بيان ما تجب عليه الغرة .
وأما تفسير الغرة : فالغرة في اللغة عبد أو أمة كذا قال أبو عبيد في أهل اللغة وكذا فسرها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي روينا فقال E : [ فيه غرة عبد أو أمة ] فسر الغرة بالعبد والأمة وروي أنه E قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة أو خمسمائة وهذه الرواية خرجت تفسيرا للرواية الأولى فصارت الغرة في عرف الشرع اسما لعبد أو أمة يعدل خمسمائة أو بخمسمائة وهذه الرواية خرجت تفسيرا للرواية الأولى .
ثم تقدير الغرة بالخمسمائة مذهب أصحابنا رحمهم الله تعالى وعند الشافعي C : مقدرة بستمائة وهذا فرع أصل ما ذكرناه فيما تقدم لأنهم اتفقوا على أن الواجب نصف عشر الدية لكنهم اختلفوا في الدية فالدية من الدراهم عندنا مقدرة بعشرة آلاف فكان نصف عشرها خمسمائة وعنده مقدر باثني عشر .
ألفا فكان نصف عشرها ستمائة ثم ابتدأ الدليل على صحة مذهبنا أن في بعض الروايات أنه E قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة أو خمسمائة وهذا نص في الباب .
وأما بيان من تجب عليه الغرة : فالغرة تجب على العاقلة لما روينا من الحديث أنه E قضى على عاقلة الضاربة بالدية وبغرة الجنين وروي أن عاقلة الضاربة قالوا : أندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ودم مثل هذا بطل وهذا يدل على أن القضاء بالدية كان عليهم حيث أضافوا الدية إلى أنفسهم على وجه الإنكار ولأنها بدل نفس فكانت على العاقلة كالدية وأما من تجب له : فهي ميراث بين ورثة الجنين على فرائض الله تبارك وتعالى عند عامة العلماء وقال مالك C : إنها لا تورث وهي لوم .
خاصة .
وجه قوله : أن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم فكانت الجناية على الأم فكان الأرش لها كسائر أجزائها .
ولنا : أن الغرة بدل نفس الجنين وبدل النفس يكون ميراثا كالدية والدليل على أنها بدل نفس الجنين لا بدل جزء من أجزاء الأم أن الواجب في جنين أم الولد ما هو الواجب في جنين الحرة ولا خلاف في أن جنين أم الولد جزء ولو كان في حكم عضو من أعضاء الأم لكان جزأ من الأم حرا وبقية أجزائها أمة وهذا لا يجوز .
والدليل عليه : أنه E قضى بدية الأم على العاقلة وبغرة الجنين ولو كان في معنى أجزاء الأم لما أفرد الجنين بحكم بل دخلت الغرة في دية الأمة كما إذا قطعت يد الأم فماتت أنه تدخل دية اليد في النفس وكذا لما أنكرت عاقلة الضاربة حمل الدية إياهم فقالت : أندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل لم يقل لهم النبي E إني أوجبت ذلك بجناية الضاربة على المرأة لا بجنايتها على الجنين ولو كان وجوب الأرش فيه لكونه جزءا من أجزاء الأم لرفع إنكارهم بما قلنا فدل أن الغرة وجبت بالجناية على الجنين لا بالجناية على الأم فكانت معتبرة بنفسه لا بالأم ولا يرث الضارب من الغرة شيئا لأنه قاتل بغير حق والقتل بغير حق من أسباب حرمان الميراث ولا كفارة على الضارب لأنه E لما قضى بالغرة على الضاربة لم يذكر الكفارة مع أن الحال حاله الحاجة إلى البيان ولو كانت واجبة لبينها ولأن وجوبها متعلق بالقتل وأوصاف أخرى لم يعرف وجودها في الجنين من الإيمان والكفر حقيقة أو حكما قال الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } وقال تبارك وتعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي كان المقتول ولم يعرف قتله لأنه لم تعرف حياته وكذا إيمانه وكفره حقيقة وحكما .
أما الحقيقة فلا شك في انتفائها لأن الإيمان والكفر لا يتحققان من الجنين وكذلك حكما لأن ذلك بواسطة الحياة ولم تعرف حياته ولأن الكفارة من باب المقادير والمقادير لا تعرف بالرأي والاجتهاد بل بالتوقيف وهو الكتاب العزيز والسنة والإجماع ولم يوجد في الجنين الذي ألقى ميتا شيء من ذلك فلا تجب فيه الكفارة ولأن وجوبها متعلق بالنفس المطلقة والجنين نفس من وجه دون وجه بدليل أنه لا يجب فيه كمال الدية مع ما أن الضرب لو وقع قتل نفس لكان قتلا تسبيبا لا مباشرة والقتل تسبيبا لا يوجب الكفارة كحفر البئر ونحو ذلك .
وذكر محمد C وقال : ولا كفارة على الضارب وإن سقط كامل الخلق ميتا إلا أن يشاء ذلك فهو أفضل وليس ذلك عليه عندنا واجب وليتقرب إلى الله تبارك وتعالى بما يشاء إن استطاع ويستغفر الله سبحانه وتعالى مما صنع وهذا قول أبي يوسف C وقولنا كذا ذكر محمد C لأنه ارتكب محظورا فندب إلى أن يتقرب بالكفارة لمحوه .
هذا إذا ألقته ميتا فأما إذا ألقته حيا فمات ففيه الدية كاملة لا يرث الضارب منها شيئا وعليه الكفارة .
أما حرمان الميراث فلما قلنا وأما وجوب الدية والكفارة فلأنه لما خرج حيا فمات علم أنه كان حيا وقت الضرب فحصل الضرب قتل النفس وإنه في معنى الخطأ فتجب فيه الدية والكفارة هذا إذا ألقت جنينا واحدا فأما إذا ألقت جنينين فإن كانا ميتين ففي كل واحد منهما غرة وإن كانا حيين ثم ماتا ففي كل واحد منهما دية لوجود سبب وجوب كل واحدة منهما وهو الإتلاف إلا أنه أتلفهما بضربة واحدة ومن أتلف شخصين بضربة واحدة يجب عليه ضمان كل واحد منهما كما لو أفرد كل واحد منهما بالضرب كما في الكبيرين .
فإن ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا ثم مات فعليه في الميت الغرة وفي الحي الدية لوجود سبب وجوب الغرة في الجنين الميت والدية في الجنين الحي فيستوي فيه الجمع في الإتلاف والإفراد فيه فإن ماتت الأم من الضربة وخرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه ديتان : دية في الأم ودية في الجنين لوجود سبب وجوبهما وهو قتل شخصين فإن خرج بعد موتها ميتا فعليه دية الأم ولا شيء عليه في الجنين .
وقال الشافعي C : يجب عليه في الجنين الغرة .
وجه قوله إن أتلفهما جميعا فيؤاخذ بضمان كل واحد منهما كما لو خرج الجنين ميتا ثم ماتت الأم .
ولنا : أن القياس يأبى كون الجنين مضمونا أصلا لما بينا من احتمال عدم الحياة وازداد ههنا احتمال آخر وهو أنه يحتمل أنه مات بالضرب ويحتمل أنه مات بموت الأم وإنما عرفنا الضمان فيه بالنص والنص ورد بالضمان في حال مخصوصة وهي ما إذا خرج ميتا قبل موت الأم فسقط اعتبار أحد الاحتمالين فيتعين الثاني في نفي وجوب الضمان في غير هذه الحالة .
هذا إذا كان الجنين حرا فأما إذا كان رقيقا فإن خرج ففيه نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى .
وروي عن أبي يوسف : أن في جنين الأمة ما نقص الأم وقال الشافعي C : فيه عشر قيمة الأم أما الكلام مع أبي يوسف C فبناء على أصل ذكرناه فيما تقدم وهو أن ضمان الجناية الواردة على العبد ضمان النفس أم ضمان المال فعلى أصلهما ضمان النفس حتى قالا : إنه لا تزاد قيمته على دية الحر بل تنقص ههنا وكذا تتحمله العاقلة وعلى أصل أبي يوسف C ضمانها ضمان المال حتى قال : تبلغ قيمته بالغة ما بلغت ولا تتحمله العاقلة فصار جنينها كجنين البهيمة وهناك لا يجب إلا نقصان الأم كذا ههنا .
وأما الكلام مع الشافعي C فبناء على أن الجنين معتبر بنفسه أم بأمه وقد ذكرنا الدلائل على أنه معتبر بنفسه لا بأمه فيما تقدم والدليل عليه أيضا أن ضمان جنين الحرة موروث عنه على فرائض الله D ولو كان معتبرا بأمه لسلم لها كما يسلم لها أرش عضوها .
وإذا ثبت أن الجنين معتبر بنفسه وأن الواجب فيه ضمان فهذا الاعتبار يوجب أن يكون في جنين الأمة إذا كان رقيقا نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى لأن الواجب في الجنين الحر خمسمائة ذكرا كان أو أنثى وهي نصف عشر دية الذكر وعشر دية الأنثى والقيمة في الرقيق كالدية في الحر فيلزم أن يكون في الجنين الرقيق نصف عشر قيمته إن كان ذكرا اعتبارا بالحر وعشر قيمته إن كان أنثى اعتبارا بالحرة وإن خرج حيا ثم مات قيمته لما قلنا في الجنين الحر .
فإن ألقت جنينين ميتين أو جنينين حيين ثم ماتا ففي كل واحد منهما حالة الاجتماع ما فيه حالة الانفراد .
لما ذكرنا في الجنين الحر فإن ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا ثم مات ففي كل واحد منهما ما هو ضمانه حالة الانفراد لما مر فإن ماتت الأم من الضرب وخرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه قيمتان قيمة في الأم وقيمة في الجنين وإن خرج الجنين ميتا بعد موت الأم فعليه في الأم القيمة ولا شيء عليه في الجنين لما ذكرنا .
والأصل أن في كل موضع يجب في الجنين الحر الغرة ففي الرقيق نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى وكل موضع يجب في المضروبة إذا كانت حرة الدية ففي الأمة القيمة وفي كل موضع لا يجب في الجنين هناك شيء لا يجب هنا شيء أيضا لما ذكرنا في جانب الحر من غير تفاوت إلا أن الواجب في جنين الأمة يكون في مال الضارب يؤخذ منه حالا ولا تتحمله العاقلة والواجب في جنين الحرة يكون على العاقلة لأن تحمل العاقلة ثبت بخلاف القياس بالنص والنص ورد بالتحمل في الغرة في جنين الحرة فبقي الحكم في جنين الأمة على أصل القياس والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب