كتاب الغصب .
جمع محمد C في كتاب الغصب بين مسائل الغصب وبين مسائل الإتلاف وبدأ بمسائل الغصب فنبدأ بما بدأ به فنقول وبالله التوفيق : معرفة مسائل الغصب في الأصل مبنية على معرفة حد الغصب وعلى معرفة حكم اختلاف الغاصب والمغصوب منه .
أما حد الغصب فقد اختلف العلماء فيه : قال أبو حنيفة و أبو يوسف Bهما هو : إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال وقال محمد C : الفعل في المال ليس بشرط لكونه غصبا وقال الشافعي C هو : إثبات اليد على مال الغير بغير إذنه والإزالة ليست بشرط .
أما الكلام مع الشافعي C فهو احتج لتمهيد أصله بقوله سبحانه وتعالى : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } جعل الغصب مصدر الأخذ فدل أن الغصب والأخذ واحد والأخذ إثبات اليد إلا أن الإثبات إذا كان بإذن المالك يسمى إيداعا وإعارة وإبضاعا في عرف الشرع وإذا كان بغير إذن المالك يسمى في متعارف الشرع غصبا ولأن الغصب إنما جعل سببا لوجوب الضمان بوصف كونه تعديا فإذا وقع الإثبات بغير إذن المالك وقع تعديا فيكون سببا لوجوب الضمان بوصف كونه تعديا والدليل عليه .
أن غاصب الغاصب ضامن وإن لم يوجد منه إزالة يد المالك لزوالها بغصب الغاصب الأول وإزالة الزائل محال والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولنا الاستدلال بضمان الغصب من وجهين : .
أحدهما : أن المالك استحق إزالة يد الغاصب عن الضمان فلا بد وأن يكون الغصب منه إزالة يد المالك لأن الله تبارك وتعالى لم يشرع الاعتداء إلا بالمثل بقوله سبحانه وتعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .
والثاني : أن ضمان الغصب لا يخلو إما أن يكون ضمان زجر وإما أن يكون ضمان جبر ولا سبيل إلى الأول لأنه يجب على من ليس من أهل الزجر ولأن الانزجار لا يحصل به فدل أنه ضمان جبر والجبر يستدعي الفوات فدل أنه لا بد من التفويت لتحقق الغصب ولا حجة له في الآية لأن الله تعالى فسر أخذ الملك تلك السفينة بغصبه إياها كأنه قال سبحانه وتعالى : وكان وراءهم ملك يغصب كل سفينة وهذا لا يدل على أن كل أخذ غصب بل هي حجة عليه لأن غصب ذلك الملك كان إثبات اليد على السفينة مع إزالة أيدي المساكين عنها فدل على أن الغصب إثبات على وجه يتضمن الإزالة .
وأما قوله الغصب إنما أوجب الضمان لكونه تعديا فمسلم لكن التعدي في الإزالة لا في الإثبات لأن وقوعه تعديا بوقوعه ضارا بالمالك وذلك بإخراجه من أن يكون منتفعا به في حق المالك وإعجازه عن الانتفاع به وهو تفسير تفويت اليد وإزالتها .
فأما مجرد الإثبات فلا ضرر فيه فلم يكن الإثبات تعديا وعلى هذا الأصل يخرج زوائد الغصب أنها ليست بمضمونة سواء كانت منفصلة كالولد واللبن والثمرة أو متصلة كالسمن والجمال لأنها لم تكن في يد المالك وقت غصب الأم فلم توجد إزالة يده عنها فلم يوجد الغصب وعند محمد مضمونة لأن الغصب عنده إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه وقد وجد الغصب وهل تصير مضمونة عندنا بالبيع والتسليم والمنع أو الاستهلاك أو الاستخدام جبرا ؟ .
أما المنفصلة فلا خلاف بين أصحابنا Bهم في أنها تصير مضمونة بها وأما المتصلة فذكر في الأصل أنها تصير مضمونة بالبيع والتسليم ولم يذكر الخلاف .
وصورة المسألة إذا غصب جارية قيمتها ألف درهم فازدات في بدنها خيرا حتى صارت قيمتها ألفي درهم فباعها وسلمها إلى المشتري فهلكت في يده فالمالك بالخيار إن شاء ضمن المشتري قيمتها ألفي درهم وإن شاء ضمن البائع فإن اختار تضمين المشتري ضمنه قيمتها يوم القبض ألفي درهم وإن اختار تضمين البائع ضمنه بالبيع والتسليم قيمتها ألفي درهم أيضا كذا ذكر في الأصل ولم يذكر الخلاف .
وحكى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله الخلاف أن على قول أبي حنيفة C إن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم القبض ألفي درهم وإن شاء ضمن الغاصب قيمتها يوم الغصب ألف درهم وليس له أن يضمنه زيادة بالبيع والتسليم وكذا ذكره الحاكم الشهيد في المنتقى وحكى الخلاف وهكذا ذكر الطحاوي في مختصره إلا أنه ذكر الاستهلاك مطلقا فقال : إلا أن يستهلكها وفسره الجصاص في شرحه مختصر الطحاوي فقال : إلا أن يكون عبدا أو جارية فيقتل وهذا هو الصحيح إن المغصوب إذا كان عبدا أو جارية فقتله الغاصب خطأ يكون المالك بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب وإن شاء ضمن عاقلة القاتل قيمته وقت القتل زائدة في ثلاث سنين .
وجه قولهما : أن البيع والتسليم غصب لأنه تفويت إمكان الأخذ لأن المالك كان متمكنا من أخذه منه قبل البيع والتسليم وبعد البيع والتسليم لم يبق متمكنا وتفويت إمكان الأخذ تفويت اليد معنى فكان غصبا موجبا للضمان وهذا لأن تفويت يد المالك إنما كان غصبا موجبا للضمان لكونه إخراج المال من أن يكون منتفعا به في حق المالك وإعجازه عن الانتفاع بماله وهذا يحصل بتفويت إمكان الأخذ فيوجب الضمان ولهذا يجب الضمان على غاصب الغاصب ومودع الغاصب والمشتوي من الغاصب كذا هذا .
و لأبي حنيفة Bه : أن الأصل مضمون بالغصب الأول فلا يقع البيع والتسليم غصبا له لأن غصب المغصوب لا يتصور والزيادة المتصلة لا يتصور إفرادها بالغصب لتصير مغصوبة بالبيع والتسليم بخلاف الزيادة المنفصلة فإن إفرادها بالغصب بدون الأصل متصور فلم تكن مغصوبة بالغصب الأول لانعدامها فجاز أن تصير مغصوبة بالبيع والتسليم فهذا الفرق بين الزيادتين وبخلاف القتل لأن قتل المغصوب متصور لأن محل القتل غير محل الغصب فمحمل القتل هو الحياة ومحمل الغصب هو مالية العين فتحقق الغصب لا يمنع تحقق القتل إلا أن المضمون واحد والمستحق للضمان واحد فيخير ولأن الأصل مضمون بالغصب السابق لا شك فيه فيصير مملوكا للغاصب من ذلك الوقت بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله .
وأما الزيادة المتصلة فالزيادة حدثت على ملك الغاصب لأنها نماء ملكه فتكون ملكه فكان البيع والتسليم والمنع والاستخدام والاستهلاك في غير بني آدم تصرفا في ملك نفسه فلا يكون مضمونا عليه كما لو تصرف في سائر أملاكه بخلاف الزيادة المنفصلة لأنا أثبتنا الملك بطريق الاستناد فالمستند يظهر من وجه ويتقصر على الحال من وجه فيعمل بشبهة الظهور في الزوائد المتصلة وبشبه الاقتصار في المنفصلة إذ لا يكون العمل به على العكس ليكون عملا بالشبهين بقدر الإمكان .
وأما على طريق الظهور المحض فتخريجهما مشكل والله تعالى الموفق بخلاف القتل لأن العبد إنما يضمن بالقتل من حيث إنه آدمي لا من حيث إنه مال والغاصب إنما ملكه بالضمان من وقت الغصب من حيث إنه مال لا من حيث إنه آدمي لأنه من حيث إنه آدمي لا يحتمل التملك فلم يكن هو بالقتل متصرفا في ملك نفسه لهذا افترقا والله سبحانه وتعالى أعلم .
ثم على أصلهما إذا اختار المالك تضمين البائع هل يثبت له الخيار بين أن يضمنه ألفي درهم وقت البيع وبين أن يضمنه ألف درهم وقت الغصب قال بعض مشايخنا : يثبت وهذا غير سديد لأن التخيير ين القليل والكثير عند اتحاد الذمة من باب السفه بخلاف التخيير بين البائع والمشتري عند أبي حنيفة C لأن هناك الذمة مختلفة فمن الجائز أن يكون أحدهما مليا والآخر مفلسا فكان التخيير مفيدا وبخلاف القتل لأن ضمان القتل ضمان الدم وأنه مؤجل إلى ثلاث سنين وضمان النصب ضمان المال وأنه حال فكان التخيير مفيدا .
ثم إذا ضمن المالك الغاصب قيمة المغصوب وقت الغصب أو وقت البيع والتسليم جاز البيع لأنه تبين أنه باع ملك نفسه والثمن له لأنه بدل ملكه وإن ضمن المشتري قيمته وقت القبض بطل البيع ورجع المشتري بالثمن على البائع لأنه تبين أنه أخذه بغير حق وليس له أن يرجع على البائع بالضمان .
ولو غصب من إنسان شيئا فجاء آخر وغصبه منه فهلك في يده فالمالك بالخيار إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني .
أما تضمين الأول فلوجود فعل الغصب منه وهو تفويت يد المالك وأما تضمينه الثاني فلأنه فوت يد الغاصب الأول ويده يد المالك من وجه لأنه يحفظ ماله ويتمكن من رده على المالك ويستقر بهما الضمان في ذمته فكانت منفعة يده عائدة إلى المالك فأشبهت يد المودع وقد وجد من كل واحد منهما سبب وجوب الضمان إلا أن المضمون واحد فخيرنا المالك لتعين المستحق فإن اختار أن يضمن الأول رجع بالضمان على الثاني لأنه ملك المغصوب من وقت غصبه فتبين أن الثاني غصب ملكه وإن اختار تضمين الثاني لا يرجع على أحد لأنه ضمن بفعل نفسه وهو تفويت يد المالك من وجه على ما بينا وكذلك إن استهلكه الغاصب الثاني ومتى اختار تضمين أحدهما هل يبرأ الآخر عن الضمان بنفس الاختيار ؟ .
ذكر في الجامع أنه يبرأ حتى لو أراد تضمينه بعد ذلك لم يكن له ذلك وروى ابن سماعة C في نوادره عن محمد أنه لا يبرأ ما لم يرض من اختار تضمينه أو يقضى به عليه .
وجه رواية النوادر : أن عند وجود الرضا أو القضاء بالضمان صار المغصوب ملكا للذي ضمنه لأنه باعه منه فلا يملك الرجوع بعد تمليكه كما لو باعه من الأول فأما قبل وجود الرضا أو القضاء بالضمان صار المغصوب ملكا للذي ضمنه لأنه باعه منه فلا يملك الرجوع بعد تمليكه كما لو باعه من الأول فأما قبل وجود الرضا أو القضاء فلم يوجد منه التمليك من أحدهما فله أن يملكه من أيهما شاء .
وجه رواية الجامع ما ذكرنا : أنه باختياره تضمين الغاصب الآخر أظهر أنه راض بأخذ الأول وأنه بمنزلة المودع وباختيار تضمين الأول أظهر أن الثاني ما أتلف عليه شيئا لأنه لم يفوت يده والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو باع الغاصب المغصوب من الثاني فهلك في يده يتخير المالك فيضمن أيهما شاء فإن ضمن الغاصب جاز بيعه والثمن له لما ذكرنا وإن ضمن المشتري بطل البيع ولا يرجع بالضمان على البائع ولكنه يرجع بالثمن عليه لما ذكرنا وكذلك لو استهلكه المشتري .
ولو كان المغصوب عبدا فأعتقه المشتري من الغاصب ثم أجاز المالك البيع نفذ إعتاقه استحسانا وعند محمد و زفر رحمهما الله لا ينفذ قياسا ولاخلاف في أنه لو باعه المشتري ثم أجاز المالك البيع الأول أنه لا ينفذ البيع الثاني وجه القياس ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ] ولا ملك للمشتري في العبد لأنه ملك المغصوب منه فلا ينعقد إعتاقه فيه فينفذ عليه عند الإجازة ولهذا لم ينفذ بيعه .
وجه الاستحسان : أن إعتاق المشتري صادف ملكا على التوقف فينعقد على التوقف كالمشتري من الوارث عبدا من التركة المستغرقة بالدين إذا أعتقه ثم أبرأ الغرماء الميت عن ديونهم .
والدليل على أن الإعتاق صادف ملكا على التوقف أن سبب الملك انعقد على التوقف وهو البيع المطلق الخالي عن الشرط ممن هو من أهل البيع في محل قابل إلا أنه لم ينفذ دفعا للضرر عن المالك ولا ضرر عليه في التوقف فيتوقف وإذا توقف سبب الملك يتوقف الملك فيتوقف الإعتاق بخلاف البيع فإنه يعتمد شروطا أخر ألا ترى أنه لا يجوز بيع المنقول قبل القبض مع قيام الملك لمعنى الغرر وفي توقيف نفاذ البيع الأول تحقيق معنى الغرر .
ولو أودع الغاصب المغصوب فهلك في يد المودع يتخير المالك في التضمين فإن ضمن الغاصب لا يرجع بالضمان على أحد لأنه تبين أنه أودع ملك نفسه وإن ضمن المودع يرجع على الغاصب لأنه غره بالإيداع فيرجع عليه بضمان الغرر وهو ضمان الالتزام في الحقيقة ولو استهلكه المودع فالجواب على القلب من الأول أنه إن ضمن الغاصب فالغاصب يرجع بالضمان على المودع لأنه تبين أنه استهلك ماله وإن ضمن المودع لم يرجع على الغاصب لأنه ضمن بفعل نفسه فلا يرجع على أحد .
ولو آجر الغاصب المغصوب أو رهنه من إنسان فهلك في يده يتخير المالك فإن ضمن الغاصب لا يرجع على المستأجر والمرتهن لأنه تبين أنه آجر ورهن ملك نفسه إلا أن في الرهن يسقط دين المرتهن على ما هو حكم هلاك الرهن وإن ضمن المستأجر أو المرتهن يرجع على الغاصب بما ضمن والمرتهن يرجع بدينه أيضا .
أما رجوع المرتهن بالضمان فلا شك فيه لصيرورته مغرورا وأما رجوع المستأجر فلأنه وإن استفاد ملك المنفعة لكن بعوض وهو الأجرة فيتحقق الغرور فأشبه المودع .
ولو استهلكه المستأجر أو المرتهن يتخير المالك إلا أنه إن ضمن الغاصب يرجع على المستأجر والمرتهن لأنه تبين أنه آجر ملك نفسه ورهن ملك نفسه فاستهلكه المستأجر والمرتهن وإن ضمن المستأجر أو المرتهن لم يرجع على أحد لأنه ضمن بفعل نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو أعاره الغاصب فهلك في يد المستعير يتخير المالك وأيهما ضمن لا يرجع بالضمان على صاحبه .
أما الغاصب فلا شك فيه لأنه أعاد ملك نفسه فهلك في يد المستعير وأما المستعير فلأنه استفاد ملك المنفعة فلم يتحقق الغرور والله تعالى أعلم .
وعلى هذا تخرج منافع الأعيان المنقولة المغصوبة إنها ليست بمضمونة عندنا وعند الشافعي C : مضمونة نحو ما إذا غصب عبدا أو دابة فأمسكه أياما ولم يستعمله ثم رده على مالكه لأنه لم يوجد تفويت يد المالك عن المنافع لأنها أعراض تحدث شيئا فشيئا على حسب حدوث الزمان فالمنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك فلم يوجد تفويت يد المالك عنها فلم يوجد الغصب وعنده حد الغصب إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه وقد وجد في المنافع والمنفعة مال بدليل أنه يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة وتصلح مهرا في النكاح فتحقق الغصب فيها فيجب الضمان .
وعلى هذا يخرج ما إذا غصب دارا أو عقارا فإنهدم شيء من البناء أو جاء سيل فذهب بالبناء والأشجار أو غلب الماء على الأرض فبقيت تحت الماء أنه لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة Bه و أيي يوسف الآخر وعند محمد وهو قول أبي يوسف الأول يضمن وهو قول الشافعي C .
وأما الشافعي فقد مر على أصله في تحديد الغصب أنه إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه وهذا يوجد في العقار كما يوجد قي المنقول .
وأما محمد C تعالى فقد مر على أصله في حد الغصب أنه إزالة يد المالك عن ماله والفعل في المال ليس بشرط وقد وجد تفويت يد المالك عن العقار لأن ذلك عبارة عن إخراج المال من أن يكون منتفعا به في حق المالك أو إعجاز المالك عن الانتفاع به وهذا كما يوجد في المنقول يوجد في العقار فيتحقق الغصب والدليل عليه مسألة ذكرناها في الرجوع عن الشهادات وهي إن من ادعى على آخر دارا فأنكر المدعى عليه فأقام المدعي شاهدين وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا يضمنان كما لو كانت الدعوى في المنقول فقد سوى بين العقار والمنقول في ضمان الرجوع فدل أن الغصب الموجب للضمان يتحقق فيهما جميعا .
وأما أبو حنيفة و أبو يوسف رحمهما الله فمرا على أصلهما أن الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال ولم يوجد في العقار .
والدليل على أن هذا شرط تحقق الغصب الاستدلال بضمان الغصب فإن أخذ الضمان من الغاصب تفويت يده عنه بفعل في الضمان فيستدعي وجود مثله منه في المغصوب ليكون اعتداء المثل وعلى أنهما إن سلما تحقق الغصب في العقار فالأصل في الغصب أن لا يكون سببا لوجوب الضمان لأن أخذ الضمان من الغاصب إتلاف ماله عليه .
ألا ترى أنه تزول يده وملكه عن الضمان فيستدعي وجود الإتلاف منه إما حقيقة أو تقديرا لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الاعتداء إلا بالمثل قال الله سبحانه وتعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ولم يوجد ههنا الإتلاف من الغاصب لا حقيقة ولا تقديرا .
أما الحقيقة فظاهرة وأما التقدير فلأن ذلك بالعقل والتحويل والتغييب عن المالك على وجه لا يقف على مكانه ولهذا لو حبس رجلا حتى ضاعت مواشيه وفسد زرعه لا ضمان عليه والعقار لا يحتمل النقل والتحويل فلم يوجد الإتلاف حقيقة وتقديرا فينتفي الضمان لضرورة النص .
وعلى هذا الاختلاف إذا غصب عقارا فجاء إنسان فأتلفه فالضمان على المتلف عندهما لأن الغصب لا يتحقق قي العقار فيعتبر الإتلاف وعند محمد يتحقق الغصب فيه فيتخير المالك فإن اختار تضمين الغاصب فالغاصب يرجع بالضمان على المتلف وإن اختار تضمين المتلف لا يرجع على أحد لأنه ضمن بفعل نفسه .
وأما مسألة الرجوع عن الشهادة فمن أصحابنا من منعها وقال : إن محمدا C بنى الجواب على أصل نفسه فأما على قولهما فلا يضمنان ومنهم من سلم ولا بأس بالتسليم لأن ضمان الرجوع ضمان إتلاف لا ضمان غصب والعقار مضمون بالإتلاف بلا خلاف .
وعلى هذا يخرج ما إذا غصب صبيا حرا من أهله فمات في يده من غير آفة أصابته بأن مرض في يده فمات أنه لا يضمن لأن كون المغصوب مالا شرط تحقق الغصب والحر ليس بمال .
ولو مات في يده بآفة بأن عقره أسد أو نهشته حية ونحو ذلك يضمن لوجود الإتلاف تسبيبا والحر يضمن بالإتلاف مباشرة وتسبيبا على ما نذكره في مسائل الإتلاف إن شاء الله تعالى .
ولو غصب مدبرا فهلك في يده يضمن لأن المدبر مال متقوم إلا أنه امتنع جواز بيعه إذا كان مدبرا مطلقا مع كونه مالا متقوما لانعقاد سبب الحرية للحال وفي البيع إبطال السبب على ما عرف وكذلك لو غصب مكاتبا فهلك في يده لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان مالا متقوما ومعتق البعض بمغزلة المكاتب على أصل أبي حنيفة فكان مضمونا بالغصب كالمكاتب وعلى أصلهما هو حر عليه دين والحر لا يضمن بالغصب ولو غصب أم ولد إنسان فهلكت عنده لم يضمن عند أبي حنيفة Bه وعندهما يضمن وأم الولد لا تضمن بالغصب ولا بالقبض في البيع الفاسد ولا بالإعتاق كجارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه جميعا ثم أعتقها أحدهما لا يضمن لشريكه شيئا ولا تسعى هي في شيء أيضا عنده وعندهما يضمن في ذلك كله كالمدبر .
ولقب المسألة : أن أم الولد هل هي متقومة من حيث إنها مال أم لا ولا خلاف أنها متقومة بالقتل ولا خلاف في أن المدبر متقوم .
وجه قولهما أنه كانت مالا متقوما والاستيلاد لا يوجب المالية والتقوم لأنه لا يثبت به إلا حق الحرية فإنه لا يبطل المالية والتقوم كما في المدبر .
وجه قول أبي حنيفة Bه : أن الاستيلاد إعتاق لما روي عن النبي E أنه قال في جاريته مارية : [ أعتقها ولدها ] فظاهره يقتضي ثبوت العتق للحال في جميع الأحكام إلا أنه تأخر في حق بعض الأحكام فمن ادعى التأخر في حق سقوط المالية والتقوم فعليه الدليل بخلاف المدبر لأن التدبير ليس بإعتاق للحال على معنى أنه لا يثبت به العتق للحال أصلا وإنما الموجود للحال مباشرة سبب العتق من غير عتق وهذا لا يمنع بقاء المالية والتقويم ويمنع جواز البيع لما قلنا .
وعلى هذا يخرج ما إذا غصب جلد ميتة لذمي أو لمسلم فهلك في يده أو استهلكه أنه لا يضمن لأن الميتة والدم ليسا بمال في الأديان كلها ولو دبغه الغاصب وصار مالا فحكمه نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .
وعلى هذا يخرج ما إذا غصب خمرا لمسلم أو خنزيرا له فهلك في يده أنه لا يضمن سواء كان الغاصب مسلما أو ذميا لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وكذا الخنزير فلا يضمنان بالغصب ولو غصب خمرا أو خنزيرا لذمي فهلك في يده يضمن سواء كان الغاصب ذميا أو مسلما غير أن الغاصب إن كان ذميا فعليه في الخمر مثلها وفي الخنزير قيمته وإن كان مسلما فعليه القيمة فيهما جميعا وهذا عندنا .
وقال الشافعي : لا ضمان على غاصب الخمر والخنزير كائنا من كان .
وجه قوله : أن حرمة الخمر والخنزير ثابتة في حق الناس كافة لقوله سبحانه وتعالى في صفة الخمور إنه { رجس من عمل الشيطان } وصفة المحل لا تختلف باختلاف الشخص .
وقوله عليه السلام : [ حرمت الخمر لعينها ] أخبر عليه السلام كونها محرمة وجعل علة حرمتها عينها فتدور الحرمة مع العين وإذا كانت محرمة لا تكون مالا لأن المال ما يكون منتفعا به حقيقة مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق .
ولنا ما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في الحديث المعروف : [ فأعلموهم أن لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين ] وللمسلم الضمان إذا غصب منه خله وشاته ونحو ذلك إذا هلك في يد الغاصب فيلزم أن يكون للذمي الضمان إذا غصب منه خمره أو خنزيره ليكون لهم ما للمسلمين عملا بظاهر الحديث .
وأما الكلام في المسألة من حيث المعنى فبعض مشايخنا قالوا : الخمر مباح قي حق أهل الذمة وكذا الخنزير فالخمر في حقهم كالخل في حقنا والخنزير في حقهم كالشاة في حقنا في حق الإباحة شرعا فكان كل واحد منهما مالا متقوما في حقهم .
ودليل الإباحة في حقهم أن كل واحد منهم منتفع به حقيقة لأنه صالح لإقامة مصلحة البقاء والأصل في أسباب البقاء هو الإطلاق إلا أن الحرمة في حق المسلم تثبت نصا غير معقول المعنى أو معقول المعنى لمعنى لا يوجد ههنا أو يوجد لكنه يقتضي الحل لا الحرمة وهو قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } لأن الصد لا يوجد في الكفرة والعداوة فيما بينهم واجب الوقوع ولأنها سبب المنازعة والمنازعة سبب الهلاك وهذا يوجب الحل لا الحرمة فلا تثبت الحرمة في حقهم وبعضهم قالوا : إن الحرمة ثابتة في حقهم كما هي ثابتة في حق المسلمين لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات عندنا وهو الصحيح من الأقوال على ما عرف في أصول الفقه .
وعلى هذا طريق وجوب الضمان وجهان .
أحدهما : أن الخمر وإن لم يكن مالا متقوما في الحال فهي بعرض أن تصير مالا متقوما في الثاني بالتخلل والتخليل ووجوب ضمان الغصب والإتلاف يعتمد كون المحل المغصوب والمتلف مالا متقوما في الجملة ولا يقف على ذلك للحال .
ألا ترى أن المهر والجحش وما لا منفعة له في الحال مضمون بالغصب والإتلاف .
والثاني : أن الشرع منعنا عن التعرض لهم بالمنع عن شرب الخمر وأكل الخنزير لما روي عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال : أمرنا بأن نتركهم وما يدينون ومثله لا يكذب وقد دانوا شرب الخمر وأكل الخنزير فلزمنا ترك التعرض لهم في ذلك وبقي الضمان بالغصب والإتلاف يفضي إلى التعرض لأن السفيه .
إذا علم أنه إذا غصب أو أتلف لا يؤاخذ بالضمان يقدم على ذلك وفي ذلك منعهم وتعرض لهم من حيث المعنى والله أعلم .
ولو كان لمسلم خمر غصبها ذمي أو مسلم فهلكت عند الغاصب أو خللها فلا ضمان عليه ولو استهلكها يضمن خلا مثلها لأن الغصب حين وجوده لم ينعقد سببا لوجوب الضمان ولم يوجد من الغاصب صنع آخر لأن الهلاك ليس من صنعه فلا يضمن وإن استهلكه فقد وجد منه صنع آخر سوى الغصب وهو إتلاف خل مملوك للمغصوب منه فيضمن .
ولو غصب مسلم من نصراني صليبا له فهلك في يده يضمن قيمته صليبا لأنه مقر على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم .
وعلى هذا يخرج ما إذا استخدم عبد رجل بغير أمره أو بعثه في حاجة أو قاد دابة له أو ساقها أو ركبها أو حمل عليها بغير إذن صاحبها إنه ضامن بذلك سواء عطب في تلك الخدمة أو في مضيه في حاجته أو مات حتف أنفه لأن يد المالك كانت ثابتة عليه واذا أثبت يد التصرف عليه فقد فوت يد المالك فيتحقق الغصب .
ولو دخل دار إنسان بغير إذنه وليس في الدار أحد فهلك في يده لم يضمن في قولهما وعند محمد يضمن وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم ولو جلس على فراش غيره أو بساط غيره بغير إذنه فهلك لا يضمن بالإجماع لأن تفويت يد المالك فيما يحتمل النقل لا يحصل بدون النقل فلم يتحقق الغصب فلا يجب .
الضمان والله سبحانه وتعالى أعلم