حكم التنفيل .
وأما حكم التنفيل فنوعان : .
أحدهما : اختصاص النفل بالمنفل حتى لا يشاركه فيه غيره وهل يثبت الملك فيه قبل الإحراز بدار الإسلام ؟ ففيه كلام نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .
والثاني : أنه لا خمس في النفل لأن الخمس إنما يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين والنفل ما أخلصه الإمام لصاحبه وقطع شركة الأغيار عنه فلا يجب فيه الخمس ويشارك المنفل له الغزاة في أربعة أخماس ما أصابوا لأن الإصابة أو الجهاد حصل بقوة الكل إلا أن الإمام خص البعض ببعضها وقطع حق الباقين عنه فبقي حق الكل متعلقا بما وراءه فيشاركهم فيه والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما الفيء فهو اسم لما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب نحو الأموال المبعوثة بالرسالة إلى إمام المسلمين والأموال المأخوذة على موادعة أهل الحرب ولا خمس فيه لأنه ليس بغنيمة إذ هي للمأخوذ من الكفرة على سبيل القهر والغلبة ولم يوجد وقد كان الفيء لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة يتصرف فيه كيف شاء يختصه لنفسه أو يفرقه فيمن شاء قال الله تعالى عز شأنه : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير } .
وروي عن سيدنا عمر Bه أنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله D على رسوله صلى الله عليه و سلم وكانت خالصة له وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح ولهذا كانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذ كانت لم يوجف عليها الصحابة Bهم من خيل ولا ركاب فإنه روي أن أهل فدك لما بلغهم أهل خيبر أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجليهم ويحقن دماءهم ويخلوا بينه وبين أموالهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وصالحوه على النصف من فداك فصالحهم E على ذلك ثم الفرق بين رسول صلى الله عليه و سلم وبين الأئمة في المال المبعوث إليهم من أهل الحرب أنه يكون لعامة المسلمين وكان لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة أن الإمام إنما أشرك قومه قي المال المبعوث إليه من أهل الحرب لأن هيبة الأئمة بسبب قومهم فكانت شركة بينهم .
وأما هيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت بما نصر من الرعب لا بأصحابه كما قال E : [ نصرت بالرعب مسيرة شهرين ] لذلك كان له أن يختص لنفسه والله سبحانه وتعالى أعلم .
وعلى هذا إذا دخل حربي في دار الإسلام بغير أمان فأخذه واحد من المسلمين يكون فيئا لجماعة المسلمين ولا يختص به الآخذ عند أبي حنيفة C وعند أبي يوسف و محمد رحمهما الله يكون للآخذ خاصة .
وجه قولهما : أن سبب الملك وجد من الآخذ خاصة فيختص بملكه كما إذا دخلت طانفة من أهل الحرب دار الإسلام فاستقبلتها سرية من أهل الإسلام فأخذتها أنهم يختصون بملكها .
والدليل على أن سبب الملك وجد من الآخذ خاصة : أن السبب هو الأخذ والاستيلاء هو إثبات اليد وقد وجد ذلك حقيقة من الآخذ خاصة وأهل الدار إن كانت لهم يد لكنها حكمية ويد الحربي حقيقة لأنه حر والحر في يد نفسه واليد الحكمية لا تصلح مبطلة لليد الحقيقية لأنها دونها ونقض الشيء بما هو مثله أو بما هو فوقه لا بما هو دونه فأما يد الآخذ فيد حقيقة وهي محقة ويد الحربي مبطلة فجاز إبطالها بها .
وجه قول أبي حنيفة Bه : أنه وجد سبب ثبوت الملك لعامة المسلمين في محل قابل للملك وهو المباح فيصير ملكا للكل كما إذا استولى جماعة على صيد وإنما قلنا ذلك لأنه كل ما دخل دار الإسلام فقد ثبت يد أهل الدار عليه لأن الدار في أيديهم فما في الدار يكون في أيديهم أيضا ولهذا قلنا : إنه لا يثبت الملك للغانمين في الغنائم ما داموا في دار الحرب كذا ههنا وقوله يد أهل الدار يد حكمية ويد الحربى حقيقية فلا تبطلها .
قلنا : ويد أهل الدار حقيقية أيضا لأن المعنى من اليد في هذه الأبواب القدرة من حيث سلامة الأسباب والآلات ولأهل الدار آلات سليمة لو استعملوها في التصرف عليه لحدثت لهم بمجرى العادة قدرة حقيقية على وجه لا يمكنهم مقاومتهم ومعارضتهم مع ما أنه إذا ثبت يد الأخذ عليه حقيقة فقد ثبت يد أهل الدار لأن يده يد أهل الدار لأن أهل دار الإسلام كلهم منعة واحدة فإنهم يذبون عن دين واحد فكانت يده يد الكل معنى كما إذا دخل الغزاة دار الحرب فأخذ واحد منهم شيئا من أموال الكفرة فإن المأخوذ يكون غنيمة مقسومه بين الكل كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما السريتان إذا التقتا في دار الإسلام فأخذ منها سرية الإمام فإنما اختصوا بمكلها للحاجة والضرورة وهي أن بالإمام حاجة إلى بعث السرايا لحراسة الحوزة وحماية البيضة عن شر الكفرة إذ الكفرة يقصدون دار الإسلام والدخول في حدودها بغتة فإذا علموا ببعث السرايا وتهيئهم للذب عن حريم الإسلام قطعوا الأطماع فبقيت البيضة محروسة فلو لم يختصوا بالمأخوذ لما انقاد طبعهم لكفاية هذا الشغل فتمتد أطماع الكفرة إلى دار الإسلام ولهذا إذا نفل الإمام سرية فأصابوا شيئا يختصون به لوقوع الحاجة إلى التنفيل لاختصاص بعض الغزاة بزيادة شجاعة لأنه لا ينقاد طبعه لإظهارها إلا بالترغيب بزيادة من المصاب بالتنفيل كذا هذا .
وهل يجب فيه الخمس فعن أبي حنيفة Bه روايتان : والصحيح أنه لا يجب لأن الخمس إنما يجب في الغنائم والغنيمة اسم للمال المأخوذ عنوة وقهرا بإيجاف الخيل والركاب ولم يوجد لحصوله في أيديهم بغير قتال فكان مباحا ملك لا على سبيل القهر والغلبة فلا يجب فيه الخمس كسائر المباحات .
وكذا روي عن محمد روايتان : والصحيح أنه يجب فيه الخمس لأن الملك عنده يثبت بأخذه وإنما أخذه على سبيل القهر والغلبة فكان في حكم الغنائم ولو دخل دار الإسلام فأسلم قبل أن يؤخذ ثم أخذه واحد من المسلمين يكون فيئا لجماعة المسلمين أيضا عند أبي حنيفة وعندهما : يكون حرا لا سبيل لأحد عليه وهذا فرع الأصل الذي ذكرنا أن عند أبي حنيفة C كما دخل دار الإسلام فقد انعقد سبب الملك فيه لوقوعه في يد أهل الدار فاعتراض الإسلام بعد انعقاد سبب الملك لا يمنع الملك وعندهما سبب الملك .
هو الأخذ حقيقة فكان حرا قبله حيث وجد الإسلام قبل وجود سبب الملك فيه فيمنع ثبوت الملك على ما مار .
ولو رجع هذا الحربي إلى دار الحرب خرج من أن يكون فيئا بالإجماع أما عند أبي حنيفة فلأن حق أهل دار الإسلام لا يتأكد إلا بالأخذ حقيقة ولم يوجد وأما عندهما فلأنه لم يثبت الملك أصلا إلا بحقيقة الأخذ ولم يوجد وصار هذا كما إذا انفلت واحد من الأسارى قبل الإحراز بدار الإسلام والتحق بمنعتهم أنه يعود حرا كما كان كذا هذا .
ولو ادعى هذا الحربي بأمان لم يقبل قوله عند أبي حنيفة وعندهما يقبل أما عنده : فلأن دخول دار الحرب سبب ثبوت الملك والأمان عارض مانع من انعقاد السبب فلا تقبل دعوى العارض إلا بحجة وأما عندهما فلأن الملك فيه يقف على حقيقة الأخذ فكان حرا قبله فكان دعوى الأمان دعوى حكم الأصل فتقبل وكذلك لو قال الأخذ : إني أمنته لم يقبل قوله عند أبي حنيفة وعندهما يقبل أما عنده : فلأن هذا إقرار يتضمن إبطال حق الغير فلا يقبل وعندهما : هذا إقرار على نفسه وأنه غير متهم في حق نفسه .
ولو دخل هذا الحربي الحرم قبل أن يؤخذ فهو فيء عند أبي حنيفة ودخول الحرم لا يبطل ذلك عنه لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بين الحرم وغيره والدليل عليه : أن الإسلام لم يبطل الملك فالحرم أولى ولأن الإسلام أعظم حرمة من الحرم وعندهما : لا يكون فيئا إلا بحقيقة الأخذ فيبقى على أصل الحرية ولا يتعرض له لكنه لا يطعم ولا يسقى ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم .
ولو أمنه رجل من المسلمين في الحرم أو بعدما خرج من الحرم قبل أن يؤخذ لم يصح عند أبي حنيفة وعندهما يصح ويرد إلى مأمنه لأن عنده صار فيئا لجماعة المسلمين بنفس دخول دار الإسلام .
وعندهما لا يصبر فيئا إلا بحقيقة الأخذ فإذا أمنه قبل الأخذ يصح ولا يصح بعده لأنه مرقوق .
ولو أخذه رجل في الحرم وأخرجه منه فقد أساء وكان فيئا لجماعة المسلمين عند أبي حنيفة وعندهما يكون لمن أخذه أما عنده فلأن الملك قد ثبت بدخوله دار الإسلام فالأخذ في الحرم لا يبطله وأما عندهما فلأن الملك وإن كان يثبت بالأخذ وأنه منهي لكن النهي لغيره وهو حرمة الحرم فلا يمنع كونه سببا للملك في ذاته كالبيع وقت النداء ونحو ذلك .
ولو أخذه في الحرم ولم يخرجه فينبغي أن يخلي سبيله في الحرم رعاية لحرمة الحرم ما دام فيه والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما الغنيمة فالكلام فيها في مواضع : في تفسير الغنيمة وفي بيان ما يملكه الإمام من التصرف في الغنائم وفي بيان مكان قسمة الغنائم وفي بيان ما يباح الانتفاع به من الغنائم وفي بيان كيفية قسمة الغنائم وفي بيان مصارفها أما الأول : فالغنيمة عندنا اسم للمأخوذ من أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة وهذا الأخذ لا يتحقق إلا بالمنعة إما بحقيقة المنعة أو بدلالة المنعة وهي إذن الإمام وعند الشافعي C : هي اسم للمأخوذ من أهل الحرب كيفما كان ولا يشترط له المنعة أصلا وبيان ذلك في مسائل : إذا دخل جماعة لهم منعة دار الحرب فأخذوا أموالا منهم فإنها تقسم قسمة الغنانم بالإجماع سواء دخلوا بإذن الإمام أو بغير إذنه لوجود الأخذ على سبيل القهر والغلبة لوجود المنعة القائمة مقام المفاتلة حقيقة وأقل المنعة أربعة في ظاهر الرواية لقوله E : [ خير الأصحاب أربعة ] وروي عن أبي يوسف : أنها تسعة ولو دخل من لا منعة له بإذن الإمام كان المأخوذ غنيمة في ظاهر الرواية عن أصحابنا لوجود المنعة دلالة على ما نذكره .
ولو دخل بغير إذن الإمام لم يكن غنيمة عندنا لانعدام المنعة أصلا وعند الشافعي C : يكون غنيمة والصحيح قولنا لأن الغنيمة والغنم والمغنم في اللغة اسم لمال أصيب من أموال الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب وكذا إشارة النص دليل عليه وهي قوله سبحانه وتعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } أشار سبحانه وتعالى إلى أنه ما لم يوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب لا يكون غنيمة وإصابة مال أهل الحرب بإيجاف الخيل والركاب لا يكون إلا بالمنعة إما حقيقة أو دلالة لأن من لا منعة له لا يمكنه الأخذ على طريق القهر والغلبة فلم يكن المأخوذ غنيمة بل كان مالا مباحا فيختص به الآخذ كالصيد إلا إن أخذاه جميعا فيكون المأخوذ بينهما كما لو أخذا صيدا أما عند وجود المنعة فيتحقق الأخذ على سبيل القهر والغلبة أما حقيقة المنعة فظاهرة وكذا دلالة المنعة وهي إذن الإمام لأنه لما أذن له الإمام بالدخول فقد ضمن له المعونة بالمدد والنصرة عند الحاجة فكان دخوله بإذن الإمام امتناعا بالجيش الكثيف معنى فكان المأخوذ مأخوذا على سبيل القهر والغلبة فكان غنيمة فهو الفرق ولو اجتمع فريقان : أحدهما دخل بإذن الإمام والآخر بغير إذنه ولا منعة لهم فالحكم في .
كل فريق عند الاجتماع ما هو الحكم عند الانفراد أنه إن تفرد كل فريق بأخذ شيء فلكل فريق ما أخذ كما لو انفرد كل فريق بالدخول فأخذ شيئا فإن اشترك الفريقان في الأخذ فالمأخوذ بينهم على عدد الآخذين ثم ما أصاب المأذون لهم يخمس ويكون أربعة أخماسه بينهم مشتركة فيه الآخذ وغير الآخذ لأنه غنيمة وهذا سبيل الغنائم وما أصاب الذين لم يؤذن لهم لا خمس فيه فيكون بين الأخذين ولا يشاركهم الذين لم يأخذوا لأنه مال مباح وهذا حكم المال المباح على ما بينا .
هذا إذا اجتمع فريقان ولا منعة لهم فأما إذا اجتمعا وكان لهم باجتماعهم منعة فما أصاب واحدا منهم أو جماعتهم بخمس وأربعة أخماسه بينهم لأن المأخوذ غنيمة لوجود المنعة فكان وجود الإذن وعدمه بمنزلة واحدة ولو كان الذين دخلوا بإذن الإمام لهم منعة ثم لحقهم لص أو لصان لا منعة لهما بغير إذن الإمام ثم لقوا قتالا وأصابوا غنائم فما أصاب العسكر قبل لا أن يلحقهم اللص فإن هذا اللص لا يشاركهم فيه وما أصابوه بعد أن لحق هذا اللص بهم فإنه يشاركهم لأن الإصابة قبل اللحاق حصلت بقتال العسكر حقيقة .
وكذلك الإحراز بدار الإسلام لأن لهم غنيمة عن معونة اللص فكان دخوله في الاستيلاء على المصاب قبل اللحاق وعدمه بمنزلة واحدة ولا يشبه هذا الجيش إذا لحقهم المدد أنه يشاركهم فيما أصابوا لأن الجيش يستعين بالمدد لقوتهم فكان الإحراز حاصلا بالكل وكذلك الإصابة بعد اللحوق حصلت باستيلاء الكل لذلك شاركهم بخلاف اللص والله تعالى أعلم .
ولو أخذ واحد من الجيش شيئا من المتاع الذي له قيمة وليس في يد إنسان منهم كالمعادن والكنوز والخشب والسمك فذلك غنيمة وفيه الخمس وذلك الواحد إنما أخذه بمنعة الجماعة وقوتهم فكان مالا مأخوذا على سبيل القهر والغلبة فكان غنيمة وإن لم يكن لذلك الشيء في دار الحرب وفي دار الإسلام قيمة فهو له خاصة لأنه إذا لم يكن له قيمة لا يقع فيه تمانع وتدافع فلا يقع أخذه على سبيل القهر والغلبة فلم يكن غنيمة .
ولو أخذ شيئا له قيمة في دار الحرب نحو الخشب فعمله آنية أو غيرها رده إلى الغنيمة لأنه إذا كان له قيمة بذاته فالعمل فيه فضل له فإن لم يكن ذلك الشيء متقوما فهو له خاصة لما قلنا ولا خمس فيما يؤخد على موادعة أهل الحرب لأنه ليس بمأخوذ على سبيل القهر والغلبة فلم يكن غنيمة وكذا ما بعث رسالة إلى إمام المسلمين لا خمس فيه لما قلنا .
ولو حاصر المسلمون قلعة في دار الحرب فافتدوا أنفسهم بمال ففيه الخمس لأنه غنيمة لكونه مأخوذا على سبيل القهر والغلبة والله سبحانه وتعالى أعلم