بيان كيفية الحكم .
وأما بيان كيفية الحكم فنقول : ملك المسلم يزول عن ماله باستيلاء الكفار عليه ويثبت لهم عندنا على وجه له حق الإعادة إما بعوض أو بغير عوض حتى لو ظهر عليهم المسلمون فأخذوها وأحرزوها بدار الإسلام فإن وجده المالك القديم قبل القسمة أخذه بغير شيء سواء كان من ذوات القيم أو من ذوات الأمثال وإن وجده بعد القسمة فإن كان من ذوات الأمثال لا يأخذه لأنه لو أخذه لأخذه بمثله فلا يفيد وإن لم يكن من ذوات الأمثال يأخذه بقيمته إن شاء لأن الأخذ بالقيمة مراعاة الجانبين جانب الملك القديم بإيصاله إلى قديم ملكه الخاص المأخوذ منه بغير عوض وجانب الغانمين بصيانة ملكهم الخاص عن الزوال من غير عوض فكان الأخذ بالقيمة نظرا للجانبين ومراعاة الحقين بخلاف ما إذا وجده قبل القسمة أنه يأخذه بغير شيء لأن الثابت للغانمين قبل القسمة بعد الإحراز ليس إلا الحق المتأكد أو الملك العام فكانت الإعادة إلى قديم الملك رعاية للملك الخاص أولى وقد روي : [ أن بعيرا لرجل من المسلمين استولى عليه أهل الحرب ثم ظهر عليهم المسلمون فوجده صاحبه في المغنم فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه فقال : إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة ] وكذلك لو كان الحربي باع المأخوذ من المسلمين ثم ظهر عليه المسلمون فإن المالك القديم ياخذه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة لأنه باعه مستحق الإعادة إلى قديم الملك فبقي كذلك .
ولو كان المستولى عليه مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد ثم ظهر عليه المسلمون فأخرجوه إلى دار الإسلام أخذه المالك القديم بغير شيء قبل القسمة وبعدها لأنه حر من وجه والحر من وجه أو من كل وجه لا يحتمل التملك بالاستيلاء ولهذا لا بحتمله بسائر أسباب الملك فإذا حصلوا في أيدي الغانمين وجب ردهم إلى المالك القديم .
ولو وهب الحربي ما ملكه بالاستيلاء لرجل من المسلمين أخذه المالك القديم بالقيمة إن شاء لأن فيه نظرا للجانبين على ما بينا .
وكذلك لو باعه من مسلم بعوض فاسد بأن باع من مسلم عبد المسلم بخمر أو خنزير أخذه صاحبه بقيمة العبد لأن تسمية الخمر والخنزير لم تصح فكان هذا بيعا فاسدا والبيع الفاسد مضمون بقيمة المبيع فصار كأنه اشتراه بقيمته ولو لم يكن العوض فاسدا أخذه بالثمن الذي اشتراه به إن شاء إن كان اشتراه بخلاف جنسه لأن الأخذ عند اختلاف الجنس مفيد .
وكذلك لو كان اشتراه بجنسه لكن بأقل منه فإنه يأخذه بمثل ما اشتراه ولا يكون هذا ربا لأن الربا فضل مال قصد استحقاقه بالبيع من غير عوض يقابله والمالك القديم لا يأخذه بطريق البيع بل بطريق الإعادة إلى قديم ملكه فلا يتحقق الربا وإن كان اشتراه بجنسه بمثله قدرا لا يأخذه لأنه لا يفيد .
ولو اشتراه رجل من العدو ثم باعه من رجل آخر ثم حضر المالك القديم أخذه من الثاني بالثمن الثاني وليس له أن ينقض البيع الثاني ويأخذ بالثمن الأول من المشتري الأول في ظاهر الرواية .
وروي عن محمد C في النوادر : أن المالك بالخيار إن شاء نقض البيع وأخذه بالثمن الأول وإن شاء أخذه بالثمن الثاني .
وجه رواية النوادر : أن أخذ المالك القديم تملك ببدل فأشبه حق الشفعة ثم حق الشفيع مقدم على حق المشتري فكذا حقه والجامع أن حق كل واحد منهما سابق على حق المشتري والسبق من أسباب الترجيح .
وجه ظاهر الرواية : أنه لا ملك للمالك القديم في المحل بوجه بل هو زائل من كل وجه وإنما الثابت له حق الإعادة وأنه ليس بمعني في المحل فلا يمنع جواز البيع فلا يملك نقضه بخلاف حق الشفعة فإن الشفيع يتملك نقض المشفوع فيقتضي الأخذ بالشفعة بتمليك البائع منه على ما عرف .
وعلى هذا الأصل إذا علم المالك القديم بشراء المأسور وترك الطلب زمانا لا يبطل حقه لأن هذا الأخذ ليس في معنى الأخذ بالشفعة ليشترط له الطلب على سبيل المواثبة .
وعلى قياس ما روي عن محمد C يبطل كما يبطل حق الشفعة بترك الطلب على المواثبة وكذلك هذا الحق يورث في ظاهر الرواية حتى لو مات المالك القديم كان لورثته أن يأخذوه وعلى قياس ما روي عن محمد رحمه الثه لا يورث كما لا يورث حق الشفعة .
والصحيح جواب ظاهر الرواية لأن هذا الأخذ ليس ابتداء تملك بل هو إعادة إلى قديم الملك بخلاف الأخذ بالشفعة وحق الإعادة إلى قديم الملك مما يحتمل الإرث كحق الرد بالعيب وليس لبعض الورثة أن يأخذوا ذلك دون البعض لأنه حق ثبت للكل فلا ينفرد به البعض .
ولو اشترى المأسور رجل فأدخله دار الإسلام ثم اشتراه العدو ثانيا فاشتراه رجل آخر فأدخله دار الإسلام فالمشتري الأول أحق من المالك القديم وليس للمالك القديم أن يأخذه من المشتري الثاني لأنه لما أسر من يد المشتري الأول نزل المشتري الأول منزلة المالك القديم فكان حق الأخذ له لكن إذا أخذه المشتري الأول فللمالك القديم أن يأخذه بالثمنين إن شاء أو يدع لأنه لما أخذه المشتري الأول بالثمن فقد قام عليه بالثمنين فكأنه اشتراه بهذا القدر من المال ولم يوجد الأسر أصلا .
ولو أعتق الحربي العبد الأاسور في دار الحرب أو دبره أو كاتبه أو كانت أمة فاستولدها ثم ظهر المسلمون عليها فذلك كله جائز وعتقت هي وأولادها وكذا المدبر والمكاتب .
أما إذا أعتقه فلأن يده زالت عنه وهو مسلم فحصل في يد نفسه فعتق عليه كالعبد الحربي إذا خرج إلينا مسلما والاستيلاد فرع النسب والنسب يثبت في دار الحرب وقهر الحربي كموته وإن مات عتقت أم ولده كما إذا غلب عليه وعتق المدبر لهذا المعنى والمكاتب صار في يد نفسه لزوال يد المولى عنه وهو .
مسلم فيعتق ولأنه إذا قهر المولى سقط عنه بدل الكتابة فعتق لزوال رقه ولو كان المأسور حرا فاشتراه مسلم وأخرجه إلى دار الإسلام فلا شيء للمشتري على الحر لأنه ما اشتراه حقيقة إذ الحر لا يحتمل التملك لكنه بذل مالا لاستخلاص الأسير بغير إذنه فكان متطوعا فيه فلا يملك الرجوع عليه وإن أمره الحربي بذلك ففعله بأمره رجع عليه لأنه لما أمره بذلك فكأنه استقرض منه هذا القدر من المال فأقرضه إياه ثم أمره أن يدفعه إلى فلان ففعل فبرجع عليه بحكم الاستقراض .
ولو أسلم أهل الحرب ومتاع المسلمين الذي أحرزوه في أيديهم فهو لهم ولا حق للمالك القديم فيه لأنه مال أسلموا عليه ومن أسلم على مال فهو له على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم .
هذا الذي ذكرنا حكم استيلاء الكافر فأما حكم الشراء فنقول : الحربي إذا خرج إلينا فاشترى عبدا مسلما ثبت الملك له فيه عندنا لكنه يجبر على البيع وكذلك لو خرج إلينا بعبده فأسلم في يده يجبر على البيع وعند الشافعي C لا يجوز شراء الكافر العبد المسلم وهي مسألة كتاب البيوع فإن لم يبعه حتى دخل دار الحرب به عتق عند أبي حنيفة C تعالى وعندهما : لا يعتق .
وجه قولهما : أن لإحراز الكافر ماله بدار الحرب أثرا في زوال العصمة لا في زوال الملك فإن مال الكافر مملوك لكنه غير معصوم .
وجه قول أبي حنيفة C : أن الثابت للحربي بالشراء ملك مجبور على إزالته فلو لم يعتق بإدخاله دار الحرب لم يبق الملك الثابت له شرعا بهذه الصفة لتعذر الجبر بالإحراز بوجه فيؤدي إلى تغيير المشروع وهذا لا يجوز ثم طريق الزوال هو الإحراز بالدار وإن كان هو في الأصل شرط زوال الملك والعصمة في استيلاء الكفار لتعذر تحصيل العلة فأقيم الشرط مقامه على الأصل المعهود من إقامة الشرط مقام العلة عند تعذر تعليق الحكم بالعلة ولو اشترى عبدا ذميا فهو على هذا الاختلاف أيضا لأن الحريي مجبور على بيع الذمي أيضا ولا يترك .
ليدخل دار الحرب .
ولو أسلم عبد لحربي في دار الحرب لا يعتق وهو عبد على حاله بالإجماع لأن الملك وإن كان واجب الإزالة لكن لا طريق للزوال ههنا فبقي على حاله ولو خرج هذا العبد إلينا فإن خرج مراغما لمولاه ولحق بعسكر المسلمين عتق لأن دار الحرب دار قهر وغلبة وقد قهر مولاه بخروجه مراغما إياه فصار مستوليا على نفسه مستغنما إياه فيزول ملك المالك عنه .
وقد روي أنه E قال : [ في إباق الطائف : هؤلاء عتقاء الله سبحانه وتعالى ] ولو خرج غير مراغم فإن خرج بإذن المولى للتجارة فهو عبد لمولاه لكن يبيعه الإمام ويقف ثمنه لمولاه أما كونه عبدا لمولاه فلأنه لم يخرج قاهرا مستوليا ولأنه ملك مستحق الزوال بالإسلام .
وأما وقف ثمنه لمولاه فلأنه باعه على ملكه وكذا لو لم يخرج مراغما ولكن ظهر المسلمون على الدار يعتق أيضا لأنه لما أسلم فقد بقي عليه ملك مستحق الزوال محتاج إلى طريق الزوال وقد وجد وهو إحراز نفسه بمنعة المسلمين وأنه أسبق من إحراز المسلمين إياه بدار الإسلام ليملكوه فكان أولى ولو لم يخرج ولم يظهر على الدار ولكن باعه الحربي من مسلم أو حربي عتق عند أبي حنيفة قبل المشتري البيع أو لم يقبل وعندهما لا يعتق وجه قولهما : أنه كما زال ملك البائع عنه فقد ثبت ملك المشتري فيه فلا يعتق .
وجه قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : ما ذكرنا أن هذا ملك مستحق الزوال موقوف زواله على سبب الزوال أو شرط الزوال على ما بينا فإذا عرضه على البيع والبيع سبب لزوال الملك فقد رضي بزواله إلى غيره فكان بزواله إليه أرضى لأنه استحق الزوال وغيره ما استحقه والرضا بالزوال شرط الزوال .
ولو أسلم حربي في دار الحرب وله رقيق فيها فخرج هو إلى دار الإسلام ثم تبعه عبده بعد ذلك كافرا كان أو مسلما فهو عبد لمولاه لأن خروجه إلى مولاه كخروجه مع مولاه ولو كان خرج مع مولاه لكان عبدا لمولاه كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم