بسم الله الرحمن الرحيم ـ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ـ كتاب المأذون .
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع : في بيان ركن الإذن بالتجارة وفي بيان شرائط الركن وفي بيان ما يظهر به الإذن بالتجارة وفي بيان ما يملك المأذون من التصرف وما لا يملك وفي بيان ما يملك المولى من التصرف في المأذون وكسبه وما لا يملك حكم تصرفه وفي بيان حكم الغرور في العبد المأذون وفي بيان حكم الدين الذي يلحق المأذون وفي بيان ما يبطل به الإذن ويصير محجورا وفي بيان حكم تصرف المحجور .
أما الأول فنقول وبالله التوفيق : ركن الإذن بالتجارة نوعان : صريح ودلالة والصريح نوعان : خاص وعام وكل واحد منهما أنواع ثلاثة : منجز ومعلق بشرط ومضاف إلى وقت .
أما الخاص المنجز فهو أن يأذن له في شيء بعينه مما لا يؤذن في مثله للتجارة عادة بأن يقول له اشتر لي بدرهم لحما أو اشتر لي طعاما رزقا لي أو لأهلي أو لك أو اشتر لي ثوبا أو لأهلي أو لأهلك أو اشتر ثوبا أقطعه قميصا ونحو ذلك مما لا يقصد به التجارة عادة ويصير مأذونا فيما تناوله الإذن خاصة استحسانا والقياس أن يصير مأذونا بالتجارات كلها لأن الإذن بالتجارة مما لا يجزى فكان الإذن في تجارة إذنا في الكل .
وجه الاستحسان أن الإذن على هذا الوجه لا يوجد إلا على وجه الاستخدام عرفا وعادة فيحمل على المتعارف وهو الاستخدام دون الإذن بالتجارة مع أنه لو جعل الإذن بمثله إذنا بالتجارات كلها لصار المأذون بشراء البقل مأذونا في التجارة وفيه سد باب استخدام المماليك وبالناس حاجة إليه فاقتصر على مورد الضرورة .
وأما العام المنجز فهو أن يقول أذنت لك في التجارات أو في التجارة ويصير مأذونا في الأنواع كلها با لإجماع .
وأما إذا أذن له في نوع بأن قال اتجر في البر أو في الطعام أو في الدقيق يصير مأذونا في التجارات كلها عندنا وعند زفر و الشافعي رحمهما الله لا يصير مأذونا إلا في النوع الذي تناوله ظاهر الإذن وكذلك إذا قال له اتجر في البر ولا تتجر في الخبز لا يصح نهيه وتصرفه ويصير مأذونا في التجارات كلها وعلى هذا إذا أذن له في ضرب من الصنائع بأن قال له اقعد قصارا أو صباغا يصير مأذونا في التجارات والصنائع كلها حتى كان له أن يقعد صيرفيا وصائغا وكذلك إذا أذن له أن يتجر شهرا أو سنة يصير مأذونا أبدا ما لم يحجر عليه وجه قولهما أن العبد متصرف عن إذن فلا يتعدى تصرفه مورد الإذن كالوكيل والمضارب ولهذا يثبت حكم تصرفه لمولاه .
ولنا : أن تقييد الإذن بالنوع غير مفيد فيلغو استدلالا بالمكاتب وهذا لأن فائدة الإذن بالتجارة تمكين العبد من تحصيل النفع المطلوب من التجارة وهو الربح وهذا في النوعين على نمط واحد وكذا الضرر الذي يلزمه في العقد عسى لا يتفاوت فكان الرضا بالضرر في أحد النوعين رضا به في النوع الآخر فلم يكن التقييد بالنوع مفيدا فيلغو ويبقى الإذن بالتجارة عاما فيتناول الأنواع كلها مع ما أنه وجد الإذن في النوع الآخر دلالة لأن الغرض من الإذن هو حصول الربح والنوعان في احتمال الربح على السواء فكان الإذن بأحدهما إذنا بالآخر دلالة ولهذا يملك قبول الهبة والصدقة من غير إذن المولى صريحا لوجوده دلالة كذا ههنا .
وأما الخاص المعلق بشرط فهو أن يقول إن قدم فلان فاشتر لي بدرهم لحما ونحو ذلك والمضاف إلى وقت أن يقول : اشتر لي بدرهم لحما غدا أو رأس شهر كذا .
وأما العام المعلق بشرط فهو أن يقول : إن قدم فلان فقد أذنت لك بالتجارة والمضاف إلى وقت أن يقول أذنت لك بالتجارة غدا أو رأس شهر كذا وكل واحد من النوعين يصح معلقا ومضافا كما يصح مطلقا بخلاف الحجر في أنه لا يصح تعليقه بشرط ولا إضافته إلى وقت بأن يقول للمأذون إن قدم فلان فأنت محجور أو فقد حجرت عليك غدا أو رأس شهر كذا .
ووجه الفرق : أن الإذن تصرف إسقاط لأن انحجار العبد ثبت حقا لمولاه وبالإذن أسقطه والإسقاطات تحتمل التعليق والإضافة كالطلاق والعتاق ونحوهما فأما الحجر فإثبات الحق وإعادته والإثبات لا يحتمل التعليق والإضافة كالرجعة ونحوها ولهذا قال أصحابنا : إن الإذن لا يحتمل التوقيت حتى لو أذن لعبده بالتجارة شهرا أو سنة يصير مأذونا أبدا ما لم يوجد المبطل للأذن كالحجر وغيره إلا أن يؤقت الإذن إلى وقت إضافة الحجر إليه لأن معناه إذا مضى شهر أو سنة فقد حجرت عليك أو حجرت عليك رأس شهر كذا والحجر لا يحتمل الإضافة إلى الوقت فلغت الإضافة وبقي الإذن بالتجارة مطلقا إلى أن يوجد المبطل .
وأما الإذن بطريق الدلالة فنحو أن يرى عبده يبيع ويشتري فلا ينهاه ويصير مأذونا في التجارة عندنا إلا في البيع الذي صادفه السكوت وأما في الشراء فيصير مأذونا وعند زفر و الشافعي رحمهما الله لا يصير مأذونا .
وجه قولهما : أن السكوت يحتمل الرضا ويحتمل السخط فلا يصلح دليل الإذن مع الاحتمال ولهذا لم ينفذ تصرفه الذي صادفه السكوت .
ولنا : أنه يرجح جانب الرضا على جانب السخط لأنه لو لم يكن راضيا لنهاه إذ النهي عن المنكر و اجب فكان احتمال السخط احتمالا مرجوحا فكان ساقط الاعتبار شرعا .
وأما التصرف الذي صادفه السكوت فإن كان شراء ينفذ وإن كان بيعا قائما لم ينفذ لانعدام المقصود من الإذن بالتجارة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وسواء رآه يبيع بيعا صحيحا أو بيعا فاسدا إذا سكت ولم ينهه يصير مأذونا لأن وجه دلالة السكوت على الإذن لا يختلف .
وكذلك لو رآه المولى يبيع مال أجنبي فسكت يصير مأذونا وإن لم يجز البيع لما قلنا وكذلك لو باع مال مولاه والمولى حاضر فسكت لم يجز ذلك البيع ويصير مأذونا في التجارة لأن غرض المولى من الإذن بالتجارة حصول المنفعة دون المضرة وذلك باكتساب ما لم يكن لا بإزالة الملك عن مال كائن ولا ينجبر هذا الضرر بالثمن لأن الناس رغائب في الأعيان ما ليس في أبدالها حتى لو كان شراء ينفذ لأنه نفع محض ثم لا حكم للسكوت إلا في مواضع .
منها : سكوت المولى عند تصرف العبد بالبيع والشراء وقد ذكرناه .
ومنها : سكوت البالغة البكر عند استثمار الولي أنه يكون إذنا وقت العقد وبعده يكون إجازة ومنها سكوت الشفيع إذا علم بالشراء أنه يكون تسليما للشفعة .
ومنها : سكوت الواهب أو المتصدق عند قبض الموهوب له والمتصدق عليه بحضرته أن يكون إذنا بالقبض .
ومنها : سكوت المجهول النسب إذا باعه إنسان بحضرته وقال له قم فاذهب مع مولاك فقام وسكت أنه يكون إقرارا منه بالرق حتى لا تسمع دعواه الحرية بعد ذلك .
وأما سكوت البائع بيعا صحيحا بثمن حالي عند قبض المشتري بحضرته هل يكون إذنا بالقبض ؟ ذكر فيها ظاهر الرواية أنه لا يكون إذنا بالقبض وذكر الطحاوي C أنه يكون إذنا كما في البيع الفاسد ودلئنل هذه المسائل نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى .
وعلى هذا إذا قال لعبده أد إلي كل يوم كذا أو كل شهر كذا يصير مأذونا لأنه لا يتمكن من أداء الغلة إلا بالكسب فكان الإذن بأداء الغلة إذنا بالتجارة وكذلك لو قال لعبده أد إلي ألفا وأنت حر أو قال إن أديت إلي ألفا فأنت حر يصير مأذونا لأن غرضه حمل العبد على العتق بواسطة تحصيل الشرط ولا يتمكن من تحصيله إلا بالتصرف فكان التعليق دليلا على الإذن وكذلك إذا قال له أد إلي ألفا وأنت حر فهذا والأول سواء لأنه يستعمل في التعليق عرفا وعادة .
ولو قال له أد وأنت حر لا يصير مأذونا ويعتق للحال لأن هذا تنجيز وليس بتعليق وعلى هذا إذا كاتب عبده يصير مأذونا لأنه لما كاتبه فقد جعله أحق بكسبه ولا يكون ذلك إلا بالتجارة والله تعالى أعلم