كتاب الإقرار وبيان ركنه .
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع : في بيان ركن الإقرار وفي بيان الشرائط التي يصير الركن بها إقرارا شرعا وفي بيان ما يصدق المقر فيما ألحق بإقراره من القرائن ما لا يكون رجوعا حقيقة وما لا يصدق فيه مما يكون رجوعا عنه وفي بيان ما يبطل به الإقرار بعد وجوده .
أما ركن الإقرار فنوعان : صريح ودلالة فالصريح نحو أن يقول لفلان علي ألف درهم لأن كلمة علي كلمة إيجاب لغة وشرعا قال الله تبارك وتعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وكذا إذا قال لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل نعم لأن كلمة نعم خرجت جوابا لكلامه وجواب الكلام إعادة له لغة كأنه قال لك علي ألف درهم وكذلك إذا قال لفلان في ذمتي ألف درهم لأن ما في الذمة هو الدين فيكون إقرارا بالدين .
ولو قال لفلان علي ألف درهم ذكر القدوري C أنه إقرار بأمانة في يده وذكر الكرخي C أنه يكون إقرارا بالدين .
وجه ما ذكره الكرخي : أن القبالة هي الكفالة قال الله سبحانه وتعالى عز من قائل : { والملائكة قبيلا } أي كفيلا والكفالة هي الضمان قال الله تبارك وتعالى : { وكفلها زكريا } على قراءة التخفيف أي ضمن القيام بأمرها وجه ما ذكره القدوري C أن القبالة تستعمل بمعنى الضمان وتستعمل بمعنى الأمانة فإن محمدا C ذكر في الأصل أن من قال لا حق لي على فلان يبرأ عن الدين ومن قال لا حق لي عند فلان أو معه يبرأ عن الأمانة ولو قال لا حق لي قبله يبرأ عن الدين والأمانة جميعا فكانت القبالة محتملة للضمان والأمانة والضمان لم يعرف وجوبه فلا يجب بالاحتمال .
ولو قال له : في دراهمي هذه ألف درهم يكون إقرارا بالشركة ولو قال له في مالي ألف درهم ذكر في الأصل أن هذا إقرار له ولم يذكر أنه مضمون أو أمانة واختلف المشايخ فيه قال الجصاص C : إنه يكون إقرارا بالشركة له كما في الفصل الأول لأنه جعل ماله ظرفا للمقر به وهو الألف فيقتضي الخلط وهو معنى الشركة .
وقال بعضهم : إن كان ماله محصورا يكون إقرارا بالشركة وإن لم يكن محصورا يكون إقرارا بالدين فظاهر إطلاق الكتاب يدل على الإقرار بالدين كيفما كان لأن كلمة الظرف في مثل هذا تستعمل في الوجوب قال النبي E : [ في الرقة ربع العشر وفي خمس من الإبل السائمة شاة وفي الركاز الخمس ] .
ولو قال له : في مالي ألف درهم لا يكون إقرارا بل يكون هبة لأنه ليس فيه ما يدل على الوجوب في الذمة لأن اللام المضاف إلى أهل الملك للتمليك والتمليك بغير عوض هبة وإذا كان هبة فلا يملكها إلا بالقبول والتسليم ولو قال له في مالي ألف درهم لا حق له فيها فهو إقرار بالدين لأن الألف التي لا حق له فيها لا تكون دينا إذ لوكانت هبة لكان له فيها حق .
ولو قال له : عندي ألف درهم فهو وديعة لأن عندي لا تدل على الوجوب في الذمة بل هي كلمة حضرة وقرب ولا اختصاص لهذا المعنى بالوجوب في الذمة فلا يثبت الوجوب إلا بدليل زائد وكذلك لو قال لفلان معي أو في منزلي أو في بيتي أو في صندوقي ألف درهم فذلك كله وديعة لأن هذه الألفاظ لا تدل .
إلا على قيام اليد على المذكور وذا لا يقتضي الوجوب في الذمة لا محالة فلم يكن إقرارا بالدين فكانت وديعة لأنها في متعارف الناس تستعمل في الودائع فعند الإطلاق تصرف إليها .
ولو قال له : عندي ألف درهم عارية فهو قرض لأن عندي تستعمل في الأمانات وقد فسر بالعارية وعارية الدراهم والدنانير تكون قرضا إذ لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها وإعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه يكون قرضا في المتعارف وكذلك هذا في كل ما يكال أو يوزن لتعذر الانتفاع بها بدون الاستهلاك فكان الإقرار بإعارتها إقرارا بالقرض والله تعالى أعلم .
وأما الدلالة فهي أن يقول له رجل لي عليك ألف فيقول قد قضيتها لأن القضاء اسم لتسليم مثل الواجب في الذمة فيقتضي سابقية الوجوب فكان الإقرار بالقضاء إقرارا بالوجوب ثم يدعي الخروج عنه بالقضاء فلا يصح إلا بالبينة وكذلك إذا قال له رجل لي عليك ألف درهم فقال أتزنها لأنه أضاف الاتزان إلى الألف المدعاة والإنسان لا يأمر المدعي باتزان المدعى إلا بعد كونه واجبا عليه فكان الأمر بالاتزان إقرارا بالدين دلالة وكذلك إذا قال انتقدها لما قلنا .
ولو قال : أتزن أو أتنقد لم يكن إقرارا لأنه لم توجد الإضافة إلى المدعى فيحتمل الأمر باتزان شيء آخر فلا يحمل على الإقرار بالاحتمال وكذا إذا قال أجلني بها لأن التأجيل تأخير المطالبة مع قيام أصل الدين في الذمة كالدين المؤجل والله تعالى أعلم .
ولو قال له رجل : لي عليك ألف درهم فقال حقا يكون إقرارا لأن معناه حققت فيما قلت لأن انتصاب المصدر لا بد له من إظهار صدره وهو الفعل ويحتمل أن يكون معناه قل حقا أو إلزم حقا ولكن الأول أظهر وكذلك إذا قال الحق لأنه تعريف المصدر وهو قوله حقا وكذلك لو قال صدقا أو الصدق أو يقينا أو اليقين لما قلنا .
ولو قال : برا أو البر لا يكون إقرارا لأن لفظة البر مشترك تذكر على إرادة الصدق وتذكر على إرادة التقوى وتذكر على إرادة الخير فلا يحمل على الإقرار بالاحتمال وكذلك لو قال صلاحا أو الصلاح لا يكون إقرارا لأن لفظة الصلاح لا تكون بمعنى التصديق والإقرار فإنه لو صرخ وقال له صلحت لا يكون تصديقا فيحمل على الأمر بالصلاح والاجتناب عن الكذب هذا إذا ذكر لفظة مفردة من هذه الألفاظ الخمسة فإن جمع بين لفظتين متجانستين أو مختلفتين فحكمه يعرف قي إقرار الجامع إن شاء الله تعالى .
ثم ركن الإقرار لا يخلو إما أن يكون مطلقا وإما أن يكون ملحقا بقرينة فالمطلق هو قوله لفلان علي كذا وما يجري مجراه خاليا عن القرائن .
وأما الملحق بالقرينة فبيانه يشتمل على فصل بيان ما يصدق للمقر فيما ألحق بإقراره من القرائن ما لا يكون رجوعا وما لا يصدق فيه مما يكون رجوعا فنقول في الأصل نوعان : قرينة مغيرة من حيث الظاهر مبنية على الحقيقة وقرينة مبنية على الإطلاق أما القرينة المغيرة من حيث الظاهر والمبنية على الحقيقة فهي المسقطة لاسم الجملة فيعتبر بها الاسم لكن يتبين بها المراد فكان تغييرا صورة تبيينا معنى .
وأما القرينة المغيرة فتتنوع ثلاثة أنواع : نوع يدخل في أصل الإقرار ونوع يدخل على وصف المقر به ونوع يدخل على قدره وكل ذلك قد يكون متصلا وقد يكون منفصلا .
أما الذي يدخل على أصل الإقرار فنحو التعليق بمشيئة الله تعالى متصلا باللفظ بأن قال لفلان علي ألف درهم إن شاء الله تعالى وهذا يمنع صحة الإقرار أصلا لأن تعليق مشيئة الله تبارك وتعالى بكون الألف في الذمة أمر لا يعرف فإن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن فلا يصح الإقرار مع الاحتمال ولأن الإقرار إخبار عن كائن والكائن لا يحتمل تعليق كونه بالمشيئة فإن الفاعل إذا قال أنا فاعل إن شاء الله تعالى يستحق ولهذا أبطلنا القول بالاستثناء في الأيمان والله تعالى أعلم بالصواب .
وكذا إذا علقه بمشيئة فلان لا يصح الإقرار لما قلنا ولو أقر بشرط الخيار بطل الشرط وصح الإقرار لما ذكرنا أن الإقرار إخبار عن ثابت في الذمة وشرط الخيار في معنى الرجوع والإقرار في حقوق العباد لا يحتمل الرجوع .
وأما الذي يدخل على وصف المقر به فإن كان متصلا باللفظ بأن قال لفلان علي ألف درهم وديعة يصح ويكون إقرارا بالوديعة وإن كان منفصلا عنه بأن سكت ثم قال عنيت به الوديعة لا يصح ويكون إقرارا بالدين لأن بيان المغير لا يصح إلا بشرط الوصل كالاستثناء وهذا لأن قوله لفلان علي ألف درهم إخبار .
عن وجوب الألف عليه من حيث الظاهر ألا ترى أنه لو سكت عليه لكان كذلك فإن قرن به قوله وديعة وحكمها وجوب الحفظ فقد غير حكم الظاهر من وجوب العين إلى وجوب الحفظ فكان بيان تغيير من حيث الظاهر فلا يصح إلا موصولا كالاستثناء وإنما يصح موصولا لأن قوله علي ألف درهم يحتمل وجوب الحفظ الحفظ أي علي حفظ ألف درهم وإن كان خلاف الظاهر فيصح بشرط الوصل .
ولو قال : علي ألف درهم وديعة قرضا أو مضاربة قرضا أو بضاعة قرضا أو قال : دينا مكان قوله قرضا فهو إقرار بالدين لأن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن لجواز أن يكون أمانة في الابتداء ثم يصير مضمونا في الانتهاء إذ الضمان قد يطرأ على الأمانة كالوديعة المستهلكة ونحوها سواء وصل أو فصل لأن .
الإنسان في الإقرار بالضمان على نفسه غير متهم