قسمة الغنائم .
وأما بيان قسمة الغنائم فنقول وبالله التوفيق القسمة نوعان : قسمة حمل ونقل وقسمة ملك .
أما قسمة الحمل : فهي إن عزت الدواب ولم يجد الإمام حمولة يفرق الغنائم على الغزاة فيحمل كل رجل على قدر نصيبه إلى دار الإسلام ثم يستردها منهم فيقسمها قسمة ملك وهذه القسمة جائزة بلا خلاف ولا تكون قسمة ملك كالمودعين يقتسمان الوديعة ليحفظ كل واحد منهما بعضها جاز ذلك وتكون قسمة ملك فكذا هذا .
وأما قسمة الملك فلا تجوز في دار الحرب عند أصحابنا وعند الشافعي C تجوز وهذا الاختلاف مبني على أصل وهو أن الملك هل يثبت في الغنائم في دار الحرب للغزاة فعندنا لا يثبت الملك أصلا فيها لا من كل وجه ولا من وجه ولكن ينعقد سبب الملك فيها على أن تصير علة عند الإحراز بدار الإسلام وهو تفسير حق الملك أو حق التملك عندنا وعنده يثبت الملك قبل الإحراز بدار الإسلام بعد الفراغ من القتال قولا واحدا وله في حال فور الهزيمة قولان ويبنى على هذا الأصل مسائل : .
منها : أنه إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب لا يورث نصيبه عندنا وعنده يورث والله تعالى أعلم .
و منها : أن المدد إذا لحق الجيش فأحرزوا الغنانم جملة إلى دار الإسلام يشاركونهم فيها عندنا وعنده لا يشاركونهم .
ومنها : أنه إذا أتلف واحد من الغانمين شيئا من الغنيمة لا يضمن عندنا وعنده يضمن .
ومنها : أن الإمام إذا باع شيئا من الغنائم لا لحاجة الغزاة لا يجوز عندنا وعنده يجوز ومنها أن الإمام إذا قسم الغنائم في دار الحرب مجازفا غير مجتهد ولا معتقد جواز القسمة لا تجوز عندنا وعنده تجوز .
فأما إذا رأى الإمام القسمة فقسمها نفذت قسمته بالإجماع وكذلك لو رأى البيع فباعها لأنه حكم أمضاه في محل الاجتهاد بالاجتهاد فينفذ .
وجه قول الشافعي C : ما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قسم غنائم خيبر بخيبر و قسم غنائم أوطاس بأوطاس و قسم غنائم بني المصطلق في ديارهم و قسم غنائم بدر بالجعرانة ] وهي واد من أودية بدر وأدنى ما يحمل عليه فعل النبي E هو الوراز والإباحة ولأنه وجد الاستيلاء على مال مباح فيفيد الملك استدلالا بالاستيلاء على الحطب والحشيش ولا شك أن المستولى عليه مال مباح لأنه مال الكافر وإنه مباح .
والدليل على تحقق الاستيلاء أن الاستيلاء عبارة عن إثبات اليد على المحل وقد وجد ذلك حقيقة وإنكار الحقانق مكابرة ورجعة الكفار بعد انهزامهم واستردادهم أمر موهوم لا دليل عليه فلا يعتبر .
ولنا : أن الاستيلاء إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير مملوك ولم يوجد ههنا لأن ملك الكفرة قائم لأن ملك الكفرة كان ثابتا لهم والملك متى ثبت لإنسان لا يزول إلا بإزالته أو يخرج المحل من أن يكون منتفعا به حقيقة بالهلاك أو بعجز المالك عن الانتفاع به دفعا للتناقض فيما شرع الملك له ولم يوجد شيء من ذلك .
أما الإزالة وهلاك المحل فظاهر العدم وأما قدرة الكفرة على الانتفاع بأموالهم فلأن الغزاة ما داموا في دار الحرب فالاسترداد ليس بنادر بل هو ظاهر أو محتمل احتمالا على السواء والملك كان ثابتا لهم فلا يزول مع الاحتمال وأما الأحاديث فأما غنائم خيبر وأوطاس والمصطلق فإنما قسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك الديار لأنه افتتحها فصارت ديار الإسلام .
وأما غنائم بدر فقد روي أنه E قسمها بالمدينة فلا يصح الاحتجاج به مع التعارض ثم الملك إن لم يثبت للغزاة في الغنانم في دار الحرب فقد ثبت الحق لهم حتى يجوز لهم الانتفاع بها من غير حاجة على ما نذكره ولولا تعلق الحق لجاز لأنه يكون مالا مباحا وكذا لو وطىء واحد من الغزاة جارية من المغنم لا يجب عليه الحد لأن له فيها حقا فأورث شبهة في درء الحد ولا يجب عليه العقر أيضا لأنه بالوطء أتلف جزءا من منافع بضعها ولو أتلفها لا يضمن فههنا أولى ولا يثبت النسب أيضا لو ادعى الولد لأن ثبات النسب معتمد الملك أو الحق الخاص ولا ملك ههنا والحق عام .
وكذا لو أسلم الأسير في دار الحرب لا يكون حرا ويدخل في القسمة لتعلق حق الغانمين به بنفس الأخذ والاستيلاء فاعتراض الإسلام عليه لا يبطله بخلاف ما إذا أسلم قبل الأسر أنه يكون حرا ولا يدخل في القسمة لأن عند الأخذ والأسر لم يتعلق به حق أحد فكان الإسلام دافعا الحق لا رافعا إياه على ما بينا .
وأما بعد الإحراز بدار الإسلام قبل القسمة فيثبت الملك أو يتاكد الحق ويتقرر لأن الاستيلاء الثابت انعقد سببا لثبوت الملك أو تأكد الحق على أن يصير علة عند وجود شرطها وهو الإحراز بدار الإسلام وقد وجد فتجوز القسمة ويجري فيه الإرث ويضمن المتلف وتنقطع شركة المدد ونحو ذلك إلا أنه لو أعتق واحد من الغانمين عبدا من المغنم لا ينفذ إعتاقه استحسانا لأن نفاذ الإعتاق يقف على الملك الخاص ولا يتحقق ذلك إلا بالقسمة فأما الموجود قبل القسمة فملك عام أو حق متأكد وأنه لا يحتمل الإعتاق لكنه يحتمل الإرث والقسمة ويكفي لإيجاب الضمان وانقطاع شركة المدد على ما بينا .
وكذلك لو استولد جارية من المغنم وادعى الولد لا تصير أم ولد استحسانا لما بينا أن إثبات النسب وأمومية الولد يقفان على ملك خاص وذلك بالقسمة أو حق خاص ولم يوجد ويلزمه العقر لأن الملك العام أو الحق الخاص يكون مضمونا بالإتلاف .
وأما بعد القسمة فيثبت الملك الخاص لكل واحد منهم في نصيبه لأن القسمة إفراز الأنصباء وتعيينها ولو قسم الإمام الغنائم فوقع عبد في سهم رجل فأعتقه لا شك أنه ينفذ إعتاقه لأن الإعتاق صادف ملكا خاصا فأما إذا وقع في سهم جماعة منهم عبد فأعتقه أحدهم ينفذ إعتاقه عند أبي حنيفة قل الشركاء أو كثروا .
وروي عن أبي يوسف : إن كانوا عشرة أو أقل منها ينفذ إعتاقه وإن كانوا أكثر من ذلك لا ينفذ فأبو حنيفة C نظر في خصوص الملك إلى القسمة و أبو يوسف إلى العدد والصحيح نظر أبي حنيفة .
لأن القسمة تمييز وتعيين فكانت قاطعة لعموم الشركة مخصصة للملك وإن كثر العدد والله أعلم .
ولو أخذ المسلمون غنيمة ثم غلبهم العدو فاستنقذوها من أيديهم ثم جاء عسكر آخر فأخذها من العدو فأخرجوها إلى دار الإسلام ثم اختصم الفريقان نظر في ذلك فإن كان الأولون لم يقتسموها ولم يحرزوها بدار الإسلام فالغنيمة للآخرين لأن الأولين لم يثبت لهم إلا مجرد حق غير متقرر وقد ثبت للآخرين ملك عام أو حق متقرر يجري مجرى الملك فكانوا أولى بالغنانم وإن كان الأولون قد اقتسموها فالقسمة لهم وإن كانوا لم يحرزوها بدار الإسلام لأنهم ملكوها بالقسمة ملكا خاصا فإذا غلبهم الكفار فقد استولوا على أملاكهم فإن وجدوها في يد الآخرين قبل القسمة أخذوها بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن شاءوا كما في سائر أموالهم التي استولى عليها العدو ثم وجدوها في يد الغانمين قبل القسمة و بعد ها .
وإن كانوا لم يقتسموها ولكنهم أحرزوها بدار الإسلام فإن وجدوها بعد قسمة الآخرين فالآخرون أولى لأن الثابت لهم ملك خاص بالقسمة والثابت للأولين ملك عام أو حق متقرر عام فكان اعتبار الملك الخاص أولى .
وأما إذا وجدوها قبل قسمة الآخرين ففيه روايتان : ذكر في الزيادات أن الاولين أولى وذكر في السير الكبير أن الآخرين أولى .
وجه رواية الزيادات أن الثابت لكل واحد من الفريقين وإن كان هو الحق المتأكد لكن نقض الحق بالحق جائز لأن الشيء يحتمل الانتقاض بمثله كما في النسخ ولهذا جاز نقض الملك بالملك .
وجه الرواية الأخرى : أن حق الآخرين ثابت متقرر وحق الأولين زائل ذاهب فاستصحاب الحالة الثابتة أولى إذ هو يصلح للترجيح وهذا هو القياس في الملك فكان ينبغي أن لا ينتقض الحادث بالقديم إلا أن النقض هناك ثبت نصا بخلاف القياس فيقتصر على مورد النص .
هذا إذا كان الكفار أحرزوا الأموال بدار الحرب فإن كانوا لم يحرزوها حتى أخذها الفريق الآخر من المسلمين منهم في دار الإسلام فالغنائم للأولين سواء قسمها الآخرون أو لم يقسموها لأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء إلا بعد الإحراز بدار الحرب ولم يوجد فكانت الغنائم في حكم يد الأولين ما دامت في دار الإسلام فكأن الآخرين أخذوه من أيدي الأولين فيلزمهم الرد عليهم إلا إذا كان الإمام قسمها بين الآخرين ورأيه أن الكفرة قد ملكوها بنفس الأخذ والاستيلاء وإن كانوا في دار الإسلام كما هو مذهب بعض الناس فكانت قسمة في محل الاجتهاد فتنفذ وتكون للآخرين والله تعالى أعلم .
هذا الذي ذكرنا من كون الإحراز بدار الإسلام شرطا لثبوت الملك في الغنائم المشتركة .
وأما الغنائم الخالصة وهي الأنفال فهل هو شرط فيها ؟ قال بعض المشايخ : إنه شرط عند أبي حنيفة حتى لا يثبت الملك بينهما فيها قبل الإحراز بدار الإسلام وعند محمد ليس بشرط فيثبت الملك فيها بنفس الأخذ والإصابة استدلالا بمسألة ظهر فيها اختلاف وهي أن الإمام إذا نفل فقال : من أصاب جارية فهي له فأصاب رجل من المسلمين جارية فاستبرأها في دار الحرب بحيضة لا يحل له وطؤها عند أبي حنيفة وعند محمد يحل .
وقال بعضهم : الإحراز بالدار ليس بشرط لثبوت الملك في الأنفال بالإجماع واختلافهما في تلك المسألة لا يدل على الاختلاف في ثبوت الملك لأنه كما ظهر الاختلاف بينهما في النفل فقد ظهر الاختلاف في الغنيمة المقسومة فإن الإمام إذا قسم الغنائم في دار الحرب فأصاب رجل جارية فاستبرأها بحيضة فهو على الاختلاف .
وكذا لو رأى الإمام بيع الغنائم فجاع من رجل جارية فاستبرأها المشتري بحيضة فهو على الاختلاف ولا خلاف بين أصحابنا في الغنانم المقسومة أنه لا يثبت الملك فيها قبل الإحراز بدار الإسلام دل أن منشأ الخلاف هناك شيء آخر وراء ثبوت الملك وعدمه .
والصحيح أن ثبوت الملك في النفل لا يقف على الإحراز بدار الإسلام بين أصحابنا بخلاف الغنائم المقسومة لأن سبب الملك قد تحقق وهو الأخذ والاستيلاء ولا يجوز تأخير الحكم عن سبب إلا لضرورة وفي الغنائم المقسومة ضرورة وهي خوف شر الكفرة لأنه لو ثبت الملك بنفس الأخذ لاشتغلوا بالقسمة ولتسارع كل أحد إلى إحراز نصيبه بدار الإسلام وتفرق الجمع وفيه خوف توجه الشر عليهم من الكفرة فتأخر الملك فيها إلى ما بعد الإحراز بدار الإسلام لهذه الضرورة وهذه الضرورة منعدمة في الأنفال لأنها خالصة غير مقسومة فلا معنى لتأخير الحكم عن السبب .
رالدليل على التفرقة بينهما : أن المدد إذا لحق الجيش لا يشارك المنفل له كما بعد الإحراز بالدار بخلاف الغنيمة المقسومة وكذا لو مات المنفل له يورث نصيبه كما لو مات بعد الإحراز بالدار بخلاف الغنيمة المقسومة فيثبت بهذه الدلائل أن الملك في النفل لا يقف على الإحراز بالدار بلا خلاف بين أصحابنا إلا أن هذا النوع من الملك لا يظهر في حق حل الوطء عند أبي حنيفة C وهذا لا يدل على عدم الملك أصلا ألا ترى أن حل الوطء قد يمتنع مع قيام الملك لعوارض من الحيض والنفاس والمحرمية والصهرية ونحو ذلك ثم إنما لم يثبت الحل هناك مع ثبوت الملك لأنه ملك متزلزل غير متقرر لاحتمال الزوال ساعة فساعة لأن الدار دارهم فكان احتمال الاسترداد قائما ومتى استردوا يرتفع السبب من حيث وجوده ويلتحق بالعدم إما من كل وجه أو من وجه فتبين أن الوطء لم يصادف محله وهو الملك المطلق ولهذا والله تعالى أعلم قال أبو حنيفة Bه إنه لا يحل وطؤها بعد قسمة الإمام وبيعه إذا رأى ذلك و إن وقعت قسمته جائزة وبيعه نافذا مفيدا للملك في هذه الصورة كما ذكرنا من المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم