القسم الثاني من وصايا أهل الذمة .
ثم إذا صحت وانصرفت الوصية إلى الفقراء من اليتامى فإن صرف إلى اثنين منهم فصاعدا جاز بالإجماع وإن صرف جميع الثلث إلى واحد فهو على الخلاف الذي ذكرنا والأفضل للموصي أن يصرف إلى كل من قدر منهم لأنه أقرب إلى العمل بحقيقة اللفظ وتحقيق مقصود الموصي .
ولو أوصى بثلث ما له لأرامل بني فلان جازت الوصية سواء كن يحصين أو لا يحصين أما إذا كن يحصين فلا يشكل فإن الوصية وقعت تمليكا منهن بأعيانهن لكونهن معلومات وذلك إذا كن لا يحصين لأن في الاسم ما يدل على الحاجة لأن الأرملة اسم لامرأة بالغة فارقت زوجها بطلاق أو وفاة دخل بها أو لم يدخل كذا قال محمد C .
وقال ابن الأنباري : الأرملة التي لا زوج لها من قولهم : أرمل القوم فهم مرملون إذا فني زادهم ومن فنى زاده كان محتاجا فكان في الاسم ما ينبئ عن الحاجة فتقع وصية بالصدقة وإخراج المال إلى الله تبارك وتعالى والله سبحانه وتعالى واحد معلوم .
وهل يدخل في هذه الوصية الرجال الذين فارقوا أزواجهم ؟ قال عامة العلماء Bهم : لا يدخلون .
وقال الشافعي C : يدخل في كل من خرج من كرمة فلان ذكرا كان أو أنثى وإليه ذهب القتبي واحتجا بقول جرير الشاعر : .
( هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر ) .
أطلق اسم الأرمل على الرجل .
ولنا : أن حقيقة هذا الاسم للمرأة لما ذكرنا عن محمد وهو من كبار أهل اللغة روى عنه أبو عبيد وأبو العباس ثعلب وأقرانهم كما روينا عن الخليل والأصمعي وأقرانهما .
وقال الخليل : يقال امرأة أرملة ولا يقال رجل أرمل إلا في المليح من الشعر .
وقال ابن الأنباري C : لا يقال رجل أرمل إلا في الشعر ونحو ذلك ولأن الاسم لما كان مشتقا .
من قولهم أرمل القوم إذا فنى زادهم فالمرأة هي التي في زادها بموت زوجها لأن النفقة على الزوج لا على المرأة فإذا مات فقد فني زادها وبه تبين أن قول جرير محمول على مليح الشعر كما قال الخليل أو هو شاذ كما قال ابن الأنباري أو لازدواج الكلام قال الله سبحانه وتعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .
وقال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .
وقوله سبحانه وتعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } كما قال الشاعر : .
( فإن تنكحي أنكح وإن تتابعي ... مدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم ) .
ومعلوم أن الرجل لا يسمى أيما لكن أطلق عليه لازدواجه بقوله وإن تتأيمى كذا ههنا وإطلاق الاسم لا ينصرف إلى ما لا يذكر إلا لضرورة تمليح الشعر وازدواج الكلام أو في الشذوذ لأن مطلق الاسم ينصرف إلى ما تتسارع إليه الأفهام والأوهام وذلك ما قلنا .
ولو أوصى لأيامى بني فلان فإن كن يحصين جازت الوصية لما قلنا وإن كن لا يحصين لا تجوز لأنه ليس في لفظ الأيم ما ينبىء عن الحاجة لتجعل وصيته بالصدقة لأن الأيم في اللغة اسم لامرأة جومعت في قبلها فارقها زوجها وشرحه محمد C قال : الأيم كل امرأة جومعت بنكاح جائز أو فاسد أو فجور ولا زوج لها غنية كانت أو فقيرة صغيرة كانت أو كبيرة وليس في هذه المعاني ما ينبئ عن الحاجة فلا يكون إيصاء بالتصدق بخلاف الوصية لأرامل بني فلان وهن لا يحصين أنها جائزة لأن اسم الأرملة ينبئ عن الحاجة على ما بينا فجعل وصية بالصدقة .
ثم إذا كن يحصين حتى جازت الوصية يدخل فيها الصغيرة والبالغة والغنية والفقيرة لأن الاسم في اللغة لا يتعرض لما سوى الأنوثة وحلول الجماع بها في قبلها وفراقها زوجها وقال الله تبارك وتعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } وإنه يتناول الكبيرة والصغيرة حتى يجوز إنكاح الصغار كما يجوز إنكاح الكبار وكذا لا يتعرض للفقر والغنا لأنه سبحانه وتعالى قال عز من قائل : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } ولو كان متعرضا لشيء من ذلك لم يكن لقوله سبحانه وتعالى : { إن يكونوا فقراء } معنى .
وهذا الذي ذكرنا أن الأيم اسم لامرأة جومعت في قبلها فارقها زوجها قول عامة المسلمين وقال أبو القاسم الصفار البلخي و أبو الحسن الكرخي رحمهما الله : أن الجماع ليس بشرط لثبوت هذا الاسم وكذا الأنوثة بل يقع هذا الاسم على المدخول بها وعلى البكر ويقع على الرجل كما يقع على المرأة واحتجا بقول الشاعر : .
( إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى ) .
ومعلوم أن القبر يضم البكر إلى نفسه كما يضم الثيب .
وقال الشاعر : .
( فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمى ... مدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم ) .
أي أمكث بلا زوج ما مكثت أنت بلا زوج .
وقال آخر .
( فلا تنكحن جبارة إن شرها ... عليك حرام فانكحن أو تأيما ) .
والجواب : أن حقيقة اللغة ما حكينا عن نقلة اللغة وهم أهل دقائق الألفاظ فيقبل نقلهم إياها فيما وضعت له وما ورد في استعمال بعض الفصحاء معدولا به عن تلك الحقائق فحمل على المجاز إما بطريق المقابلة والإزدواج أو باعتبار بعض المعاني التي وضع لها الاسم .
والدليل على أن الأنوثة أصل وأنه لا يقع على الذكر أنه لا يدخل علامة التأنيث فيه يقال : امرأة أيم ولا يقال أيمة ولو كان الاسم يتناول الذكر والأنثى لفرقوا بينهما بإدخال علامة التأنيث في المرأة .
وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني : أن ما ذكر محمد في صفة الأيم جومعت بفجور أو غير فجور مذهبهما .
فأما عند أبي حنيفة C : التي جومعت بفجور لا تدخل في هذه الوصية لأن التي جومعت بفجور بكر لا أيم عنده حتى تزوج كما تزوج الأبكار عنده ومنهم من قال : هذا قولهم جميعا لأنها أيم حقيقة لوجود الجماع إلا أنها تزوج كما تزوج الأبكار عنده لمشاركتها الأبكار عنده في المعنى الذي أقيم فيه السكوت مقام الرضا نطقا في حقها باعتبار السكوت وهو الحياء على ما عرف في مسائل الخلاف .
ولو أوصى لكل ثيب من بني فلان إن كن يحصين صحت الوصية لما ذكرنا في المسائل المتقدمة ويدخل تحت هذه الوصية كل امرأة جومعت بحلال أو حرام لها زوج أو لم يكن لها زوج بلغت مبلغ النساء أو لم تبلغ كذا ذكر محمد ويدخل فيه الفقيرة والغنية والصغيرة والكبيرة لأن اللفظ لا يتعرض لذلك وقال الله تبارك وتعالى : { ثيبات وأبكارا } أدخل فيه الصغار والكبار والفقيرات والغنيات يدل عليه أنهن دخلن فيما يقابله وهو قوله سبحانه وتعالى { وأبكارا } فكذا في قوله تعالى : { ثيبات } فدل الأمر على اشتراط الدخول لأنه قابل الثيبات بالأبكار وهن اللاتي لم يجامعن فكانت الثييات اللاتي جومعن لتصح المقابلة ولا تشترط مفارقتها زوجها بخلاف الأرملة لأن اللغة كذا تقتضي فيتبع فيه وضع أرباب اللغة ولا يدخل فيه الرجل لأن هذا الاسم لا يتناول الرجل حقيقة وإن ورد في الحديث عنه E أنه قال : [ والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ] لأن ذلك إطلاق بطريق المجاز للازدواج والمقابلة .
وإن كن لا يحصين لم تجز الوصية لأنه ليس في الاسم ما ينبئ عن الحاجة لما ذكرنا أنه اسم لانثى من بنات آدم E جومعت وليس في الأوصاف المذكورة في الحد ما ينبئ عن الحاجة فلا يراد بهذه الوصية إلا التمليك والمتملك مجهول فلا يصح .
ولو أوصى لكل بكر من بني فلان يجوز إذا كن محصوات لما قلنا ويدخل فيه الصغيرة والكبيرة الغنية والفقيرة إذ البكر اسم لامرأة لم تجامع بنكاح ولا غيره كذا قال محمد C .
وإطلاق هذا الاسم على الذكر في الحديث وهو قوله E : [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ] بطريق المجاز وهو المجاز بطريق المقابلة والازدواج أو كان لها حقيقة ثم غلب استعماله في متعارف الخلق على الأنثى فصار بحال لا تنصرف أوهام الناس عند إطلاقه إلا إلى الأنثى فيحمل الحديث على المجاز .
ولو كانت عذرتها زالت بالوضوء أو بالوثبة أو بذرور الدم تستحق الوصية لأنها لم تجامع ومن الناس من خالف محمدا C قالوا إن هذه أيضا لا تستحق الوصية لأنها ليست ببكر والصحيح ما ذكره محمد C لما ذكرنا وذكر محمد C أن التي زالت بكارتها بفجور لا تكون بكرا ولا تكون لها وصية وقال بعض مشايخنا : منهم الفقيه أبو جعفر الهندواني C : إن هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة C فإنها بكر وتستحق الوصية ومنهم من قال : لا خلاف في أنها لا تستحق الوصية لأنها ليست ببكر حقيقة لعدم حد البكارة وإنما تزوج تزوج الأبكار عند أبي حنيفة C لما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
ولو أوصى لذوي قرابته أو قراباته أو لأنسابه أو لأرحامه أو لذوي أرحامه هذه الألفاظ الخمسة سواء فعند أبي حنيفة : الوصية بهذه الألفاظ للأقرب فالأقرب فالحاصل : أن عند أبي حنيفة عليه الرحمة يعتبر في هذه الوصية خمسة أشياء : الرحم المحرم والأقرب فالأقرب وجمع الوصية وهو اثنان فصاعدا وأن يكون سوى الوالدين والمولودين وأن يكون ممن لا يرث وعندهما يدخل في هذه الوصية ذوا الرحم المحرم والقريب والبعيد إلى أقصى أب له في الإسلام حتى لو أوصى للعلوية والعباسية يصرف الثلث إلى من اتصل بسيدنا علي وبسيدنا العباس Bهما لا إلى من فوقهما من الآباء ولا خلاف في اعتبار الأوصاف الثلاثة وهي اعتبار جمع الوصية وأن لا يكون والدا ولا ولدا وأن يكون ممن لا يرث .
أما الأول : فلأن لفظ ذوي لفظ جمع وأقل الجمع في باب الوصية اثنان لأن الوصية أخت الميراث وفي باب الميراث كذلك فإن الثنتين من البنات والأخوات ألحقتا بالثلاث فصاعدا في استحقاق الثلثين وحجب الأم من الثلث إلى السدس على ما مر حتى لو أوصى لذوي قرابته أو ستحق الواحد فصاعدا كل الوصية لأن ذي ليس بلفظ جمع .
وأما الثاني فلأن الوالد والولد لا يسميان قرابتين عرفا وحقيقة أيضا لأن الأب أصل والولد فرعه وجزؤه والقريب من يقرب من غيره من نفسه فلا يتناوله اسم القريب وقال الله سبحانه وتعالى : { الوصية للوالدين والأقربين } عطف الأقرب على الوالد والعطف يقتضي المغايرة في الأصل وإذا لم يدخل الوالد والولد في هذه الوصية فهل يدخل فيها الجد وولد الولد ؟ ذكر في الزيادات أنهما يدخلان ولم يذكر فيه خلافا .
ووذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنهما لا يدخلان وهكذا روي عن أبي يوسف C وهو الصحيح لأن الجد بمنزلة الأب وولد الولد بمنزلة الولد فإذا لم يدخل فيها الوالد والولد كذا الجد وولد الولد .
وأما الثالث : فلما روينا عنه E أنه قال : [ لا وصية لوارث ] وإنما الخلاف في موضعين : أحدهما : أنه يعتبر المحرم عند أبي حنيفة وعندهما لا يعتبر .
والثاني : أنه يعتبر الأقرب فالأقرب عنده وعندهما لا يعتبر .
وجه قولهما : أن القريب اسم مشتق من معنى وهو القرب وقد وجد القرب فيتناول الرحم المحرم وغيره والقريب والبعيد وصار كما لو أوصى لأخوته أنه يدخل الإخوة لأب وأم والأخوة لأب والإخوة لأم لكونه اسما مشتقا من الأخوة كذا هذا .
والدليل عليه ما روي عن أبي هريرة Bه أنه لما نزل قوله تبارك وتعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فخص وعم فقال : [ يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله تبارك وتعالى ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله عز شأنه ضرا ولا نفعا ] وكذلك قال E لبني عبد المطلب ومعلوم أنه كان فيهم الأقرب والأبعد وذو الرحم المحرم وغير المحرم فدل أن الاسم يتناول كل قريب إلا أنه لا يمكن العمل بعمومه لتعذر إدخال أولاد سيدنا آدم E فيه فتعتبر النسبة إلى أقصى أب في الإسلام لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بالإسلام والشرف به فصار الجد المسلم هو النسب فتشرفوا به فلا يعتبر من كان قبله .
و لأبي حنيفة C : أن الوصية لما كانت باسم القرابة أو الرحم فالقرابة المطلقة هي قرابة ذي الرحم المحرم ولأن معنى الاسم يتكامل بها وأما في غيرها من الرحم غير المحرم فناقص فكان الاسم .
للرحم المحرم لا لغيره لأنه لو كان حقيقة لغيره فأما أن يعتبر الاسم مشتركا أو عاما ولا سبيل إلى الاشتراك لأن المعنى متجانس ولا إلى العموم لأن المعنى متفاوت فتعين أن يكون الاسم لما قلنا حقيقة ولغيره مجازا بخلاف الوصية لإخوته لأن مأخذ الاسم وهو الأخوة لا يتفاوت فكان اسما عاما فيتناول الكل وههنا بخلافه على ما بينا ولأن المقصود من هذه الوصية هو صلة القرابة وهذه القرابة هي واجبة الوصل محرمة القطع لا تلك والظاهر من حمال المسلم الدين المسارعة إلى إقامة الواجب فيحمل مطلق اللفظ عليه بخلاف ما إذا أوصى لإخوته لأن قرابة الأخوة واجبة الوصل محرمة القطع على اختلاف جهاتها فهو الفرق بين الفصلين وجواب أبي يوسف و محمد رحمهما الله على زعمهما كان يستقيم في زمانهما لأن أقصى أب في الإسلام كان قريبا يصل إليه بثلاثة آباء أو أربعة آباء فكان الموصى له معلوما .
فأما في زماننا فلا يستقيم لأن عهد الإسلام قد طال فتقع الوصية لقوم مجهولين فلا تصح إلا أنا نقول إنه يصرف إلى أولاد أبيه وأولاد جده وأولاد جد أبيه وإلى أولاد أمه وأولاد جدته وجدة أمه لأن هذا القدر قد يكون معلوما فيصرف إليهم فأما الزيادة على ذلك فلا والله أعلم .
فإن ترك عمين وخالين وهم ليسوا بورثته بأن مات وترك ابنا وعمين وخالين فالوصية للعمين لا للخالين في قول أبي حنيفة Bه لأنه يعتبر الأقرب فالأقرب والعمان أقرب إليه من الخالين فكانا أولى بالوصية وعندهما : الوصية تكون بين العمين والخالين أرباعا لأن القريب والبعيد سواء عندهما .
ولو كان له عم واحد وخالان فللعم نصف الثلث وللخالين النصف الآخر لأن الوصية حصلت باسم الجمع وأقل من يدخل تحت اسم الجمع في الوصية اثنان فلا يستحق العم الواحد أكثر من نصف الوصية لأن أقل من ينضم إليه مثله وإذا استحق هو النصف بقي النصف الآخر لا مستحق له أقرب من الخالين فكان لهما وعندهما : يقسم الثلث بينهم أثلاثا لاستواء الكل في الاستحقاق فإن كان له عم واحد ولم يكن له غيره من ذوي الرحم المحرم فنصف الثلث لعمه والنصف يرد على ورثة الموصي عنده لأن العم الواحد لا يستحق أكثر من النصف فبقي النصف الآخر لا مستحق له فتبطل فيه الوصية وعندهما يصرف النصف الآخر إلى ذي الرحم الذي ليس بمحرم .
ولو أوصى لأهل بيته يدخل فيه من جمعه آباؤهم أقصى أب في الإسلام حتى أن الموصي لو كان علويا يدخل في هذه الوصية كل من ينسب إلى سيدنا علي Bه من قبل الأب وإن كان عباسيا يدخل فيها كل من ينسب إلى العباس Bه من قبل الأب سواء كان بنفسه ذكرا أو أنثى بعد أن كانت نسبته إليه من قبل الآباء ولا يدخل من كانت نسبته من قبل الأم لأن المراد من أهل البيت أهل بيت النسب والنسب إلى الآباء وأولاد النساء آباؤهم قوم آخرون فلا يكون من أهل بيته ويدخل تحت الوصية لأهل بيته أبوه وجده إذا كان ممن لا يرث لأن بيت الإنسان أبوه ومن ينسب إلى بيته فالأب أصل البيت فيدخل في ا لوصية .
ولا يدخل في الوصية بالقرابة لأن القرابة من تقرب إلى الإنسان بغيره لا بنفسه وذلك لا يوجد في أب وكذلك لو أوصى لنسبه أو حسبه فهو على قرابته الذين ينسبون إلى أقصى أب له في الإسلام حتى لو كان آباؤه على غير دينه دخلوا في الوصية لأن النسب عبارة عمن ينسب إلى الأب دون الأم وكذلك الحسب فإن الهاشمي إذا تزوج أمة فولدت منه ينسب الولد إليه لا إلى أمه وحسبه أهل بيت أبيه دون أمه فثبت أن النسب والحسب يختص بالأب دون الأم وكذلك إذا أوصى لجنس فلان فهم بنو الأب لأن الإنسان يتجنس بأبيه ولا يتجنس بأمه فكان المراد منه جنسه في النسب وكذلك اللحمة عبارة عن الجنس .
وذكر المعلى عن أبي يوسف : إذا أوصى لقرابته فالقرابة من قبل الأب والأم والجنس واللحمة من قبل الأب لأن القرابة من يتقرب إلى الإنسان بغيره وهذا المعنى يوجد في الطرفين بخلاف الجنس على ما بينا وكذلك الوصية لآل فلان هو بمنزلة الوصية لأهل بيت فلان فلا يدخل أحد من قرابة الأم في هذه الوصية .
ولو أوص لأهل فلان فالوصية لزوجة فلان خاصة في قول أبي حنيفة وعندهما : هذا على جميع من يعولهم فلان ممن تضمه نفقته من الأحرار فيدخل فيه زوجته واليتيم في حجره والولد إذا كان يعوله فإن كان كبيرا قد اعتزل عنه أو كان بنتا قد تزوجت فليس من أهله ولا يدخل فيه مماليكه ولا وارث الموصي ولا الموصي لأهله وجه قولهما أن الأهل عبارة عمن ينفق عليه قال الله تبارك وتعالى خبرا عن نبيه سيدنا نوح E : { إن ابني من أهلي } وقال تبارك وتعالى في قصة لوط E : { فنجيناه وأهله } و لأبي حنيفة C : أن الأهل عند الإطلاق يراد به الزوجة في متعارف الناس يقال فلان متأهل وفلان لم يتأهل وفلان له أهل وفلان ليس له أهل ويراد به الزوجة فتحمل الوصية على ذلك ولا يدخل فيه المماليك لأنهم لا يسمون أهل المولى ولا يدخل فيه وارث الموصي لأنه إن خرج منه لا يدخل فعند الإطلاق أولى ولا يدخل فلان الذي أوصى لأهله لأن الوصية وقعت للمضاف إليه والمضاف غير المضاف إليه فلا يدخل في الوصية كما لو أوصى لولد فلان أن فلانا لا يدخل فى الوصية لما قلنا كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو أوصى بثلث ماله لإخوته وله ست أخوة متفرقة وله أولاد يحوزون ميراثه فالثلث بين أخوته سواء لأنهم في استحقاق الاسم سواء بخلاف الوصية لأقرباء فلان أنه يصرف إلى الأقرب فالأقرب عند أبي حنيفة لأن القرابة تحتمل التفاوت في القرب والبعد وأما الإخوة فلا تحتمل التفاوت ألا ترى أنه يقال هذا أقرب من فلان ولا يقال هذا أكثر إخوة من فلان .
هذا إذا كان له ولد يحوز ميراثه فإن لم يكن فلا شيء للإخوة من الأب والأم والأخوة من الأم لأنهم ورثة ولا وصية لوارث وللأخوة من قبل الأب ثلث ذلك الثلث لأنهم لا يرثون ولا يقال إذا لم تصح الوصية للأخوة لأب وأم وللإخوة لأم ينبغي أن يصرف كل الثلث إلى الأخوة للأب لأنا نقول نعم هكذا لو لم تصح الإضافة إلى الإخوة لأب وأم وإلى الإخوة لأم والإضافة إليهم وقعت صحيحة بدليل أنه لو أجازت الورثة جازت الوصية لهم وصار هذا كرجل أوصى بثلث ماله لثلاثة نفر فمات اثنان منهم قبل موت الموصى فللباقي منهم ثلث الثلث لأن الإضافة إليهم وقعت صحيحة كذا هذا بخلاف ما إذا أوصى لفلان وفلان وأحدهما ميت لأن هناك الإضافة لم تصح لأن الميت ليس بمحل للوصية أصلا فلم يدخل تحت الإضافة .
قال أبو يوسف C في رجل أوصى بثلث ماله في الصلة وله أخوة وأخوات وبنو أخ وبنو أخت يوضع الثلث في جميع قرابته من هؤلاء ومن ولد منهم بعد موته لأقل من ستة أشهر لأن الصلة يراد بها صلة الرحم فكأنه نص عليه ومن ولد منهم لأقل من ستة أشهر علم أنه كان موجودا يوم موت الموصي فيدخل في الوصية .
وذكر محمد C في الزيادات إذا أوصى بثلث ماله لأختانه ثم مات فالأختان أزواج البنات والأخوات والعمات والخالات فكل امرأة ذات رحم محرم من الموصي فزوجها من أختانه وكل ذي رحم محرم من زوجها من ذكر وأنثى فهو أيضا من أختانه ولا يكون الأختان إلا أزواج ذوات الرحم المحرم ومن كان من قبلهم من ذي الرحم المحرم ولا يكون من الأختان من كان من قبل نساء الموصي أي زوجاته لأن من ينسب إلى الزوجة فهو صهر وليس بختن على ما نذكر إن شاء الله تعالى وقول محمد C حجة في اللغة .
وذكر محمد C في الاملاء أيضا : إذا قال : قد أوصيت لأختاني فأختانه أزواج كل ذات رحم محرم من الزوج فإن كانت له أخت وبنت أخت وخالة ولكل واحدة منهن زوج ولزوج كل واحدة منهن أب فكلهم جميعا أختان والثلث بينهم بالسوية الذكر والأنثى فيه سواء أم الزوج وأختانه وغير ذلك فيه سواء على ما بينا فقد نص محمد C في موضعين على أن الأختان ما ذكر وقول محمد حجة في اللغة .
وقال في الاملاء : إذا قال : أوصيت بثلث مالي لأصهاري فهو على كل ذي رحم محرم من زوجته وزوجة أبيه وزوجة ابنه وزوجة كل ذي رحم محرم منه فهؤلاء كلهم أصهاره ولا تدخل في ذلك الزوجة ولا امرأة أبيه ولا امرأة أخيه وقول محمد C حجة في اللغة .
والدليل أيضا على أن الأصهار من كان من أهل الزوجة ما روي أنه E : [ لما أعتق صفية وتزوجها أعتق من ملك ذا رحم محرم منها إكراما لها ] وكانوا يسمون أصهاره E وقال في الاملاء : قال أبو حنيفة Bه : إذا أوصى فقال : ثلث مالي لجيراني فهو لجيرانه الملاصقين لداره من السكان عبيدا كانوا أو أحرارا نساء كانوا أو رجالا ذمة كانوا أو مسلمين بالسوية قربت الأبواب أو بعدت إذا كانوا ملاصقين للدار وعندهما الثلث لهؤلاء الذين ذكرهم أبو حنيفة Bه ولغيرهم من الجيران من أهل المحلة ممن يضمهم مسجد أو جماعة واحدة ودعوة واحدة فهؤلاء جيرانه في كلام الناس .
وقال في الزيادات عن أبي حنيفة Bه : إذا أوصى لجيرانه فقياسه أن يكون للملاصقيين وقول أبي حنيفة عليه الرحمة : ينبغي أن يكون الثلث للسكان وغيرهم ممن يسكن تلك الدور التي تجب لأجلها الشفعة ومن كان منهم له دار في تلك الدور وليس بساكن فيها فليس من جيرانه قال محمد C : فأما أنا فأستحسن أن أجعل الوصية لجيرانه الملاصقين ممن يملك الدور وغيرهم ممن لا يملكها ولمن يجمعه مسجد تلك المحلة التي فيها الموصي من الملاصقين وغيرهم السكان ممن في تلك المحلة وغيرهم سواء في الوصية الأقربون والأبعدون والكافر والمسلم والصبي والمرأة في ذلك سواء وليس للمماليك والمدبرين وأمهات الأولاد في ذلك شيء وأما المكاتبون فهم في الوصية إذا كانوا سكانا في المحلة وجه قولهما : أن اسم الجار كما يقع على الملاصق يقع على المقابل وغيره ممن يجمعهما مسجد واحد فإن كل واحد منهما يسمى جارا .
وقال E : [ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ] .
وروي أن سيدنا عليا Bه فسر ذلك فقال : هم الذين يجمعهم مسجد واحد ولأن مقصود الموصي من الوصية للجار هو البر به والإحسان إليه وأنه لا يختص بالملاصق .
و لأبي حنيفة C : أن الجوار المطلق ينصرف إلى الحقيقة وهي الاتصال بين الملكين بلا حائل بينهما هو حقيقة المجاورة فأما مع الحائل فلا يكون مجاورا حقيقة ولهذا وجبت الشفعة للملاصق لا للمقابل لأنه ليس بجار حقيقة ومطلق الاسم محمول على الحقيقة ولأن الجيران الملاصقين هم الذين يكون لبعضهم على بعض حقوق يلزم الوفاء بها حال حياتهم فالظاهر أنه أراد بهذه الوصية قضاء حق كان عليه وإذا كان كذلك فتنصرف الوصية إلى الجيران الملاصقين إلا أنه لا بد من السكنى في الملك الملاصق لملك الموصي فإذا وجد ذلك صار كأنه جار له فيستحق الوصية .
والمذكور في الحديث جار المسجد وجار المسجد فسره علي Bه فإذا أوص لموالي فلان وهو أبو فخذ أو قبيلة أو لبني فلان فإنه يصير كأنه قال لموالي قبيلة فلان ولبي قبيلة فلان ويريد به المنتسبين إليهم بالنسب والمنتمين إليهم بالولاء .
هذا هو المتعارف بين أهل اللسان ومطلق الكلام ينصرف إليه ويصير كالمنطوق بما هو المتعارف عندهم ولو قال : نص هذا ثبت المال للمنتسبين إلى هذه القبيلة والمنتمين إليهم بالولاء كان الجواب ما قلنا كذا ههنا بخلاف ما إذا لم يكن فلان أبا فخذ أو قبيلة فإن هناك لا عرف فعمل بحقيقة اللفظ ولا يصار إلى المجاز إلا بالدليل الظاهر ولا يدخل فيه مولى الموالاة لأن مولى العتاقة يتقدم عليه والله سبحانه وتعالى أعلم .
ثم لا خلاف في أنه إذا قال : ثلث مالي لموالي فلان أنه يدخل في الوصية جميع من نجز إعتاقه في صحته وفي مرضه وسواء كان أعتقه قبل الوصية أو بعدها لأن نفاذ الوصية متعلق بالموت وكل من أعتقه في المرض أو في الصحة بعد أن نجز إعتاقه صار مولى بعد الموت فيستحق الوصية فأما المدبرون وأمهات الأولاد فهل يدخلون تحت هذه الوصية ؟ .
روي عن أبي يوسف أنهم يدخلون وروي عنه رواية أخرى : أنهم لا يدخلون وهو قول محمد ذكره في الجامع .
وجه الرواية الأولى : إن تعلق نفوذ الوصية أو إنه الموت وهم مواليه في ذلك الوقت فإنهم يستحقون الوصية .
وجه ظاهر الرواية : إنه أوان نفوذ الوصية وهو وقت الموت أوان عتقهم فيعتقون في تلك الحالة ثم يصيرون مواليه بعده والوصية تناولت من كان مولى عند موته وهو في تلك الحالة ليسوا بمواليه فلا يدخلون في الوصيه ولو كان قال ذلك بعد أن قال : إن لم أضربك فأنت حر فمات قبل أن يضربه عتق ودخل في الوصية لأنه عتق في آخر جزء من أجزاء حياته لتحقق عدم الضرب منه في تلك الحالة ووقوع اليأس عن حصوله من قبله فيصير مولى له ثم يعتقه الموت ثم تنفذ الوصية فكان مولى وقت نفوذ الوصية ووجوبها بخلاف المسألة الأولى والله تعالى أعلم بالصواب