فصل : شرائط القرض ما يرجع إلى المقرض .
وأما الشرائط فأنواع بعضها يرجع إلى المقرض وبعضها يرجع إلى المقرض وبعضها يرجع إلى نفس القرض أما الذي يرجع إلى المقرض فهو أهليته للتبرع فلا يملكه من لا يملك التبرع من الأب والوصي والصبي والعبد المأذون والمكاتب لأن القرض للمال تبرع ألا ترى أنه لا يقابله عرض للحال فكان تبرعا للحال فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع فلا يملكون القرض .
وأما الذي يرجع إلى المقرض فمنها القبض لأن القرض هو القطع في اللغة سمي هذا العقد قرضا لما فيه من قطع طائفة من ماله وذلك بالتسليم إلى المستقرض فكان مأخذ الاسم دليلا على اعتبار هذا الشرط .
ومنها : أن يكون مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة فلا يجوز قرض ما لا مثل له من المذروعات والمعدودات المتقاربة لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى إيجاب رد القيمة لأنه يؤدي إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل فيختص جواز بما له مثل ولا يجوز القرض في الخبز ولا وزنا ولا عددا عند أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله .
وقال محمد : يجوز عددا وما قالاه هو القياس لتفاوت فاحش بين خبز وخبز لاختلاف العجن والنضج والخفة والثقل في الوزن والصغر والكبر في العدد ولهذا لم يجز السلم فيه بالإجماع فالقرض أولى لأن .
السلم أوسع جوازا من القرض والقرض أضيق منه ألا ترى أنه يجوز االسلم في الثياب ولا يجوز للقرض فيها فلما لم يجز السلم فيه فلأن لا يجوز القرض أولى إلا أن محمد C استحسن في جوازه عددا لعرف الناس وعادتهم في ذلك وترك القياس لتعامل الناس فيه هكذا روي عن إبراهيم النخعي C أنه جوز ذلك فإنه روي أنه سئل عن أهل بيت يقرضون الرغيف فيأخذون أصغر أو أكبر فقال لا بأس به ويجوز القرض في الفلوس لأنها من العدديات المتقاربة كالجوز والبيض ولو استقرض فلوسا فكسدت فعليه مثلها .
عند أبي حنيفة Bه وعند أبي يوسف و محمد رحمهما الله عليه قيمتها .
وجه قولهما : أن الواجب في باب القرض رد مثل المقبوض وقد عجز عن ذلك لأن المقبوض كان ثمنا وقد بطلت الثمنية بالكساد فعجز عن رد المثل فيلزمه رد القيمة كما لو استقرض رطبا فانقطع عن أيدي .
الناس أنه يلزمه قيمته لما قلنا كذا هذا .
و لأبي حنيفة : أن رد المثل كان واجبا والفائت بالكساد ليس إلا وصف الثمنية وهذا وصف لا تعلق لجواز القرض به ألا ترى أنه يجوز استقراضه بعد الكساد ابتداء وإن خرج من كونه ثمنا فلأن يجوز بقاء القرض فيه أولى لأن البقاء أسهل وكذلك الجواب في الدراهم التي يغلب عليها الغش لأنها في حكم الفلوس .
وروي عن أبي يوسف : أنه أنكر استقراض الدراهم المكحلة والمزيفة وكره إنفاقها وإن كانت تنفق بين الناس لما في ذلك من ضرورات العامة وإذا نهى عنها وكسدت فهي بمنزلة الفلوس إذا كسدت .
ولو كان له على رجل دراهم جياد فأخذ منه مزيفة أو مكحلة أو زيوفا أو نبهرجة أو ستوقة جاز في الحكم لأنه يجوز بدون حقه فكان كالحط عن حقه إلا أنه يكره له أن يرضى به وأن ينفقه وأن بين وقت الإنفاق لا يخلو عن ضرر العامة بالتلبيس والتدليس .
قال أبو يوسف : كل شيء من ذلك لا يجوز بين الناس فإنه ينبغي أن يقطع ويعاقب صاحبه إذا أنفقه وهو يعرفه وهذا الذي ذكره احتساب حسن في الشريعة ولو استقرض دراهم تجارية فالتقيا في بلد لا يقدر فيه على التجارية فإن كانت تنفق في ذلك البلد فصاحب الحق بالخيار إن شاء انتظر مكان الأداء وإن شاء أجله قدر المسافة ذاهبا وجائيا واستوثق منه بكفيل وإن شاء أخذ القيمة لأنها إذا كانت نافقة لم تتغير بقيت في الذمة كما كانت وكان له الخيار إن شاء لم يرض بالتأخير وأخذ القيمة لما في التأخير من تأخير حقه وفيه .
ضرر به كمن عليه الرطب إذا انقطع عن أيدي الناس أنه يتخير صاحبه بين التربص والانتظار لوقت الإدراك وبين أخذ القيمة لما قالوا كذا هذا وإن كان لا ينفق في ذلك البلد فعليه قيمتها والله تعالى أعلم .
وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو أن لا يكون فيه جر منفعة فإن كان لم يجز نحو ما إذا أقرضه دراهم غلة على أن يرد عليه صحاحا أو أقرضه وشرط شرطا له فيه منفعة لما روي عن .
رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه نهى عن قرض جر نفعا ] ولأن الزيادة المشروطة تشبه الربا لأنها فضل لا يقابله عوض والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب .
هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في القرض فأما إذا كانت غير مشروطة فيه ولكن المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك لأن الربا اسم لزيادة مشروطة في العقد ولم توجد بل هذا من باب حسن القضاء وأنه أمر مندوب إليه قال النبي عليه السلام : [ خيار الناس أحسنهم قضاء ] وقال النبي E عند قضاء دين لزمه للوازن [ زن وأرجح ] وعلى هذا تخريج مسألة السفاتج التي يتعامل بها التجار أنها مكروهة لأن التاجر ينتفع بها بإسقاط خطر الطريق فتشبه قرضا جر نفعا .
فإن قيل : أليس أنه روي عن عبد الله بن عباس Bهما : أنه كان يستقرض بالمدينة على أن يرد بالكوفة وهذا انتفاع بالقرض بإسقاط خطر الطريق فالجواب أن ذلك محمول على أن السفتجة لم تكن مشروطة في القرض مطلقا ثم تكون السفتجة وذلك مما لا بأس به على ما بينا والله تعالى أعلم .
والأجل لا يلزم في القرض سواء كان مشروطا في العقد أو متأخرا عنه بخلاف سائر الديون والفرق من وجهين : .
أحدهما : أن القرض تبرع ألا يرى أنه لا يقابله عوض للحال وكذا لا يملكه من لا يملك التبرع فلو لزم فيه الأجل لم يبق تبرعا فيتغير المشروط بخلاف الديون .
والثاني : أن القرض يسلك به مسلك العارية والأجل لا يلزم في العواري .
والدليل على أنه يسلك به مسلك العارية أن لا يخلو إما أن يسلك به مسلك المبادلة وهي تمليك الشيء بمثله أو يسلك به مسلك العارية لا سبيل إلى الأول لأنه تمليك العين بمثله نسيئة وهذا لا يجوز فتعين أن يكون عارية فجعل التقدير كأن المستقرض انتفع بالعين مدة ثم رد عين ما قبض وإن كان يرد بدله في الحقيقة وجعل رد بدل العين بمنزلة رد العين بخلاف سائر الديون وقد يلزم الأجل في القرض بحال بأن يوصي بأن يقرض من ماله بعد موته فلانا ألف درهم إلى سنة فإنه ينفذ وصيته ويقرض من ماله كما أمر وليس لورثته أن يطالبوا قبل السنة والله تعالى أعلم