فصل : بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه .
وأما بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه فالمسقط له أنواع : منها : فوات محل القصاص بأن مات من عليه القصاص بآفة سماوية لأنه لا يتصور بقاء الشيء في غير محله وإذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية عندنا لأن القصاص هو الواجب عينا عندنا وهو أحد قولي الشافعي C .
وعلى قوله : الآخر تجب الدية وقد بينا فساده فيما تقدم وكذا إذا قتل من عليه القصاص بغير حق أو بحق بالردة والقصاص بأن قتل إنسانا فقتل به قصاصا يسقط القصاص ولا يجب المال لما قلنا وكذلك القصاص الواجب فيما دون النفس إذا فات ذلك العضو بآفة سماوية أو قطع بغير حق يسقط القصاص من غير مال عندنا لما قلنا وإن قطع بحق بأن قطع يد غيره فقطع به أو سرق مال إنسان فقطع يسقط القصاص أيضا لفوات محله لكن يجب أرش اليد فيقع الفرق في موضعين أحدهما : بين القتل والقطع بحق .
والثاني : بين القطع بغير حق وبين القطع بحق والفرق أنه إذا قطع طرفه بحق فقد قضى حقا واجبا عليه فجعل كالقائم وجعل صاحبه ممسكا له تقديرا كأنه أمسكه حقيقة وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ ونحو ذلك وهناك يجب الأرش كذا هذا وهذا المعنى لم يوجد فيما إذا قطع بغير حق لأنه لم يقض حقا واجبا عليه وفي القتل إن قضى حقا واجبا عليه لكن لا يملك أن يجعل ممسكا للنفس بعد موته تقديرا لأنه لا يتصور حقيقة بخلاف الطرف والله تعالى أعلم ومنها العفو والكلام فيه في ثلاثة مواضع : .
أحدها : في بيان ركنه والثاني في بيان شرائط الركن والثالث في بيان حكمه أما ركنه فهو أن يقول العافي عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو رهبت وما يجري هذا المجرى .
وأما الشرائط : فمنها : أن يكون العفو من صاحب الحق لأنه إسقاط الحق وإسقاط الحق ولا حق محال فلا يصح العفو من الأجنبي لعدم الحق ولا من الأب والجد في قصاص وجب للصغير لأن الحق للصغير لا لهما وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير ولأن ولايتهما مقيدة بالنظر للصغير والعفو ضرر محض لأنه إسقاط الحق أصلا ورأسا فلا يملكانه وهذا لا يملكه السلطان فيما له ولاية الاستيفاء على ما بينا والله تعالى أعلم .
ومنها : أن يكون العافي عاقلا .
ومنها أن يكون بالغا فلا يصح العفو من الصبي والمجنون وإن كان الحق ثابتا لهما لأنه من التصرفات المضرة المحضة فلا يملكانه كالطلاق والعتاق ونحو ذلك .
وأما حكم العفو فالعفو في الأصل لا يخلو : إما أن يكون من الولي وإما أن يكون من المجروح فإن كان من الولي لا يخلو من أن يكون منه بعد الموت أو قبل الموت بعد الجرح فإن كان بعد الموت فإما أن يكون الولي واحدا وإما أن يكون أكثر فإن كان واحدا فإن كان القاتل والمقتول واحدا فعفا عن القائل سقط القصاص لأن استيفاءه لتحقق معنى الحياة وهذا المعنى يحصل بدون الاستيفاء بالعفو لأنه إذا عفا .
فالظاهر أنه لا يطلب الثأر بعد العفو فلا يقصد قتل القاتل فلا يقصد القاتل قتله فيحصل معنى الحياة بدون الاستيفاء فيسقط القصاص لحصول ما شرع له استيفاؤه بدونه وهكذا قال الحسن C : في تأويل قوله تعالى : { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي من أحياها بالعفو وقيل في قوله تبارك وتعالى : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } أن ذلك العفو والصلح على ما قيل أن حكم التوراة القتل لا غير وحكم الإنجيل العفو بغير بدل لا غير فخفف سبحانه وتعالى على هذه الأمة فشرع العفو بلا بدل أصلا والصلح ببدل سواء عفا عن الكل أو عن البعض لأن القصاص لا يتجزأ وذكر البعض فيما لا يتبعض ذكر الكل كالطلاق وتسليم الشفعة وغيرهما وإذا سقط القصاص بالعفو لا ينقلب مالا عندنا لأن حق الولي في القصاص عينا وهو أحد قولي الشافعي C وقد أسقطه لا إلى بدل ومن له الحق إذا أسقط حقه مطلقا وهو من أهل الإسقاط والمحل قابل للسقوط يسقط مطلقا كالإبراء عن الدين ونحو ذلك وعلى قوله الآخر الواجب أحدهما فإذا عفا عن القصاص انصرف إلى الواجب تصحيحا لتصرفه كمن له على آخر دراهم أو دنانير ولا ينوي أحدهما بعينه فأبرأه المديون عن أحدهما لير له أن يطالبه بالآخر لما قلنا كذا هذا .
ولو عفا عنه ثم قتله بعد العفو يجب عليه القصاص عند عامة العلماء Bهم .
وقال بعض الناس : لا يجب واحتجوا بقوله تبارك وتعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } جعل جزاء المعتدي وهو القاتل بعد العفو العذاب الأليم وهو عذاب الآخرة نستجير بالله سبحانه وتعالى من هو له فلو وجب القصاص في الدنيا لصار المذكور بعض الجزاء ولأن القصاص في الدنيا يرفع عذاب الآخرة لقوله E : [ السيف محاء للذنوب ] وفيه نسخ الآية الشريفة .
ولنا : عمومات القصاص من غير فصل بين شخص وشخص وحال وحال إلا شخصا أو حالا قيد بدليل وكذا الحكمة التي لها شرع القصاص وهو الحياة على ما بينا يقتضي الوجوب .
وأما الآية فقد قيل في بعض وجوه التأويل أن العذاب الأليم ههنا هو القصاص فإن القتل غاية العذاب الدنيوي في الإيلام فعلى هذا التأويل كانت الآية حجة عليهم وتحتمل هذا وتحتمل ما قالوا فلا تكون حجة مع الاحتمال وإن كان القصاص أكثر بأن قتل رجلان واحدا فإن عفا عنهما سقط القصاص أصلا لما ذكرنا وإن عفا عن أحدهما سقط القصاص عنه وله أن يقتل الآخر لأنه استحق على حل واحد منهما قصاصا كاملا والعفو عن أحدهما لا يوجب العفو عن الآخر .
وذكر في المنتقى عن أبي يوسف C أنه يسقط القصاص عنهما لأن طريق إيجاب القصاص عليهما أن يجعل كل واحد منهما قاتلا على الانفراد كأن ليس معه غيره إذ القتل تفويت الحياة ولا يتصور تفويت حياة واحدة من كل واحد منهما على الكمال فيجعل كل واحد منهما قاتلا على الانفراد ويجعل قتل صاحبه عدما في حقه فإذا عفا عن أحدهما والعفو عن القاتل جعل فعل الآخر عدما تقديرا فيورث شبهة والقصاص لا يستوفي مع الشبهة وهذا ليس بسديد لأن طريق إيجاب القصاص عليهما ليس ما ذكر وليس .
القتل اسما لتفويت الحياة بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة وهذا حصل لكل واحد منهما على الكمال فالعفو عن أحدهما لا يؤثر في الآخر .
هذا إذا كان الولي واحدا فأما إذا كان اثنين أو أكثر فعفا أحدهما سقط القصاص عن القاتل لأنه سقط نصيب العافي بالعفو فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا يتجزأ إذ القصاص قصاص واحد فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض وينقلب نصيب الآخر مالا بإجماع الصحابة الكرام Bهم فإنه روي عن عمر و عبد الله بن مسعود و ابن عباس Bهم أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية وذلك بمحضر من الصحابة Bهم ولم ينقل أنه أنكر أحد عليهم فيكون إجماعا .
وقيل : إن قوله تبارك وتعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل فللآخرين أن يتبعوه بالمعروف في نصيبهم لأنه قال سبحانه وتعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } وهذا العفو عن بعض الحق ويكون نصيب الآخر وهو نصف الدية في مال القاتل لأن القتل عمد إلا أنه تعذر استيفاء القصاص لما ذكرنا والعاقلة لا تعقل العمد ويؤخذ منه في ثلاث سنين عند أصحابنا الثلاثة .
وعند زفر في سنتين .
وجه قوله : أن الواجب نصف الدية فيؤخذ في سنتين كما لو قطع يد إنسان خطأ ووجب عليه نصف الدية أنه يؤخذ في سنتين كذا ههنا .
ولنا : أن الواجب جزء مما يؤخذ في ثلاث سنين وحكم الجزء حكم الكل بخلاف القطع فإن الواجب هناك كل لا جزء لأن كل دية يد واحدة هذا القدر إلا أنه قدر كل ديتها بنصف دية النفس وهذا لا ينفي أن يكون كل دية الطرف ولو عفا أحدهما فقتله الآخر ينظر إن قتله ولم يعلم بالعفو أو علم به لكنه لم يعلم بالحرمة لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند زفر C عليه القصاص .
وجه قوله : أنه قتل نفسا بغير حق لأن عصمته عادت بالعفو ألا ترى أنه حرم قتله فكانت مضمونة بالقصاص كما لو قتله قبل وجود القتل منه فلو سقط إنما سقط بالشبهة ومطلق الظن لا يورث شبهة كما لو قتل إنسانا وقال ظننت أنه قاتل أبي .
ولنا : أنا في عصمته شبهة العدم في حق القاتل لأنه قتله على ظن أن قتله مباح له وهو ظن مبني على نوع دليل وهو ما ذكرنا أن القصاص وجب حقا للمقتول وكل واحد من الأولياء بسبيل من استيفاء حق وجب للمقتول فالعفو من أحدهما ينبغي أن لا يؤثر في حق الآخر ولأن سبب ولاية الاستيفاء وجد في حق كل واحد منهما على الكمال وهو القرابة فينبغي أن لا يؤثر عفو أحدهما في حق صاحبه إلا أنه امتنع هذا الدليل عن العمل بإجماع الصحابة Bهم على ما بينا فقيامه يورث شبهة عدم العصمة والشبهة في هذا الباب تعمل عمل الحقيقة فتمنع وجوب القصاص ويجب عليه نصف الدية لأن القصاص إذا تعذر إيجابه للشبهة وجب عليه كمال الدية كان على القاتل نصف الدية فصار النصف قصاصا بالنصف فيوجب عليه النصف الآخر ويكون في ماله لا على العاقلة لأنه وجب بالقتل وهو عمد والعاقلة لا تعقل العمد وإن علم بالعفو والحرمة يجب عليه القصاص لأن المانع من الوجوب الشبهة وإنها نشأت عن الظن ولم يوجد فزال المانع وله على المقتول نصف الدية لأنه قد كان انقلب نصيبه مالا بعفو صاحبه فبقي ذلك على المقتول .
هذا إذا كان القصاص الواحد مشتركا بينهما فعفا أحدهما عن نصيبه فأما إذا وجب لكل واحد منهما قصاص كامل قبل القتل بأن قتل واحد رجلين فعفا أحدهما عن القاتل لا يسقط قصاص الآخر لأن كل واحد منهما استحق عليه قصاصا كاملا ولا استحالة له في ذلك لأن القتل ليس تفويت الحياة ليقال إن الحياة الواحدة لا يتصور تفويتها من اثنين بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة وهذا يتصور من كل واحد منهما في محل واحد على الكمال فعفو أحدهما عن حقه وهو القصاص لا يؤثر في حق صاحبه بخلاف القصاص الواحد المشترك والله سبحانه وتعالى أعلم .
هذا إذا عفا الولي عن القاتل بعد موت وليه فأما إذا عفا عنه بعد الجرح قبل الموت فالقياس أن لا يصح عفوه وفي الاستحسان يصح .
وجه القياس أن العفو عن القتل يستدعي وجود القتل والفعل لا يصير قتلا إلا بفوات الحياة عن المحل ولم يوجد فالعفو لم يصادف محله فلم يصح وللاستحسان وجهان : .
أحدهما : أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلا من حين وجوده فكان عفوا عن حق ثابت فيصح ولهذا لو كان الجرح خطأ فكفر بعد الجرح قبل الموت ثم مات جاز التكفير .
والثاني : أن القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة والسبب المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع كالنوم مع الحدث والنكاح مع الوطء وغير ذلك ولأنه إذا وجب سبب وجود القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه وإنه جائز كالتكفير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطأ والله أعلم .
وكذلك العفو من المولى واحدا كان أو أكثر والعفو من الوارث سواء في جميع ما وصفنا إلا أن في القصاص بين الموليين إذا عفا أحدهما فللآخر حصته من قيمة العبد وههنا من الدية لأن القيمة في دم العمد كالدية في دم الحر .
فأما فيما وراء ذلك فلا يختلفان هذا كله إذا كان العفو من المولى أو من الولي فأما إذا كان من المجروح بأن كان المجروح عفا لا يصح عفوه لأن القصاص يجب حقا للمولى لا له وإن كان حرا فإن عفا عن القتل ثم مات صح استحسانا والقياس أن لا يصح .
وجه القياس والاستحسان على نحو ما ذكرنا وإن عفا عن القطع أو الجراحة أو الشجة أو الجناية ثم مات أولا فجملة الكلام فيه أن الجرح لا يخلو إما أن يكون عمدا أو خطأ فإن كان عمدا فالمجروح لا يخلو إما أن يقول عفوت عن القطع أو الجراحة أو الشجة أو الضربة وهذا كله قسم واحد وإما أن يقول عفوت عن الجناية والقسم الأول لا يخلو إما أن ذكر معه ما يحدث منها وإما أن لم يذكر وحال المجروح لا يخلو .
إما أن برىء وصح وإما أن مات من ذلك فإن برئ من ذلك صح العفو في الفصول كلها لأن العفو وقع عن .
ثابت وهو الجراحة أو موجبها وهو الأرش فيصح وإن سرى إلى النفس ومات فإن كان العفو بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها صح بالإجماع ولا شيء على القاتل لأن لفظ الجناية يتناول القتل وكذا لفظ الجراحة وما يحدث منها فكان ذلك عفوا عن القتل فيصح وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر ما يحدث منها لم يصح العفو في قول أبي حنيفة Bه والقياس أن يجب القصاص وفي الاستحسان تجب الدية في مال القاتل وعندهما يصح العفو ولا شيء على القاتل .
وجه قولهما : أن السراية أثر الجراحة والعفو عن الشيء يكون عفوا عن أثره كما إذا قال : عفوت عن الجراحة وما يحدث منها .
و لأبي حنيفة Bه وجهان : .
أحدهما : أنه عفا عن غير حقه فإن حقه في موجب الجناية لا في عينها لأن عينها عرض لا يتصور بقاؤها فلا يتصور العفو عنها ولأن عينها جناية وجدت من الخارج والجناية لا تكون حق المجني عليه فكان هذا عفوا عن موجب الجراحة وبالسراية يتبين أنه لا موجب بهذه الجراحة لأن عند السراية يجب موجب .
القتل بالإجماع وهو القصاص إن كان عمدا والدية إن كان خطأ ولا يجب الأرش وقطع اليد مع موجب القتل لأن الجمع بينهما غير مشروع .
والثاني : إن كان العفو عن القطع والجرح صحيحا لكن القطع غير والقتل غير فالقطع إبانة الطرف والقتل فعل مؤثر في فوات الحياة عادة وموجب أحدهما القطع والأرش وموجب الآخر القتل والدية والعفو عن أحد الغيرين لا يكون عفوا عن الآخر في الأصل فكان القياس أن يجب القصاص لوجود القتل العمد .
وعدم ما يسقطه إلا أنه سقط للشبهة فتجب الدية وتكون في ماله لأنها وجبت بالقتل العمد والعاقلة لا تعقل العمد .
هذا إذا كان القتل عمدا فأما إذا كان خطأ فإن برئ من ذلك صح العفو بالإجماع ولا شيء على القاطع سواء كان بلفظ الجناية أو الجراحة وذكر وما يحدث منها أو لم يذكر لما قلنا .
وإن سرى إلى النفس فإن كان بلفظ الجناية أو الجراحة وما يحدث منها صح أيضا لما ذكرنا ثم إن كان العفو في حال صحة المجروح بأن كان يذهب ويجيء ولم يصر صاحب فراش يعتبر من جميع ماله وإن كان في حال المرض بأن صار صاحب فراش يعتبر عفوه من ثلث ماله لأن العفو تبرع منه وتبرع المريض مرض الموت يعتبر من ثلث ماله فإن كان قدر الدية يخرج من الثلث سقط ذلك القدر عن العاقلة وإن كان لا .
يخرج كله من الثلث فثلثه يسقط عن العاقلة وثلثاه يؤخذ منهم .
وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها لم يصح العفو والدية على العاقلة عند أبي حنيفة وعندهما يصح العفو وهذا وقوله عفوت عن الجراحة وعن الجناية وما يحدث منها سواء وقد بينا حكمه والله أعلم .
ولو كان مكان العفو صلح بأن صالح من القطع أو الجراحة على مال فهو على التفصيل الذي ذكرنا أنه إن برئ المجروح فالصلح صحيح بأي لفظ كان وسواء كان القطع عمدا أو خطأ لأن الصلح وقع عن حق ثابت فيصح وإن سرى إلى النفس فإن كان الصلح بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها فالصلح صحيح أيضا لأنه صلح عن حق ثابت وهو القصاص وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها فعند أبي حنيفة C لا يصح الصلح ويؤخذ جميع الدية من ماله في العمد وإن كان خطأ يرد بدل الصلح ويجب جميع الدية على العاقلة والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو كان مكان الصلح نكاح بأن قطعت امرأة يد رجل أو جرحته فتزوجها على ذلك فهو على ما ذكرنا من التفاصيل أنه إن برىء من ذلك جاز النكاح وصار أرش ذلك مهرا لها لأنه تبين أن موجب ذلك الأرش سواء كان القطع عمدا أو خطأ لأن القصاص بين الذكور والإناث لا يجري فيما دون النفس فكان الواجب هو المال فإذا تزوجها عليه فقد سمى المال فكان مهرا لها وإن سرى إلى النفس فإن كان النكاح بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها وكان القطع خطأ جاز النكاح وصار دم الزوج مهرا لها لأنه لما اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلا موجبا للدية على العاقلة فكان التزوج على موجب الجناية وهو الدية وسقطت عن العاقلة لصيرورتها مهرا لها .
وهذا إذا كان وقت النكاح صحيحا فإن كان مريضا فبقدر مهر المثل يسقط عن العاقلة لأنه ليس بمتبرع في هذا القدر .
وأما الزيادة على ذلك فينظر إن كانت تخرج من ثلث ماله يسقط أيضا وإن كانت لا تخرج من ثلث ماله فبقدر الثلث يسقط أيضا والزيادة تكون للزوج ترجع إلى ورثته وإنما اعتبر خروج الزيادة من ثلث ماله لأنه متبرع بالزيادة وهو مريض مرض الموت .
هذا في الخطأ وأما في العمد جاز النكاح وصار عفوا .
أما جواز النكاح فلا شك فيه لأن جوازه لا يقف على تسمية ما هو مال وأما صيرورة النكاح على القصاص عفوا له لأنه لما تزوجها على القصاص فقد أزال حقه عنه وأسقطه وهذا معنى العفو ولها مهر المثل من تركة الزوج لأن النكاح لا يجوز إلا بالمهر والقصاص لا يصلح مهرا لأنه ليس بمال فيجب لها العوض الأصلي وهو مهر المثل فإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها فكذلك الجواب عندهما في العمد والخطأ وعند أبي حنيفة C بطل العفو إذا كان عمدا ولها مهر المثل من مال الزوج وتجب الدية من مالها فيتناقصان بقدر مهر المثل وتضمن المرأة الزيادة وإن كانت خطأ فتجب الدية على عاقلتها ولها مهر المثل من مال الزوج ولا ترث المرأة من مال الزوج شيئا لأنها قاتلة ولا ميراث للقاتل والله تعالى أعلم .
ولو كان مكان النكاح خلع بأن قطع يد امرأة أو جرحها جراحة فخلعها على ذلك فهو على ما ذكرنا أنها إن برئت جاز الخلع وكان بائنا لأنه تبين أنه خلعها على أرش اليد فصح الخلع وصار أرش اليد بدل الخلع والخلع على مال طلاق بائن ويستوي فيه العمد والخطأ لما مر .
وإن سرى إلى نفس وكان خطأ فإن ذكر بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها جاز الخلع ويكون بائنا لأنه تبين أن الفعل وقع قتلا فتبين أنه وقع موجبا للدية فكان الخلع واقعا على ماله وهو الدية فيصح ويكون بائنا ثم إن كانت المرأة صحيحة وقت الخلع جاز ذلك من جميع المال وإن كانت مريضة صارت الدية بدل الخلع ويعتبر خروج جميع الدية من الثلث بخلاف النكاح حيث يعتبر هناك خروج الزيادة على قدر مهر المثل من الثلث لأن تلك الحال حال دخول البضع في ملك الزوج وهذه حالة الخروج والبضع يعد مالا حال الدخول في ملك الزوج ولا يعد مالا حال الخروج عن ملكه وإن كان يخرج من الثلث سقط عن العاقلة وإن لم يكن لها مال يسقط والثلثان على العاقلة ويكون بمنزلة الوصية .
هذا في الخطأ فأما في العمد جاز العفو ولا يكون مالا وخلعها بغير مال يكون رجعيا وإن كان الخلع بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها فعندهما الجواب كذلك وعند أبي حنيفة C لم يصح العفو وتجب جميع الدية في ماله في العمد وفي الخطأ على العاقلة ويكون الخلع بغير مال فيكون الطلاق رجعيا والله تعالى أعلم .
ومنها : الصلح على مال لأن القصاص حق للمولى ولصاحب الحق أن يتصرف في حقه استيفاء وإسقاطا إذا كان من أهل الإسقاط والمحل قابل للسقوط ولهذا يملك العفو فيملك الصلح ولأن المقصود من استيفاء القصاص وهو الحياة يحصل به لأن الظاهر أن عند أخذ المال عن صلح وتراض تسكن الفتنة فلا يقصد الولي قتل القاتل فلا يقصد القاتل قتله فيحصل المقصود من استيفاء القصاص بدونه وقيل إن قوله تبارك وتعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } الآية نزل في الصلح عن دم العمد فبدل على جواز الصلح وسواء كان بدل الصلح قليلا أو كثيرا من جنس الدية أو من خلاف جنسها حالا أو مؤجلا بأجل معلوم أو مجهول جهالة متفاوتة كالحصاد والدياس ونحو ذلك بخلاف الصلح من الدية على أكثر مما تجب فيه الدية أنه لا يجوز لأن المانع من الجواز هناك تمكن الربا ولم يوجد ههنا لأن الربا يختص بمبادلة المال بالمال والقصاص ليس بمال وقد ذكرنا شرائط جواز الصلح ومن يملك الصلح ومن لا يملكه في كتاب الصلح .
ولو صالح الولي القاتل على مال ثم قتله يقتص منه عند عامة العلماء Bهم وقال بعض الناس : لا قصاص عليه وقد مرت المسألة في العفو .
ولو كان الولي اثنين والقصاص واحد فصالح أحدهما سقط القصاص عن القاتل وينقلب نصيب الآخر مالا لما ذكرنا في العفو ولو قتله الآخر بعد عفو صاحبه فهو على التفصيل والخلاف والوفاق الذي ذكرناه في العفو ولو كان القصاص أكثر فصالح ولي أحد القتيلين فللآخر أن يستوفي وكذا لو صالح الولي مع أحد القاتلين كان له أن يقتص للآخر لما ذكرنا في العفو وكذلك حكم المولى في الصلح عن دم العمد في جميع ما وصفنا .
ومنها : إرث القصاص بأن وجب القصاص لإنسان فمات من له القصاص فورث القاتل القصاص سقط القصاص لاستحالة وجوب القصاص له وعليه فيسقط ضرورة .
ولو قتل رجلان رجلين كل واحد منهما ابن الآخر عمدا وكل منهما وارث الآخر قال أبو يوسف C : لا قصاص عليهما وقال الحسن بن زياد C : يوكل كل واحد منهما وكيلا يستوفي القصاص فيقتلهما الوكيلان معا وقال زفر C : يقال للقاضي ابتد بأيهما شئت وسلمه إلى الآخر حتى يقتله ويسقط القصاص عن الآخر .
وجه قول زفر C : أن القصاص وجب على كل واحد منهما لوجود السبب من كل واحد منهما وهو القتل العمد إلا أنه لا يتمكن استيفاؤهما لأنه إذا استوفى أحدهما يسقط الآخر لصيرورة القصاص ميراثا للقاتل الآخر فكان الخيار فيه إلى القاضي يبتدئ بأيهما شاء ويسلمه إلى الآخر حتى يقتله ويسقط القصاص عن الآخر .
وجه قول الحسن C : أن استيفاء القصاص منهما ممكن بالوكالة بأن يقتل كل واحد من الوكيلين كل واحد من القاتلين في زمان واحد فلا يتوارثان كما في الغرقى والحرقى .
وجه قول أبي يوسف C : أن وجوب القصاص وجوب الاستيفاء لا يعقل له معنى سواه ولا سبيل إلى استيفاء القصاص لأنه إذا استوفى أحدهما سقط الآخر وليس أحدهما بالاستيفاء أولى من الآخر فعذر القول بالوجوب أصلا ولأن في استيفاء أحد القصاصين إبقاء حق أحدهما وإسقاط حق الآخر وهذا لا يجوز والقول باستيفائهما بطريق التوكيل غير سديد لأن الفعلين قل ما يتفقان في زمان واحد بل يسبق أحدهما الآخر عادة وكذا أثرهما الثابت عادة وهو فوات الحياة وفي ذلك إسقاط القصاص عن الآخر .
وقالوا في رجل قطع يد رجل ثم قتل المقطوع يده ابن القاطع عمدا ثم مات المقطوع يده من القطع أن على القاطع القصاص وهو القتل لولي المقطوع يده لأنه مات بسبب سابق على وجود القتل منه وهو القطع السابق لأن ذلك القطع صار بالسراية قتلا فوجب القصاص على القاطع ولا يسقط بقتل المقطوع يده ابن القاطع والله سبحانه وتعالى أعلم .
ومنها : حرمان الميراث لحصول القتل مباشرة بغير حق ولهذا يثبت بالقتل الخطأ فبالعمد أولى .
وأما الكفارة فلا تجب عندنا وعند الشافعي C تجب وجه قوله إن الكفارة لرفع الذنب ومحو الإثم ولهذا وجبت في القتل الخطأ والذنب في القتل العمد أعظم فكانت الحاجة إلى الدفع أشد .
ولنا : إن التحرير أو الصوم في الخطأ إنما وجب شكرا للنعمة حيث سلم له أعز الأشياء إليه في الدنيا وهو الحياة مع جواز المؤاخذة بالقصاص وكذا ارتفع عنه المؤاخذة في الآخرة مع جواز المؤاخذة وهذا لم يوجد في العمد فيقدر الإيجاب شكرا أوجب لحق التوبة عن القتل بطريق الخطأ وألحق بالتوبة الحقيقية لخفة الذنب بسبب الخطأ والذنب ههنا أعظم فلا يصلح لتحرير توبة والله تعالى أعلم