فصل : في سنن الصلاة .
وأما سننها : فكثيرة بعضها صلاة بنفسه وبعضها من لواحق الصلاة أما الذي هو صلاة بنفسه فالسنن المعهودة التي يؤدى بعضها قبل المكتوبة وبعضها بعد المكتوبة ولها فصل متفرد نذكرها فيه بعلائقها .
وأما الذي هو من لواحق الصلاة فثلاثة أنواع نوع يؤتى به عند الشروع في الصلاة ونوع يؤتى به بعد الشروع في الصلاة ونوع يؤتى به عند الخروج من الصلاة أما الذي يؤتى به عند الشروع في الصلاة فسنن الافتتاح وهي أنواع منها أن تكون النية مقارنة للتكبير لأن اشتراط النية لإخلاص العمل لله تعالى وقران النية أقرب إلى تحقيق معنى الإخلاص فكان أفضل وهذا عندنا وعند الشافعي فرض والمسألة قد مرت .
ومنها : أن يتكلم بلسانه ما نواه بقلبه ولم يذكره في كتاب الصلاة نصا ولكنه أشار إليه في كتاب الحج فقال : وإذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء الله فقل : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني فكذا في باب الصلاة ينبغي أن يقول : اللهم إني أريد صلاة كذا فيسرها لي وتقبلها مني لأن هذا سؤال التوفيق من الله تعالى للأداء والقبول بعده فيكون مسنونا .
ومنها : حذف التكبير لما روي [ عن إبراهيم النخعي موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : الأذان جزم والإقامة جزم والتكبير جزم ] ولأن إدخال المد في ابتداء اسم الله تعالى يكون للاستفهام والاستفهام يكون للشك والشك في كبرياء الله تعالى كفر وقوله أكبر لا مد فيه لأنه على وزن أفعل وأفعل لا يحتمل المد لغة .
ومنها : رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح والكلام فيه يقع في مواضع في أصل الرفع وفي وقته وفي كيفيته وفي محله أما أصل الرفع : فلما روي [ عن ابن عباس و ابن عمر Bهما موقوفا عليهما ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن ] وذكر من جملتها تكبيرة الافتتاح و [ عن أبي حميد الساعدي أنه كان في عشرة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم : ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : هات فقال : رأيته إذا كبر عند فاتحة الصلاة رفع يديه ] وعلى هذا إجماع السلف .
وأما وقته : فوقت التكبير مقارنا له لأنه سنة التكبير شرع لإعلام الأصم الشروع في الصلاة ولا يحصل هذا المقصود إلا بالقران وأما كيفيته فلم يذكر في ظاهر الرواية وذكر الطحاوي : أنه يرفع يديه ناشرا أصابعه مستقبلا بهما القبلة فمنهم من قال : أراد بالنشر : تفريج الأصابع وليس كذلك بل أراد أن يرفعهما مفتوحتين لا مضمومتين حتى تكون الأصابع نحو القبلة وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني : أنه لا يفرج كل التفريج ولا يضم كل الضم بل يتركهما على ما عليه الأصابع في العادة بين الضم والتفريج .
وأما محله : فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه يرفع يديه حذاء أذنيه وفسره الحسن بن زياد في المجرد فقال : قال أبو حنيفة : يرفع حتى يحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه وكذلك في كل موضع ترفع الأيدي عند التكبير وقال الشافعي : يرفع حذو منكبيه وقال مالك : حذاء رأسه احتج الشافعي بما روي : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ] .
ولنا : ما روى أبو يوسف في الأمالي بإسناده عن البراء بن عازب أنه قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حذاء أذنيه ] ولأن هذا الرفع شرع لإعلام الأصم الشروع في الصلاة ولهذا لم يرفع في تكبيرة هي علم للانتقال عندنا لأن الأصم يرى الانتقال فلا حاجة إلى رفع اليدين وهذا المقصود إنما يحصل إذا رفع يديه إلى أذنيه .
وأما الحديث فالتوفيق عند تعارض الأخبار واجب فما روي محمول على حالة العذر حين كانت عليهم الأكسية والبرانس في زمن الشتاء فكان يتعذر عليهم الرفع إلى الأذنين يدل عليه : ما روى وائل بن حجر أنه قال : قدمت المدينة فوجدتهم يرفعون أيديهم إلى الآذان ثم قدمت عليهم من القابل وعليهم الأكسية والبرانس من شدة البرد فوجدتهم يرفعون أيديهم إلى المناكب .
أو نقول : المراد بما روينا رؤوس الأصابع وبما روى الأكف والأرساغ عملا بالدلائل بقدر الإمكان وهذا حكم الرجل .
فأما المرأة : فلم يذكر حكمها في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة : أنها ترفع يديها حذاء أذنيها كالرجل سواء لأن كفيها ليسا بعورة وروى محمد بن مقاتل الرازي عن أصحابنا : أنها ترفع يديها حذو منكبيها لأن ذلك أستر لها وبناء أمرهن على الستر ألا ترى أن الرجل يعتدل في سجوده ويبسط ظهره في ركوعه والمرأة تفعل كأستر ما يكون لها .
ومنها : أن الإمام يجهر بالتكبير ويخفي به المنفرد والمقتدي لأن الأصل في الأذكار هو الإخفاء وإنما الجهر في حق الامام لحاجته إلى الإعلام فإن الأعمى لا يعلم بالشروع إلا بسماع التكبير من الإمام ولا حاجة إليه في حق المنفرد والمقتدي .
ومنها : أن يكبر المقتدي مقارنا لتكبير الإمام فهو أفضل باتفاق الروايات عن أبي حنيفة وفي التسليم عنه روايتان في رواية : يسلم مقارنا لتسليم الإمام كالتكبير وفي رواية : يسلم بعد تسليم الإمام بخلاف التكبير .
وقال أبو يوسف : السنة أن يكبر بعد فراغ الإمام من التكبير وإن كبر مقارنا لتكبيره فعن أبي يوسف فيه روايتان في رواية : يجوز وفي رواية : لا يجوز وعن محمد : يجوز ويكون مسيئا .
وجه قولهما : أن المقتدي تبع للإمام ومعنى التبعية لا تتحقق في القران و لأبي حنيفة : أن الاقتداء مشاركة وحقيقة المشاركة المقارنة إذ بها تتحقق الشركة في جميع أجزاء العبادة وبهذا فارق التسليم على إحدى الروايتين لأنه إذا سلم بعده فقد وجدت المشاركة في جميع الصلاة لأنه يخرج عنها بسلام الإمام .
ومنها : أن المؤذن إذا قال : قد قامت الصلاة كبر الإمام في قول أبي حنيفة و محمد .
وقال أبو يوسف و الشافعي : لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة والجملة فيه أن المؤذن إذا قال : .
حي على الفلاح فإن كان الإمام معهم في المسجد يستحب للقوم أن يقوموا في الصف .
وعند زفر و الحسن بن زياد يقومون عند قوله : قد قامت الصلاة في المرة الأولى ويكبرون عند الثانية لأن المنبىء عن القيام قوله : قد قامت الصلاة لا قوله : حي على الفلاح .
ولنا : أن قوله : حي على الفلاح دعاء إلى ما به فلاحهم وأمر بالمسارعة إليه فلا بد من الإجابة إلى ذلك ولن تحصل الإجابة إلا بالفعل وهو القيام إليها فكان ينبغي أن يقوموا عند قوله : حي على الصلاة لما ذكرنا غير أنا نمنعهم عن القيام كيلا يلغو قوله : حي على الفلاح لأن من وجدت منه المبادرة إلى شيء فدعاؤه إليه بعد تحصيله إياه لغو من الكلام .
وأما فوله : أن المنبىء عن القيام قوله : قد قامت الصلاة فنقول : قوله قد قامت الصلاة ينبىء عن قيام الصلاة لا عن القيام إليها وقيامها وجودها وذلك بالتحريمة ليتصل بها جزء من أجزائها تصديقا له على ما نذكر ثم إذا قاموا إلى الصلاة إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة كبروا على الاختلاف الذي ذكرنا .
وجه قول أبي يوسف و الشافعي أن في إجابة المؤذن فضيلة وفي إدراك تكبيرة الافتتاح فضيلة .
فلا بد من الفراغ إحرازا للفضيلتين من الجانبين ولأن فيما قلنا تكون جميع صلاتهم بالإقامة وفيما قالوا بخلافه .
و لأبي حنيفة و محمد ما روي عن سويد بن غفلة : أن عمر Bه كان إذا انتهى المؤذن إلى .
قوله : قد قامت الصلاة كبر .
وروي عن بلال Bه أنه قال : يا رسول الله إن كنت تسبقني بالتكبير فلا تسبقني بالتأمين ولو كبر بعد الفراغ من الإقامة لما سبقه بالتكبير فضلا عن التأمين فلم يكن للسؤال معنى ولأن المؤذن مؤتمن الشرع فيجب تصديقه وذلك فيما قلناه لما ذكرنا أن قيام الصلاة وجودها فلا بد من تحصيل التحريمة المقترنة بركن من أركان الصلاة ليوجد جزء من أجزائها فيصير المخبر عن قيامها صادقا في مقالته لأن .
المخبر عن المتركب من أجزاء لا بقاء لها لن يكون إلا عن وجود جزء منها وإن كان الجزء وحده مما لا ينطلق عليه اسم المتركب كمن يقول : فلان يصلي في الحال يكون صادقا وإن كان لا يوجد في الحالة الإخبار إلا جزء منها لاستحالة اجتماع أجزائها في الوجود في حالة واحدة .
وبه تبين أن ما ذكروا من المعنيين لا يعتبر بمقابلة فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وفعل عمر .
ثم نقول : في تصديق المؤذن فضيلة كما أن في إجابته فضيلة بل فضيلة التصديق فوق فضيلة الإجابة مع أن فيما قالوه فوات فضيلة الإجابة أصلا إذ لا جواب لقوله : قد قامت الصلاة من حيث القول وليس فيما قلنا تفويت فضيلة الإجابة أصلا بل حصلت الإجابة بالفعل وهو إقامة الصلاة فكان ما قلناه سببا لاستدراك الفضيلتين فكان أحق وبه تبين : أن لا بأس بأداء بعض الصلاة بعد أكثر الإقامة وأداء أكثرها بعد جميع الإقامة إذا كان سببا لاستدراك الفضيلتين .
وبعض مشايخنا اختاروا في الفعل مذهب أبي يوسف لتعذر إحضار النية عليهم في حال رفع المؤذن صوته بالإقامة .
هذا إذا كان الإمام في المسجد فإن كان خارج المسجد لا يقومون ما لم يحضر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : .
[ لا تقوموا في الصف ما لم تروني خرجت ] وروي عن علي Bه : أنه دخل المسجد فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال : مالي أراكم سامدين ( أي واقفين متحيرين ) ولأن القيام لأجل الصلاة ولا يمكن أداؤها بدون الإمام فلم يكن القيام مفيدا .
ثم إن دخل الإمام من قدام الصفوف فكلما رأوه قاموا لأنه لما دخل المسجد قام مقام الإمامة وإن دخل من وراء الصفوف فالصحيح أنه كلما جاوز صفا قام ذلك الصف لأنه صار بحال لو اقتدوا به جاز فصار في حقهم كأنه أخذ مكانه