القسم الثاني من بيان حكم ما عدل المكر إلى غير ما وقع عليه الإكراه .
هذا كله إذا كان الإكراه على الأفعال الحسية فأما إذا كان على التصرفات الشرعية فنقول وبالله التوفيق : .
التصرفات الشرعية في الأصل نوعان : إنشاء وإقرار والإنشاء نوعان : نوع لا يحتمل الفسخ ونوع يحتمله أما الذي لا يحتمل الفسخ فالطلاق والعتاق والرجعة والنكاح واليمين والنذر والظاهر والإيلاء والفيء في الإيلاء والتدبير والعفو عن القصاص وهذه التصرفات جائزة مع الإكراه عندنا وعند الشافعي C لا تجوز .
واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] فلزم أن يكون حكم كل ما استكره عليه عفوا ولأن القصد إلى ما وضع له التصرف شرط جوازه ولهذا لا يصح تصرف الصبي والمجنون وهذا الشرط يفوت بالإكراه لأن المكره لا يقصد بالتصرف ما وضع له وإنما يقصد دفع مضرة السيف عن نفسه .
ولنا : أن عمومات النصوص وإطلاقها يقتضي شرعية هذه التصرفات من غير تخصيص وتقييد .
أما الطلاق فلقوله سبحانه وتعالى : { فطلقوهن لعدتهن } وقوله E : [ كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه ] ولأن الفائت باالإكراه ليس إلا الرضا طبعا وأنه ليس بشرط لوقوع الطلاق فإن طلاق الهازل واقع وليس براض به طبعا وكذلك الرجل قد يطلق امرأته الفائقة حسنا وجمالا الرائقة تغنجا ودلالا لخلل في دينها وإن كان لا يرضى به طبعا ويقع الطلاق عليها .
وأما الحديث فقد قيل : إن المراد منه الإكراه على الكفر لأن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام وكان الإكراه على الكفر ظاهرا يومئذ وكان يجري على ألسنتهم كلمات الكفر خطأ وسهوا فعفا الله جل جلاله عن ذلك عن هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع ما أنا نقول بموجب الحديث إن كل مستكره عليه معفو عن هذه الأمة لكنا لا نسلم أن الطلاق والعتاق وكل تصرف قولي مستكره عليه وهذا لأن الإكراه لا يعمل على الأقوال كما يعمل على الاعتقادات لأن أحدا لا يقدر على استعمال لسان غيره بالكلام على تغيير ما يعتقده بقلبه جبرا فكان كل متكلم مختارا فيما يتكلم به فلا يكون مستكرها عليه حقيقة فلا يتناوله الحديث .
وقوله : القصد إلى ما وضع له التصرف بشرط اعتبار التصرف قلنا هذا باطل بطلاق الهازل ثم إن كان شرطا فهو موجود ههنا لأنه قاصد دفع الهلاك عن نفسه ولا يندفع عنه إلا بالقصد إلى ما وضع له فكان قاصدا إليه ضرورة ثم لا يخلو إما إن أكره على تنجيز الطلاق أو على تعليقه بشرط أو على تحصيل الشرط الذي علق به وقوع الطلاق وحكم الجواز لا يختلف في نوعي التنجيز والتعليق وحكم الضمان يتفق مرة ويختلف أخرى وسنذكر تفصيل هذه الجملة في فصل الإكراه على الإعتاق وإنما نذكر ههنا حكم جواز التطليق المنجز فنقول : إذا جاز طلاق المكره فإن كان قبل الدخول بها يجب عليه نصف المفروض إن كان المهر مفروضا والمتعة إذا لم يكن مفروضا لأن هذا حكم الطلاق قبل الدخول ويرجع به على المكره لأنه هو الذي دفعه إلى مباشرة سببه وهو الطلاق فكان قرار الضمان عليه .
وإذا كان بعد الدخول بها يجب عليه كمال المهر ولا سبيل له على المكره لأن المهر يتأكد باستيفاء منفعة البضع على وجه لا يحتمل السقوط وهو الذي استوفى المبدل باختياره فعليه تسليم البدل والله أعلم .
وكذلك إذا كان الإكراه ناقصا لا سبيل على المكره لأنه لا يخل باختيار المكره أصلا على ما مر .
هذا إذا كان الإكراه على الطلاق فأما إذا كان الإكراه على التوكيل بالطلاق ففعله الوكيل فحكمه يذكر في فصل الإكراه على الإعتاق إن شاء الله تعالى .
وأما العتاق فلما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال : [ علمني عملا يدخلني الجنة ؟ فقال : أعتق النسمة وفك الرقبة فقال صلى الله عليه و سلم : لا عتق النسمة أن تفرد بعتقها وفك الرقبه أن تعين في عتقها ] وغيره من الأحاديث التي فيها الندب إلى الإعتاق من غير فصل بين المكره والطائع ولأن الإعتاق تصرف قولي فلا يؤثر فيه الإكراه كالطلاق ثم لا يخلو إما أن كان على تنجيز العتق أو على تعليقه بشرط أو على شرط العتق المعلق به .
أما إذا كان الإكراه على تنجيز العتق فأعتق يضمن المكره قيمة العبد موسرا كان أو معسرا ولا يرجع المكره على العبد بالضمان ولا سعاية على العبد والولاء لمولاه .
أما وجوب الضمان على المكره فلأن العبد آدمي هو مال والإعتاق إتلاف المالية والأموال مضمونة على المكره بالإتلاف فكان الضمان على المكره كما في سائر الأموال ويستوي فيه يساره وإعساره لأن ضمان الإتلاف لا يختلف باليسار والإعسار ولا يرجع على العبد بالضمان لأن سبب وجوب الضمان منه باختياره فلا معنى للرجوع إلى غيره والولاء للمكره لأن الإعتاق من حيث هو كلام مضاف إلى المكره لاستحالة ورود الإكراه على الأقوال فكان الولاء له ولا سعاية على العبد لأن العبد إنما يستسعى إما لتخريجه إلى العتق تكميلا له وإما لتعليق حق الغير به وقد عتق كله فلا حاجة إلى التكميل وكذا لا حق لأحد تعلق به فلا سعاية عليه ولو أكره على شراء ذي رحم محرم منه عتق عليه لأن شراء القريب إعتاق بالنص والإكراه لا يمنع جواز الإعتاق لكن لا يرجع المكره ههنا بقيمة العبد على المكره لأنه حصل له عوض وهو صلة الرحم .
ولو كان العبد مشتركا بين اثنين فأكره أحدهما على إعتاقه فأعتقه جاز عتقه لما ذكرنا أن الإكراه لا يمنع جواز الإعتاق لكن يعتق نصفه عند أبي حنيفة Bه وعندهما يعتق كله بناء على أن الإعتاق يتجزأ عنده وعندهما لا يتجزأ ولا يضمن الشريك المكره للشريك الآخر نصيبه ولكن يضمن المكره نصيب المكره لأن الإعتاق من حيث هو إتلاف المال مضاف إلى المكره فكان المتلف من حيث المعنى هو المكره فكان الضمان عليه سواء كان موسرا أو معسرا وهذا بخلاف حالة الاختيار إذا أعتقه أحد الشريكين أنه لايضمن لشريكه الساكت إذا كان المعتق معسرا وههنا يضمن موسرا كان أو معسرا لأن الضمان الواجب على المكره ضمان إتلاف على ما مر والأصل أن ضمان الإتلاف لا يختلف باليسار والإعسار فالواجب على أحد الشريكين حالة الاختيار ليس بضمان إتلاف لانعدام الإتلاف منه في نصيب شريكه أما على أصل أبي حنيفة Bه فظاهر لأنه لا يعتق نصيب شريكه وأما على أصلهما فإن عتق لكن لا بإعتاقه لأنا إعتاقه تصرف في ملك نفسه إلا أنه عتق نصيب شريكه عند تصرفه لا بتصرفه فلا يكون مضافا إليه كمن حفر بئرا في دار نفسه فوقع فيها غيره أو سقى أرض نفسه ففسدت أرض غيره حتى لا يجب عليه الضمان إلا أن وجوب الضمان على أحد الشريكين حالة الاختيار عرف شرعا والشرع ورد به على الموسر فيقتصر على مورد الشرع وشريك المكره بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء دبره وإن شاء كاتبه وإن شاء استسعاه معسرا كان المكره أو موسرا وإن شاء ضمن المكره إن كان موسرا فإن اختار تضمين المكره فالولاء بين المكره والمكره لأنه انتقل نصيبه إليه باختيار طريق الضمان وإن اختار الإعتاق أو السعاية فالولاء بينه وبين شريكه وهذا قول أبي حنيفة Bه وعندهما إن كان المكره موسرا فلشريك المكره أن يضمنه لا غير وإن كان معسرا فله أن يستسعي العبد لا غير كما في حالة الاختيار وموضع المسألة في كتاب العتاق وإنما ذكرنا بعض ما يختص بالإكراه والله تعالى الموفق .
وأما التدبير فلأن التدبير تحرير قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المدبر لا يباع ولا يوهب وهر حر من الثلث ] إلا أنه للحال تحرير من وجه والإكراه لا يمنع نفاذ التحرير من كل وجه فلا يمنع نفاذ التحرير من وجه بالطريق الأولى ويرجع المكره على المكره للحال بما نقصه التدبير وبعد موته يرجع ورثته على المكره ببقية قيمته لأن التدبير للحال إثبات الحرية من وجه وإنما تثبت الحرية من كل وجه في آخر جزء من أجزاء حياته فكان الإكراه على التدبير إتلافا لمال المكره للحال من وجه فيضمن بقدره من النقصان ثم يتكامل الإتلاف في آخر جزء من أجزاء حياته فيتكامل الضمان عند ذلك وذلك بقية قيمته فإذا مات المكره صار ذلك ميراثا لورثته فكان لهم أن يرجعوا به على المكره والله تعالى الموفق .
هذا إذا أكره على تنجيز العتق فأما إذا كره على تعليق العتق بشرط أما حكم الجواز فلا يختلف في النوعين لما ذكرنا وأما حكم الضمان فقد يختلف بيان ذلك إذا أكره على تعليق العتق بفعل نفسه فإنه ينظر فإن كان فعلا لا بد منه بأن كان مفروضا عليه أو يخاف من تركه الهلاك على نفسه كالأكل والشرب ففعله حتى عتق يرجع بالضمان على المكره لأن الإكراه على تعليق العتق بفعل لا بد له منه إكراه على ذلك الفعل فكان مضافا إلى المكره .
وإن كان فعلا له منه بد كتقاضي دين الغريم أو تناول شيء له منه بد ففعل حتى عتق لا يرجع بالضمان على المكره لأنه إذا كان له منه بد لا يكون مضطرا إلى تحصيله إذ لا يلحقه بتركه كثير ضرر فأشبه الإكراه الناقص فلا يكون الإكراه على تعليق العتق به إكراها عليه فلا يكون تلف المال مضافا إلى المكره فلا يرجع عليه بالضمان .
ولو أكره على أن يقول كل مملوك أملكه فيما أستقبله فهو حر فقال ذلك ثم ملك مملوكا حتى عتق عليه فإن ملك بشراء أو هبة أو صدقة أو وصية لا ضمان على المكره لأنه إنما ملكه باختياره فيقطع إضافة إكراه الإتلاف إلى المكره وإن ملك بإرث فكذلك في القياس .
وفي الاستحسان : يضمن لأنه لا صنع للمكره في الإرث فبقي الإتلات مضافا إلى المكره .
ولو أكره على أن يقول لعبده : إن شئت فأنت حر فقال : شئت حتى عتق ضمن المكره لأن مشيئة المكره العتق توجد غالبا فأشبه التعليق بفعل لا بد منه فكان الإكراه على الإعتاق إكراها عليه .
هذا إذا أكره على تعليق العتق بالشرط فأما إذا أكره على تحصيل الشرط الذي علق به العتق عن طوع بأن قال رجل لعبد : إن ملكتك فأنت حر فأكره على الشراء فاشتراه حتى عتق لا يرجع على المكره بشيء لأن العتق لم يثبت بالشرط وهو الشراء وإنما ثبت بالكلام السابق وهو طائع فيه .
وكذا إذا قال لعبده : إن دخلت الدار فأنت حر فأكره على الدخول حتى عتق لا ضمان على المكره لما ذكرنا ثم إنما يضمن المكره في جميع ما وصفنا إذا كان الإكراه تاما فأما إذا كان ناقصا فلا ضمان لما مر أن الإكراه الناقص لا يقطع الإضافة عن المكره بوجه فلا يوجب الضمان على المكره والله تعالى أعلم .
هذا الذي ذكرنا إذا أكره على الإعتاق المطلق عينا فأما إذا أكره على أحدهما غير عين بأن أكره على أن يعتق عبده أو يطلق امرأته فإن لم تكن المرأة مدخولا بها ففعل المكره أحدهما غرم المكره الأقل من قيمة العبد ومن نصف مهر المرأة أما إذا فعل أقلهما ضمانا فظاهر لأنه ما أتلف عليه إلا هذا القدر وكذلك إذا فعل أكثرهما ضمانا لأنه أمكنه دفع الضرورة بأقل الفعلين ضمانا فإذا فعل أكثرهما ضمانا كان مختارا في الزيادة لانعدام الاضطرار في هذا القدر فلا يكون تلف هذا القدر مضافا إلى المكره .
وإن كانت المرأة مدخولا بها ففعل المكره أحدهما لا شيء على المكره أما إذا طلق فظاهر لأن الطلاق بعد الدخول لا يوجب الضمان على المكره لما ذكرنا من قبل وكذلك إذا أعتق لأنه أمكنه دفع الضرورة بما لا يتعلق فيه ضمان أصلا وهو الطلاق فكان مختارا في الإعتاق فلا يكون الإتلاف مضافا إلى المكره فلا يضمن وكذلك إذا كانت المرأة غير مدخول بها ولكن الإكراه ناقص ففعل المكره أحدهما لا ضمان على المكره لما مر أن الإكراه الناقص لا يقطع إضافة الفعل إلى المكره لأن الضرورة لا تتحقق به فكان مختارا مطلقا فيه فلا يؤاخذ به المكره .
هذا إذا أكره على الإعتاق فأما إذا أكره على التوكيل بالإعتاق فوكل غيره به ففعل الوكيل فالقياس أن لا يصح التوكيل ولا يجوز إعتاق الوكيل لأن التوكيل تصرف يحتمل الفسخ فأشبه البيع ولهذا يبطله الهزل كالبيع فلا يصح مع الإكراه كما لا يصح البيع .
وفي الاستحسان : يجوز لأن الإكراه لا يمنع صحة الإعتاق فلا يمنع صحة التوكيل بالإعتاق بخلاف البيع فإن الإكراه يمنع صحة البيع فيمنع صحة التركيل به .
و أما قوله : أنه يحتمل الفسخ والهزل فنعم لكنه تصرف قولي فلا يعمل عليه الإكراه كما لا يعمل على الإعتاق والطلاق والنكاح وغيرها بخلاف البيع فإنه اسم للمبادلة حقيقة وحقيقة المبادلة بالتعاطي وإنما الايجاب والقبول دليل عليه حالة الطوع فيعمل عليه الإكراه على ما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى وإذا نفذ إعتاق الوكيل يرجع المكره على المكره بقيمة العبد استحسانا والقياس أن لا يرجع لأن الموجود من المكره الإكراه على التوكيل بالإعتاق لا على الإعتاق وإنما الإعتاق حصل باختيار الوكيل ورضاه فلا يكون مضافا إلى المكره كشهود التوكيل بالإعتاق إذا رجعوا لا يضمنون لأنهم شهدوا بالوكالة بالإعتاق كذا ههنا .
وجه الاستحسان : أن الإكراه على التوكيل بالإعتاق إكراه على الإعتاق لأنه إذا وكل بالإعتاق ملك الوكيل إعتاقه عقيب التوكيل بلا فصل فيعتقه فيتلف ماله فكان الإتلات مضافا إلى المكره فيؤاخذ بضمانه ولا ضمان على الوكيل لأنه فعل بأمره أمرا صحيحا وإن كان الإكراه ناقصا فلا ضمان على المكره لما مر غير مرة .
وأما النكاح فلعموم قوله تبارك وتعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } وغيره من عمومات النكاح من غير تخصيص ولأن النكاح تصرف قولي فلا يؤثر فيه الإكراه كالطلاق والعتاق ثم إذا جاز النكاح مع الإكراه فلا يخلو إما إن أكره الزوج أو المرأة فإن أكره الزوج فلا يخلو إما أن يكون المسمى في النكاح مقدار مهر المثل وإما أن يكون أقل من مهر المثل وإما أن يكون أكثر منه فإن كان المسمى قدر مهر المثل أو أقل منه يجب المسمى ولا يرجع به على المكره لأنه ما أتلف عليه ماله حيث عوضه بمثله لأن منافع البضع جعلت أموالا متقومة شرعا عند دخولها في ملك الزوج لكونها سببا لحصول الآدمي تعظيما للآدمي وصيانة له عن الابتذال وإذا لم يوجد الإتلاف فلا يجب عليه الضمان وإن كان المسمى أكثر من مهر المثل يجب قدر مهر المثل وتبطل الزيادة لأن تسمية الزيادة على قدر مهر المثل لم تصح مع الإكراه فبطلت وجعل كأنه لم يفرض إلا قدر مهر المثل وهذا لأن الإكراه وقع على النكاح وعلى إيجاب المال إلا أن الإكراه لا يؤثر في النكاح ويؤثر في إيجاب المال كما يؤثر في الإقرار بالمال فكان ينبغي أن لا تصح تسمية المهر أصلا إلا أنها صحت في قدر مهر المثل شرعا لأن الشرع لو أبطل هذا القدر لأثبته ثانيا فلم يكن الإبطال مفيدا فلم يبطل لئلا يخرج الإبطال مخرج العيب ولا ضرورة في الزيادة فلا تصح تسميتها .
هذا إذا أكره الزوج على النكاح فأما إذا أكرهت المرأة فإن كان المسمى في النكاح قدر مهر المثل أو أكثر منه جاز النكاح ولزم وإن كان المسمى أقل من مهر المثل بأن أكرهت على النكاح بألف درهم ومهر مثلها عشرة آلاف فزوجها أولياؤها وهم مكرهون جاز النكاح لما ذكرنا وليس للمرأة على المكره من مهر مثلها شيء لأن المكره ما أتلف عليها مالا لأن منافع البضع ليست بمتقومة بأنفسها وإنما تصير متقومة بالعقد والعقد قومها بالقدر المسمى فلم يوجد من المكره إتلاف مال متقوم عليها فلا يجب عليه الضمان ولا يجب على الشهود أيضا لأنه لما لم يجب على المكره فلأن لا يجب على الشهود أولى ثم ينظر إن كان الزوج كفءا فقال للزوج : إن شئت فكمل لها مهر مثلها وإلا فنفرق بينكما فإن فعل لزم النكاح وإن أبى تكميل مهر المثل يفرق بينهما إن لم ترض بالنقصان لأن لها في كمال مهر مثلها حقا لأنها تعير بنقصان مهر المثل فيلحقها ضرر العار وإذا فرق بينهما قبل الدخول بها لا شيء على الزوج لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها .
ولو رضيت بالنقصان صريحا أو دلالة بأن دخل بها عن طوع منها فلها المسمى وبطل حقها في التفريق لكن بقي حق الأولياء فيه عند أبي حنيفة فلهم أن يفرقوا وعندهما ليس للأولياء حق التفريق لنقصان المهر على ما عرف في كتاب النكاح .
ولو دخل بها على كره منها لزمه تكميل مهر المثل لأن ذلك دلالة اختيار التكميل وإن لم يكن الزوج كفءا فللمرأة خيار التفريق لانعدام الكفاءة ونقصان مهر المثل أيضا وكذا الأولياء عند أبي حنيفة C وعندهما لهم خيار عدم الكفاءة أما لا خيار لهم لنقصان مهر المثل فإن سقط أحد الخيارين عنها يبقى لها حق التفريق لبقاء الخيار الآخر وإن سقط الخياران جميعا فللأولياء خيار عدم الكفاءة بالإجماع وفي خيار نقصان المهر خلاف على ما عرف حتى أن الزوج إذا دخل بها قبل التفريق على كره منها حتى لزمه التكميل بطل خيار النقصان وبقي لها عدم خيار الكفاءة ولو رضيت بعدم الكفاءة أيضا صريحا ودلالة بأن دخل بها الزوج على طوع منها سقط الخياران جميعا وبطل حقها في التفريق أصلا لكن للأولياء الخياران جميعا وعندهما أحدهما دون الآخر .
ولو فرق بينهما قبل الدخول بها لا شيء على الزوج لأن الفرقة ما جاءت من قبله بل من قبل غيره فلا يلزمه شيء وأما الرجعة فلعموم قوله تبارك وتعالى : { وبعولتهن أحق بردهن } عاما من غير تخصيص ولأن الرجعة لا تخلو من أن تكون بالقول أو بالفعل وهو الوطء واللمس عن شهوة والنظر إلى الفرج عن شهوة والإكراه لا يعمل على النوعين فلا يمنع جوازها والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما اليمين والنذر بأن أكره على أن يوجب على نفسه صدقة أو حجا أو شيئا من وجوه القرب والظهار والإيلاء والفيء في الإيلاء فلعمومات النصوص الواردة في هذه الأبواب من غير تخصيص الطبائع .
قال الله تبارك وتعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وقال سبحانه وتعالى : { وليوفوا نذورهم } وقال جل شأنه : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } أي بالعهود ولأن النذر يمين وكفارته كفارة اليمين على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم .
وقال سبحانه وتعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } .
وقال جلت عظمته وكبرياؤه : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ولأن هذه تصرفات قولية وقد مر أن الإكراه لا يعمل على الأقوال والفيء في الإيلاء في حق القادر بالجماع وفي حق العاجز بالقول والإكراه لا يؤثر في النوعين جميعا فكان طائعا في الفيء فتلزمه الكفارة ولا تلزمه في هذه التصرفات من الكفارة والقربة المنذور بها على لسان المكره لأن الكفارة وجبت على المكره على سبيل التوسيع .
وكذا المنذور به لأن الأمر بها مطلق عن الوقت وهما مما لا يجبر على فعلهما أيضا فلو وجب على المكره لكان لا يخلو من أن يجب عليه على الوجه الذي وجب على المكره أو على الوجه الذي وجب عليه ولا سبيل إلى الأول لأن الإيجاب على هذا الوجه لا يفيد المكره شيئا فلا معنى لرجوعه عليه ولا سبيل إلى الثاني لأنه يؤدي إلى تغيير المشروع من وجهين : .
أحدهما جعل الموصل مضيقا .
والثاني : جعل ما لا يجبر على فعله مجبورا على فعله وكل ذلك تغيير ولا يجوز تغير المشروع من وجه فكيف يجوز من وجهين وكذا في الإيلاء إذا لم يقربها حتى بانت بتطليقة لا يرجع بما لزمه على المكره لأنه إنما لزمه ترك القربان وهو مختار في تركه لأنه يمكنه أن يقربها في المدة حتى لا تبين فلا يلزمه فإذا لم يقرب كان ترك القربان حاصلا باختيار فلا يكون مضافا إلى المكره والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو أكره على كفارة اليمين لم يرجع على المكره لأنها لزمته بفعله ولو أكره على أن يعتق عبده عن ظهاره ينظر إن كانت قيمته قيمة عبد وسط لايرجع على المكره بشيء لأن ذلك وجب عليه بفعله فلا يرجع به عليه وإن كانت قيمته أكثر من ذلك يرجع عليه بالزيادة لأنه أتلف ذلك القدر عليه لأن الزيادة على عبد وسط لا تجب عليه بالظهار ولا تجزيه عن الظهار لأنه إعتاق دخله عوض والإعتاق بعوض وإن قل لا يجزيه عن التكفير .
وأما العفو عن دم العمد فلعمومات قوله تبارك وتعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } وقوله { به } أي بالقصاص لأنه أقرب المذكور والتصدق بالقصاص هو العفو وقوله عز شأنه : { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } ففد ندب سبحانه وتعالى إلى العفو عاما ولأنه تصرف قولي فلا يؤثر فيه الإكراه ولا ضمان على المكره لأنه لم يوجد منه إتلاف المال لأن القصاص ليس بمال ولهذا لا يجب الضمان على شهود العفو إذا رجعوا والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما النوع الذي يحتمل الفسخ فالبيع والشراء والهبة والإجارة ونحوها فالإكراه يوجب فساد هذه التصرفات عند أصحابنا الثلاثة Bهم وعند زفر C يوجب توقفها على الإجازة كبيع الفضولي وعند الشافعي C يوجب بطلانها أصلا .
ووجه قولهما : أن الرضا شرط البيع شرعا قال الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } والإكراه يسلب الرضا يدل عليه أنه لو أجاز المالك يجوز والبيع الفاسد لا يحتمل الجواز بالإجازة كسائر البياعات الفاسدة فأشبه بيع الفضولي وهذه شبهة زفر C ولنا ظواهر نصوص البيع عاما مطلقا من غير تخصيص وتقييد ولأن ركن البيع وهو المبادلة صدر مطلقا من أهل البيع في محل وهو مال مملوك البائع فيفيد الملك عند التسليم كما في سائر البياعات الفاسدة ولا فرق سوى أن المفسد هناك لمكان الجهالة أو الربا أو غير ذلك وهذا الفساد لعدم الرضا طبعا فكان الرضا طبعا شرط الصحة لا شرط الحكم وانعدام شرط الصحة لا يوجب انعدام الحكم كما قي سائر البياعات الفاسدة إلا أن سائر البياعات لا تلحقها الإجازة لأن فسادها لحق الشرع من حرمة الربا ونحو ذلك فلا يزول برضا العبد وههنا الفساد لحق العبد وهو عدم رضاه فيزول بإجازته ورضاه .
وإذا فسد البيع والشراء بالإكراه فلا بد من بيان ما يتعلق به من الإحكام في الجملة والجملة فيه أن الأمر لا يخلو من ثلاثة أوجه : إما إن كان المكره هو البائع وإما إن كان هو المشتري وإما إن كانا جميعا مكرهين فإن كان المكره هو البائع فلا يخلو الأمر فيه من وجهين : إما إن كان مكرها على البيع طائعا في التسليم وإما إن كان مكرها على البيع والتسليم جميعا فإن كان مكرها على البيع طائعا في التسليم فباع مكرها وسلم طائعا جاز لأن البيع في الحقيقة اسم للمبادلة فإذا سلم طائعا فقد أتى بحقيقة البيع باختياره فيجوز بطريق التعاطي فكان ما أتى به من لفظ البيع بالإكراه وجوده وعدمه بمنزلة واحدة إلا أنه لا يكون التسليم منه طائعا إجازة لذلك البيع بل يكون هذا بيعا مبتدأ بطريق التعاطي والثاني : أن التسليم منه إجازة لذلك البيع لأنه ليس من شرط صحة البيع صحة التسليم حتى يكون الإكراه على البيع إكراها على ما لا صحة له بدونه إذ البيع يصح بدون التسليم فكان طائعا في التسليم فصلح أن يكون دليلا للإجازة بخلاف المكره على الهبة والصدقة إذا سلم طائعا أنه لا يجوز ولا يكون التسليم إجازة لأن القبض شرط لصحتها .
ألا ترى أنهما لا يصحان بدون القبض فكان الإكراه عليهما إكراها على القبض فلم يصح التسليم دليلا على الإجازة فهو الفرق .
هذا إذا كان مكرها على البيع طائعا في التسليم فإما إذا كان مكرها عليهما جميعا فباع مكرها وسلم مكرها كان البيع فاسدا لأن حقيقة البيع هو المبادلة والإكراه يؤثر فيها بالفساد ويثبت الملك للمشتري لما قلنا حتى لو كان المشتري عبدا فأعتقه نفذ إعتاقه وعليه قيمة العبد لأن بالإعتاق تعذر عليه الفسخ إذ الإعتاق مما لا يحتمل الفسخ فتقرر الهلاك فتقررت عليه القيمة فكان له أن يرجع بقيمة العبد عليه كالبائع والمكره بالخيار إن شاء رجع على المكره بقيمته ثم المكره يرجع على المشتري وإن شاء رجع على المشتري .
أما حق الرجوع على المكره فلأنه أتلف عليه ماله بإزالة يده عنه فأشبه الغاصب فيرجع عليه بضمان ما أتلفه كالغاصب ثم يرجع بما ضمنه على المشتري لأنه ملكه بأداء الضمان فنزل منزلة البائع .
وأما حق الرجوع على المشتري فلأنه في حق البائع بمنزلة غاصب الغاصب وللمالك ولاية تضمين غاصب الغاصب كذا هذا .
ولو أعتقه المشتري قبل القبض لا ينفذ إعتاقه لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض والإعتاق لا ينفذ في غير الملك فإن أجاز البائع البيع بعد الإعتاق نفذ البيع ولم ينفذ الإعتاق وهذه المسألة من حيث الظاهر تدل على أن الملك يثبت بالإجازة فكانت الإجازة في حكم الإنشاء ولكنا نقول : إن الملك يثبت بالبيع السابق عند الإجازة بطريق الاستناد والمستند مقتصر من وجه ظاهر من وجه فجاز أن لا يظهر في حق المعلق بل يقتصر وللبائع خيار الفسخ والإجازة في هذا البيع قبل القبض وبعده لأن الملك وإن ثبت بعد القبض لكنه غير لازم لأجل الفساد فيثبت له خيار الفسخ والإجازة قبل القبض وبعده دفعا للفساد