقال : هؤلاء نصارى بني تغلب فلما أتى منزله أمر أن ينادي في الناس أن لا يبقى نصراني إلا عقد ناصيته وركب الإكاف ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون كالإجماع ولأن السلام من شعائر الإسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه الشعائر عند الالتقاء ولا يمكنهم ذلك إلا بتمييز أهل الذمة بالعلامة ولأن في إظهار هذه العلامات إظهار آثار الذلة عليهم وفيه صيانة عقائد ضعفة المسلمين عن التغيير على ما قال سبحانه وتعالى : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } .
وكذا يجب أن يتميز نساؤهم عن نساء المسلمين في حال المشي في الطريق ويجب التمييز في الحمامات في الأزر فيخالف أزرهم أزر المسلمين لما قلنا وكذا يجب أن تميز الدور بعلامات تعرف بها دورهم من دور المسلمين ليعرف السائل المسلم أنها دور الكفرة فلا يدعو لهم بالمغفرة ويتركون أن يسكنوا في أمصار المسلمين يبيعون ويشترون لأن عقد الذمة شرع ليكون وسيلة لهم إلى الإسلام وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ إلى هذا المقصود وفيه أيضا منفعة المسلمين بالبيع والشراء فيمكنون من ذلك ولا يمكنون من بيع الخمور والخنازير فيها ظاهرا لأن حرمة الخمر والخنزير ثابتة في حقهم كما هي ثابتة في حق المسلمين لأنهم مخاطبون بالحرمات وهو الصحيح عند أهل الأصول على ما عرف في موضعه فكان إظهار بيع الخمر والخنزير منهم إظهارا للفسق فيمنعون من ذلك وعندهم أن ذلك مباح فكان إظهار شعائر الكفر في مكان معد لإظهار شعانر الإسلام وهو أمصار المسلمين فيمنعون من ذلك وكذا يمنعون من إدخالها في أمصار المسلمين ظاهرا .
وروي عن أبي يوسف : أني أمنعهم من إدخال الخنازير فرق بين الخمر والخنزير لما في الخمر من خوف وقوع المسلم فيها ولا يتوهم ذلك في الخنزير ولا يمكنون من إظهار صليبهم في عيدهم لأنه إظهار شعائر الكفر فلا يمكنون من ذلك في أمصار المسلمين ولو فعلوا ذلك في كنائسهم لا يتعرض لهم وكذا لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرض لذلك لأن إظهار الشعائر لم يتحقق فإن ضربوا به خارجا منها لم يمكنوا منه لما فيه من إظهار الشعائر ولا يمنعون من إظهار شيء مما ذكرنا من بيع الخمر والخنزير والصليب وضرب الناقوس في قرية أو موضع ليس من أمصار المسلمين ولو كان فيه عدد كثير من .
أهل الإسلام وإنما يكره ذلك في أمصار المسلمين وهي التي يقام فيها الجمع والأعياد والحدود لأن المنع من إظهار هذه الأشياء لكونه إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام فيختص المنع بالمكان المعد لإظهار الشعائر وهو المصر الجامع .
وأما إظهار فسق يعتقدون حرمته كالزنا وسائر الفواحش التي هي حرام في دينهم فإنهم يمنعون من ذلك سواء كانوا في أمصار المسلمين أو في أمصارهم ومدائنهم وقراهم وكذا المزامير والعيدان والطبول في الغناء واللعب بالحمام ونظيرها يمنعون من ذلك كله في الأمصار والقرى لأنهم يعتقدون حرمة هذه الأفعال كما نعتقدها نحن فلم تكن مستثناة عن عقد الذمة ليقروا عليها .
وأما الكنائس والبيع القديمة فلا يتعرض لها ولا يهدم شيء منها .
وأما إحداث كنيسة أخرى فيمنعون عنه فيما صار مصرا من أمصار المسلمين لقوله E : [ لا كنيسة في الإسلام إلا في دار الإسلام ] ولو انهدمت كنيسة فلهم أن يبنوها كما كانت لأن لهذا البناء حكم البقاء ولهم أن يستبقوها فلهم أن يبنوها وليس لهم أن يحولوها من موضع إلى موضع آخر .
لأن التحويل من موضع إلى موضع آخر في حكم إحداث كنيسة أخرى وأما في القرى أو في موضع ليس من أمصار المسلمين فلا يمنعون من إحداث الكنائس والبيع كما لا يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير لما بينا .
ولو ظهر الإمام على قوم من أهل الحرب فرأى أن يجعلهم ذمة ويضع على رؤوسهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج لا يمنعون من اتخاذ الكنائس والبيع وإظهار بيع الخمر والخنزير لأن الممنوع إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام وهو أمصار المسلمين ولم يوجد بخلاف ما إذا صاروا ذمة بالصلح بأن طلب قوم من أهل الحرب منا أن يصيروا ذمة يؤدون عن رقابهم وأراضيهم شيئا معلوما وتجري عليهم أحكام الإسلام فصالحناهم على ذلك فكانت أراضيهم مثل أراضي الشام مدائن وقرى ورساتيق وأمصار أنه لا يتعرض لكنائسهم القديمة ولكنهم لو أرادوا أن يحدثوا شيئا منها يمنعوا من ذلك لأنها صارت مصر من أمصار المسلمين وإحداث الكنيسة في مصر من أمصار المسلمين ممنوع عنه شرعا فإن مصر الإمام مصرا للمسلمين كما مصر سيدنا عمر Bه الكوفة والبصرة فاشترى قوم من أهل الذمة دورا وأرادوا أن يتخذوا فيها كنائس لا يمكنوا من ذلك لما قلنا .
وكذلك لو تخلى رجل في صومعته منع من ذلك لأن ذلك في معنى اتخاذ الكنيسة وكل مصر من أمصار المشركين ظهر عليه الإمام عنوة وجعلهم ذمة فما كان فيه كنيسة قديمة منعهم من الصلاة في تلك الكنائس لأنه لما فتح عنوة فقد استحقه المسلمون فيمنعهم من الصلاة فيها ويأمرهم أن يتخذوها مساكن ولا ينبغي أن يهدمها وكذلك كل قرية جعلها الإمام مصرا .
ولو عطل الإمام هذا المصر وتركوا إقامة الجمع والأعياد والحدود فيه كان لأهل القرية أن يحدثوا ما شاءوا لأنه عاد قرية كما كانت نصرانية تحت مسلم لا يمكنها من نصب الصليب في بيته لأن نصب الصليب كنصب الصنم وتصلى في بيته حيث شاءت هذا الذي ذكرنا حكم أرض العجم .
وأما أرض العرب فلا يترك فيها كنيسة ولا بيعة ولا يباع فيها الخمر والخنزير مصرا كان أو قرية أو ماء من مياه العرب ويمنع المشركون أن يتخذوا أرض العرب مسكنا ووطنا .
كذا ذكره محمد تفضيلا لأرض العرب على غيرها وتطهيرا لها عن الدين الباطل قال E : [ لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ] .
وأما الالتجاء إلى الحرم فإن الحربي إذا التجأ إلى الحرم لا يباح قتله في الحرم ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم وعند الشافعي C : يقتل في الحرم واختلف أصحابنا فيما بينهم قال أبو حنيفة و محمد رحمهما الله : لا يقتل في الحرم ولا يخرج منه أيضا وقال .
أبو يوسف C : لا يباح قتله في الحرم ولكن يباح إخراجه من الحرم .
للشافعي C : .
قوله تبارك وتعالى : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وحيث يعبر به عن المكان فكان هذا إباحة لقتل المشركين في الأماكن كلها .
ولنا : قوله تبارك وتعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } هذا إذا دخل ملتجئا أما إذا دخل مكابرا أو مقاتلا يقتل لقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ولأنه لما دخل مقاتلا فقد هتك حرمة الحرم فيقتل تلافيا للهتك زجرا لغيره عن الهتك وكذلك لو دخل قوم من أهل الحرب للقتال فإنهم يقتلون ولو انهزموا من المسلمين فلا شيء على المسلمين في قتلهم وأسرهم والله تعالى أعلم