فصل : في صلاة الاستسقاء .
وأما صلاة الاستسقاء فظاهر الرواية عن أبي حنيفة أنه قال لا صلاة في الاستسقاء وإنما فيه الدعاء وأراد بقوله لا صلاة في الاستسقاء الصلاة بجماعة أي لا صلاة فيه بجماعة بدليل ما روى عن أبي يوسف أنه قال سألت أبا حنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو دعاء موقت أو خطبة فقال : أما صلاة بجماعة فلا ولكن الدعاء والاستغفار وإن صلوا وحدانا فلا بأس به وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقال محمد : يصلي الإمام أو نائبه في الاستسقاء ركعتين بجماعة كما في الجمعة ولم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي يوسف وذكر في بعض المواضع قوله مع قول أبي حنيفة وذكر الطحاوي قوله مع قول محمد وهو الأصح واحتجا [ بحديث ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بجماعة في الاستسقاء ركعتين ] .
والمروي في [ حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى فيه ركعتين كصلاة العيد ] .
و لأبي حنيفة قوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا } والمراد منه الاستغفار في الاستسقاء بدليل قوله : { يرسل السماء عليكم مدرارا } أمر بالاستغفار في الاستسقاء فمن زاد عليه الصلاة فلا بد له من دليل .
وكذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم في الروايات المشهورة أنه صلى في الاستسقاء فإنه [ روي أنه صلى الله عليه و سلم صلى الجمعة فقام رجل فقال : يا رسول الله أجدبت الأرض وهلكت المواشي فاسق لنا الغيث فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه إلى السماء ودعا فما ضم يديه حتى مطرت السماء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لله در أبي طالب لو كان في الأحياء لقرت عيناه فقال علي Bه : تعني يا رسول الله قوله : .
( وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل ) .
فقال صلى الله عليه و سلم أجل ] .
وفي بعض الروايات : [ قام ذلك الأعرابي وأنشد فقال : .
( أتيناك والعذراء يدمى لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل ) .
وقال في آخره : .
( وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وليس فرار الناس إلا إلى الرسل ) .
فبكى النبي لكون حتى أخضلت لحيته الشريفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم اسقنا غيثا مغيثا عذبا طيبا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل فما رد رسول الله صلى الله عليه و سلم يده إلى صدره حتى مطرت السماء جاء وأهل البلد يصيحون : الغرق الغرق يا رسول الله فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه فقال : اللهم حوالينا ولا علينا فانجابت السحابة حتى أحدقت بالمدينة كالإكليل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه من ينشدنا قوله ؟ فقام علي Bه وأنشد البيت المتقدم أولا وما روي أنه A صلى ] .
وعن عمر Bه أنه خرج إلى الاستسقاء ولم يصل بجماعة بل صعد المنبر واستغفر الله وما زاد عليه فقالوا : ما استسقيت يا أمير المؤمنين ؟ .
فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي بها يستنزل الغيث وتلا قول الله تعالى : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا } .
وروي أنه خرج بالعباس فأجلسه على المنبر ووقف بجنبه يدعو ويقول : اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك صلى الله عليه و سلم ودعا بدعاء طويل فما نزل عن المنبر حتى سقوا .
وعن علي : أنه استسقى ولم يصل وما روي أنه صلى الله عليه و سلم صلى بجماعة حديث شاذ ورد في محل الشهرة لأن الاستسقاء يكون بملأ من الناس ومثل هذا الحديث يرجح كذبه على صدقه أو وهمه على ضبطه فلا يكون مقبولا مع أن هذا مما تعم به البلوى في ديارهم وما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا يقبل فيه الشاذ والله أعلم .
ثم عندهما : يقرأ في الصلاة ما شاء جهرا كما في صلاة العيدين لكن الأفضل أن يقرأ بـ { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية } لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأهما في صلاة العيد ولا يكبر فيها في المشهور من الرواية عنهما .
وروي عن محمد أنه يكبر وليس في الاستسقاء أذان ولا إقامة .
أما عند أبي حنيفة : فلا يشكل لأنه ليس فيه صلاة الجماعة وإن شاءوا صلوا فرادى وذلك في معنى .
الدعاء وعندهما إن كان فيه صلاة بالجماعة ولكنها ليست بمكتوبة والأذان والإقامة من خواص المكتوبات كصلاة العيد ثم بعد الفراغ من الصلاة يخطب عندهما وعند أبي حنيفة لا يخطب ولكن لو صلوا وحدانا يشتغلون بالدعاء بعد الصلاة لأن الخطبة من توابع الصلاة بجماعة والجماعة غير مسنونة في هذه الصلاة عنده وعندهما سنة فكذا الخطبة .
ثم عند محمد : يخطب خطبتين يفصل بينهما بالجلسة - كما في صلاة العيد - وعن أبي يوسف أنه يخطب خطبة واحدة لأن المقصود منها الدعاء فلا يقطعها بالجلسة ولا يخرج المنبر في الاستسقاء ولا يصعده لو كان في موضع الدعاء منبر لأنه خلاف السنة وقد عاب الناس على مروان بن الحكم عند إخراجه المنبر في العيدين ونسبوه إلى خلاف السنة على ما بينا ولكن يخطب على الأرض معتمدا على قوس أو سيف ولو توكأ على عصا فحسن لأن خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا ويخطب مقبلا بوجهه إلى الناس وهم مقبلون عليه لأن الإسماع والاستماع إنما يتم عند المقابلة ويستمعون الخطبة وينصتون لأن الإمام يعظهم فيها فلا بد من الإنصات والاستماع وإذا فرغ من الخطبة جعل ظهره إلى الناس ووجهه إلى القبلة ويشتغل بدعاء الاستسقاء والناس قعود مستقبلون بوجوههم إلى القبلة في الخطبة والدعاء لأن الدعاء مستقبل القبلة أقرب إلى الإجابة فيدعو لله ويستغفر للمؤمنين ويجددون التوبة ويستسقون .
وهل يقلب الإمام رداءه ؟ لا يقلب في قول أبي حنيفة وعندهما : يقلب إذا مضى صدر من خطبته .
فاحتجا بما روي : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قلب رداءه ] .
و لأبي حنيفة : ما [ روي أنه عليه السلام استسقى يوم الجمعة ولم يقلب الرداء ] ولأن هذا دعاء فلا .
معنى لتغيير الثوب فيه كما في سائر الأدعية وما روي أنه قلب الرداء محتمل يحتمل أنه تغير عليه فأصلحه فظن الراوي إنه قلب أو يحتمل إنه عرف من طريق الوحي أن الحال ينقلب من الجدب إلى الخصب متى قلب الرداء بطريق التفاؤل ففعل وهذا لا يوجد في حق غيره وكيفية تقليب الرداء عندهما : أنه كان مربعا جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وإن كان مدورا جعل الجانب الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن وأما القوم فلا يقلبون أرديتهم عند عامة العلماء وعند مالك : يقلبون أيضا .
واحتج بما روى عن عبد الله بن زيد : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حول رداءه وحول الناس أرديتهم ] وهما يقولان : إن تحويل الرداء في حق الإمام أمر ثبت بخلاف القياس بالنص على ما ذكرنا فنقتصر على مورد النص وما روي من الحديث شاذ على أنه يحتمل أنه صلى الله عليه و سلم عرف ذلك فلم ينكر عليهم فيكون تقريرا ويحتمل أنه لم يعرف لأنه كان مستقبل القبلة مستدبرا القوم فلا يكون حجة مع الاحتمال ثم إن شاء رفع يديه نحو السماء عند الدعاء وإن شاء أشار بإصبعه كذا روي عن أبي يوسف لأن رفع اليدين عند الدعاء : سنة لما [ روي أن النبي في كان يدعو بعرفات باسطا يديه كالمستطعم المسكين ] .
ثم المستحب أن يخرج الإمام والناس إلى الاستسقاء ثلاثة أيام متتابعة لأن المقصود من الدعاء الإجابة والثلاثة مدة وضعت لإبلاء الأعذار .
وإن أمر الإمام الناس بالخروج ولم يخرج بنفسه خرجوا لما روي [ أن قوما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم القحط فأمرهم أن يجثوا على الركب ولم يخرج بنفسه ] وإذا خرجوا اشتغلوا بالدعاء ولم يصلوا بجماعة إلا إذا أمر الإمام إنسانا أن يصلي بهم جماعة لأن هذا دعاء فلا يشترط له حضور الإمام وإن خرجوا بغير إذنه جاز لأنه دعاء فلا يشترط له إذن الإمام ولا يمكن أهل الذمة من الخروج إلى الاستسقاء عند عامة العلماء .
وقال مالك : إن خرجوا لم يمنعوا والصحيح قول العامة لأن المسلمين بخروجهم إلى الاستسقاء ينتظرون نزول الرحمة عليهم والكفار منازل اللعنة والسخطة فلا يمكنون من الخروج والله أعلم