شرائط الفرضية .
فصل : و أما شرائط الفرضية فأنواع بعضها يرجع إلى من عليه و بعضها يرجع إلى المال أما الذي يرجع إلى من عليه فأنواع أيضا منها : إسلامه حتى لا تجب على الكافر في حق أحكام الآخرة عندنا لأنها عبادة و الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات هو الصحيح من مذهب أصحابنا خلافا للشافعي و هي من مسائل أصول الفقه و أما في حق أحكام الدنيا فلا خلاف في أنها لا تجب على الكافر الأصلي حتى لا يخاطب بالأداء بعد الإسلام كالصوم و الصلاة و أما المرتد فكذلك عندنا حتى إذا مضى عليه الحول و هو مرتد فلا زكاة عليه حتى لا يجب عليه أداؤها إذا أسلم .
و عند الشافعي : تجب عليه في حال الردة و يخاطب بأدائها بعد الإسلام و على هذا الخلاف الصلاة .
وجه قوله : إنه أهل للوجوب لقدرته على الأداء بواسطة الطهارة فكان ينبغي أن يخاطب الكافر الأصلي بالأداء بعد الإسلام إلا أنه سقط عنه الأداء رحمة عليه و تخفيفا له و المرتد لا يستحق التخفيف لأنه رجع بعد ما عرف محاسن الإسلام فكان كفره أغلظ فلا يلحق به .
و لنا : قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] و لأن الزكاة عبادة و الكافر ليس من أهل العبادة لعدم شرط الأهلية و هو الإسلام فلا يكون من أهل وجوبها كالكافر الأصلي .
و قوله : إنه قادر على الأداء بتقديم شرطه و هو الإيمان فاسد لأن الإيمان أصل و العبادات توابع له بدليل أنه لا يتحقق الفعل عبادة بدونه و الإيمان عبادة بنفسه و هذه الآية التبعية نو لهذا لا يجوز أن يرتفع الإيمان عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنياو الآخرة مع ارتفاع غيره من العبادات فكان هو عبادة بنفسه و غير عبادة به فكان تبعا له فالقول بوجوب الزكاة و غيرها من العبادات بناء على تقديم الإيمان جعل التبع متبوعا و المتبوع تابعا و هذا قلب الحقيقة و تغيير الشريعة بخلاف الصلاة مع الطهارة لأن الصلاة أصل و الطهارة تابعة لها فكان إيجاب الأصل إيجابا للتبع و هو الفرق .
و منها : العلم يكونها فريضة عند أصحابنا الثلاثة و لسنا نعني به حقيقة العلم بل السبب الموصل إليه و عند زفر : ليس بشرط حتى إن الحربي لو أسلم في دار الحرب و لم يهاجر إلينا و مكث هناك سنين و له سوائم و لا علم له بالشرائع لا يجب عليه زكاتها حتى لا يخاطب بأدائها إذا خرج إلى دار الإسلام عندنا خلافا لزفر و قد ذكرنا المسألة في كتاب الصلاة و هل تجب عليه إذا بلغه رجل واحد في دار الحرب أو يحتاج فيه إلى العدد و قد ذكرنا الاختلاف فيه في كتاب الصلاة .
و منها : البلوغ عندنا فلا تجب على الصبي و هو قول علي و ابن عباس فإنهما قالا : لا تجب الزكاة على الصبي حتى تجب عليه الصلاة .
و عند الشافعي : ليس بشرط و تجب الزكاة في مال الصبي و يؤديها الولي و هو قول ابن عمر و عائشة Bهما و كان ابن مسعود Bه يقول : يحصي الولي أعوام اليتيم فإذا بلغ أخبره و هذا إشارة إلى أنه تجب الزكاة لكن ليس للولي ولاية الأداء و هو قول ابن أبي ليلى حتى قال : لو أداها الولي من ماله ضمن و من أصحابنا من بنى المسألة على أصل و هو أن الزكاة عبادة عندنا و الصبي ليس من أهل وجوب العبادة فلا تجب عليه كما لا يجب عليه الصوم و الصلاة .
و عند الشافعي : حق العبد و الصبي من أهل وجوب حقوق العباد كضمان المتلفات و أروش الجنايات و نفقة الأقارب و الزوجات و الخراج و العشر و صدقة الفطر و لئن كانت عبادة فهي عبادة مالية تجري فيها النيابة حتى تتأدى بأداء الوكيل و الولي نائب الصبي فيها فيقوم مقامه في إقامة هذا الواجب بخلاف العبادات البدنية لأنها لا تجري فيها النيابة و منهم من تكلم فيها ابتداء .
أما الكلام فيها على وجه البناء فوجه قوله النص و دلالة الإجماع و الحقيقة أما النص فقوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء } .
و قوله D : { و الذين في أموالهم حق معلوم } { للسائل و المحروم } و الإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص بجهة الملك إذا كان المضاف إليه من أهل الملك .
و أما دلالة الإجماع فلأنا أجمعنا على أن من عليه الزكاة إذا وهب جميع النصاب من الفقير و لم تحضره النية تسقط عنه الزكاة و العبادة لا تتأدى بدون النية و لذا يجري فيها الجبر و الاستخلاف من الساعي و إنما بجريان في حقوق العباد و كذا يصح توكيل الذمي بأداء الزكاة و الذمي ليس من أهل العبادة و أما الحقيقة فإن الزكاة تمليك المال من الفقير فكانت حق الفقير و الصبا لا يمنع حقوق العباد على ما بينا .
و لنا : قول النبي A : [ بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و حج البيت من استطاع إليه سبيلا ] و ما بني الإسلام يكون عبادة و العبادات التي تحتمل السقوط تقدر في الجملة فلا تجب على الصبيان كالصوم و الصلاة .
و أما الآية فالمراد من الصدقة المذكورة فيها محل الصدقة و هو المال لا نفس الصدقة لأنها اسم للفعل و هو إخراج المال إلى الله تعالى و ذلك حق الله تعالى لا حق الفقير و كذلك الحق المذكور في الآية الأخرى المراد منه المال و ذا ليس بزكاة بل هو محل الزكاة و سقوط الزكاة بهبة النصاب من الفقير لوجود النية دلالة و الجبر على الأداء ليؤدي من عليه بنفسه لا ينافي العبادة حتى لو مد يده و أخذه من غير أداء من عليه لا تسقط عنه الزكاة عندنا و جريان الاستخلاف لثبوت ولاية المطالبة للساعي ليؤدي من عليه باختياره و هذا لا يقتضي كون الزكاة حق العبد و إنما جازت بأداء الوكيل لأن المؤدي في الحقيقة هو الموكل و الخراج ليس بعبادة بل هو مؤنة الأرض و صدقة الفطر ممنوعة على قول محمد و أما على قول أبي حنيفة و أبي يوسف فلأنها مؤنة من وجه قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أدوا عمن تمونون ] فيجب بوصف المؤنة لا بوصف العبادة و هو الجواب عن العشر .
و أما الكلام في المسألة على وجه الابتداء فالشافعي احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الصدقة ] و لو لم تجب الزكاة في مال اليتيم ما كانت الصدقة تأكلها .
و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من ولي يتيما فليؤد زكاة ماله ] .
و روي [ من ولي يتيما فليزك ماله ] و لعمومات الزكاة من غير فصل بين البالغين و الصبيان و لأن سبب و جوب الزكاة ملك النصاب و قد وجد فتجب الزكاة فيه كالبالغ .
و لنا : أنه لا سبيل إلى الإيجاب على الصبي لأنه مرفوع القلم بالحديث و لأن إيجاب الزكاة إيجاب الفعل و إيجاب الفعل على العاجز عن الفعل تكليف ما ليس في الوسع و لا سبيل إلى الإيجاب على الولي ليؤدي من مال الصبي لأن الولي منهي عن قربان مال اليتيم إلا على وجه الأحسن بنص الكتاب و أداء الزكاة من ماله قربان ماله لا على وجه الأحسن لما ذكرنا في الخلافيات و الحديثان غريبان أو من الآحاد فلا يعارضان الكتاب مع ما أن اسم الصدقة يطلق على النفقة قال صلى الله عليه و سلم : [ نفقة الرجل على نفسه صدقة و على عياله صدقة ] و في الحديث ما يدل عليه لأنه أضاف الأكل إلى جميع المال و النفقة هي التي تأكل الجميع لا الزكاة أو تحمل الصدقة و الزكاة على صدقة الفطر لأنها تسمى زكاة .
و أما قوله : من ولي يتيما فليزك ماله أي ليتصرف في ماله كي ينمو إذا التزكية هي التنمية توفيقا بين الدلائل و عمومات الزكاة لا تتناول الصبيان أو هي مخصوصة فتخص المتنازع فيه بما ذكرنا و الله أعلم .
و منها العقل فلا تجب الزكاة في مال المجنون جنونا أصليا و جملة الكلام فيه أن الجنون نوعان : أصلي و طارئ أما الأصلي و هو أن يبلغ مجنونا فلا خلاف بين أصحابنا أنه يمنع انعقاد الحول على النصاب حتى لا يجب عليه أداء زكاة ما مضى من الأحوال بعد الإفاقة و إنما يعتبر ابتداء الحول من وقت الإفاقة لأنه الآن صار أهلا لأن ينعقد الحول على ماله كالصبي إذا بلغ أنه لا يجب عليه أداء زكاة ما مضى من زمان الصبا و إنما يعتبر ابتداء الحول على ماله من وقت البلوغ عندنا كذا هذا و لهذا منع وجوب الصلاة و الصوم كذا الزكاة .
و أما الجنون الطارئ فإن دام سنة كاملة فهو في حكم الأصلي ألا ترى أنه في حق الصوم كذلك كذا في حق الزكاة لأن السنة في الزكاة كالشهر في الصوم و الجنون المستوعب للشهر يمنع وجوب الصوم فالمستوعب للسنة يمنع وجوب الزكاة و لهذا يمنع وجوب الصلاة و الحج فكذا الزكاة و إن كان في بعض السنة ثم أفاق روي عن محمد في النوادر أنه إن أفاق في شيء من السنة و إن كان ساعة من الحول من أوله أو وسطه أو آخره تجب زكاة ذلك الحول و هو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف أيضا .
و روى هشام عنه أنه قال : إن أفاق أكثر السنة وجبت و إلا فلا .
وجه هذه الرواية : أنه إذا كان في أكثر السنة مفيقا في جميع السنة لأن للأكثر حكم الكل في كثير الأحكام خصوصا فيما يحتاط فيه .
وجه الرواية الأخرى : و هو قول محمد : و هو اعتبار الزكاة بالصوم و هو اعتبار صحيح لأن السنة للزكاة كالشهر للصوم ثم الإفاقة في جزء من الشهر يكفي لوجوب صوم الشهر كذا الإفاقة في جزء من السنة تكفي لانعقاد الحول على المال .
و أما الذي يجن و يفيق فهو كالصحيح بمنزلة النائم و المغمى عليه .
و منها : الحرية لأن الملك من شرائط الوجوب لما نذكر و المملوك لا ملك له حتى لا تجب الزكاة على العبد و إن كان مأذونا له في التجارة لأنه إن لم يكن عليه دين فكسبه لمولاه و على المولى زكاته و إن كان عليه دين محيط بكسبه فالمولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عند أبي حنيفة فلا زكاة فيه على أحد .
و عند أبي يوسف و محمد إن كان يملكه لكنه مشغول بالدين و المال المشغول بالدين لا يكون مال الزكاة و كذا المدبر و أم الولد لما قلنا و كذا لا زكاة على المكاتب في كسبه لأنه ليس ملكه حقيقة لقيام الرق فيه بشهادة النبي صلى الله عليه و سلم : [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] و العبد : اسم للمرقوق و الرق ينافي الملك .
و أما المستسعى : فحكمه حكم المكاتب في قول أبي حنيفة .
و عندها : هو حر مديون فينظر إن كان فضل عن سعايته ما يبلغ نصابا تجب الزكاة عليه و إلا فلا .
و منها : أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد عندنا فإن كان فإنه يمنع وجوب الزكاة بقدره حالا كان أو مؤجلا .
و عند الشافعي : هذا ليس بشرط و الدين لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان احتج الشافعي بعمومات الزكاة من غير فضل و لأن سبب وجوب الزكاة : ملك النصاب و شرطه : أن يكون معدا للتجارة أو للإسامة و قد وجد أما الملك فظاهر لأن المديون مالك لماله لأن دين الحر الصحيح يجب في ذمته و لا يتعلق بماله و لهذا يملك التصرف فيه كيف شاء و أما الإعداد للتجارة أو الإسامة فلأن الدين لا ينافي ذلك و الدليل عليه أنه لا يمنع وجوب العشر .
و لنا : ما روي عن عثمان Bه أنه خطب في شهر رمضان و قال في خطبته : ألا إن شهر زكاتكم قد حضر فمن كان له مال و عليه دين فليحسب ماله بما عليه ثم ليزك بقية ماله و كان بمحضر من الصحابة و لم ينكر عليه أحد منهم فكان ذلك إجماعا منهم على أنه لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين و به تبين أن مال المديون خارج عن عمومات الزكاة و لأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية لأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية و المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة لأنه لا يتحقق به الغني و لا صدقة إلا عن ظهر غنى على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد خرج الجواب عن قوله انه وجد سبب الوجوب و شرطه لأن صفة الغنى مع ذلك شرط و لا يتحقق مع الدين مع ما أن ملكه في النصاب ناقص بدليل أن لصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أن يأخذ من غير قضاء و لا رضاء .
و عند الشافعي : له ذلك في الجنس و خلاف الجنس و ذا آية عدم الملك كما في الوديعة و المغصوب فلأن يكون دليل نقصان الملك أولى .
و أما العشر فقد روى ابن المبارك عن أبي حنيفة : أن الدين يمنع وجوب العشر فيمنع على هذه الرواية و أما على ظاهر الرواية فلأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فلا يعتبر فيه غنى المالك و لهذا لا يعتبر فيه أصل المالك عندنا حتى يجب في الأراضي الموقوفة و أرض المكاتب بخلاف الزكاة فإنه لا بد فيها من غنى المالك و الغنى لا يجامع الدين و على هذا يخرج مهر المرأة فإنه يمنع وجوب الزكاة عندنا معجلا كان أو مؤجلا لأنها إذا طالبته يؤاخذ به .
و قال بعض مشايخنا : إن المؤجل لا يمنع لأنه غير مطالب به عادة فأما المعجل فيطالب به عادة فيمنع و قال بعضهم : إن كان الزوج على عزم من قضائه يمنع و إن لم يكن على عزم القضاء لا يمنع لأنه لا يعده دينا و إنما يؤاخذ المرء بما عنده في الأحكام .
و ذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري : في الإجارة الطويلة التي تعارفها أهل بخارى أن الزكاة في الأجرة المعجلة تجب على الآجر لأنه ملكه قبل الفسخ و إن كان يلحقه دين بعد الحول بالفسخ .
و قال بعض مشايخنا : أنه يجب على المستأجر أيضا لأنه بعد ذلك مالا موضوعا عند الآجر و قالوا في البيع الذي اعتاده أهل سمرقند و هو بيع الوفاء إن الزكاة على البائع في ثمنه إن بقي حولا لأنه ملكه و بعض مشايخنا قالوا : يجب أن يلزم المشتري أيضا لأنه يعده مالا موضوعا عند البائع فيؤاخذ بما عنده و قالوا فيمن ضمن الدرك فاستحق المبيع : أنه إن كان في الحول يمنع لأن المانع قارن الموجب فيمنع الوجوب فأما إذا استحق بعد الحول لا يسقط الزكاة لأنه دين حادث لأن الوجوب مقتصر على حالة الاستحقاق و إن كان الضمان سببا حتى اعتبر من جميع المال و إذا اقتصر وجوب الدين لم يمنع وجوب الزكاة قبله .
و أما نفقة الزوجات فما لم يصر دينا إما بفرض القاضي أو بالتراضي لأنها تجب شيئا فشيئا فتسقط إذا لم يوجد قضاء القاضي أو بالتراضي لصيرورته دينا و كذا نفقة المحارم تمنع غذا فرضها القاضي في مدة قصيرة نحو ما دون الشهر فتصير دينا فأما إذا كانت المدة طويلة فلا تصير دينا بل تسقط لأنها صلة محضة بخلاف نفقة الزوجات إلا أن القاضي يضطر إلى الفرض في الجملة في نفقة المحارم أيضا لكن الضرورة ترتفع بأدنى المدة .
و قال بعض مشايخنا : إن نفقة المحارم تصير دينا أيضا بالتراضي في المدة اليسيرة .
و قالوا : دين الخراج يمنع وجوب الزكاة لأنه مطالب به و كذا إذا صار العشر دينا في ذمته بأن أتلف الطعام العشري صاحبه .
فأما وجوب العشر فلا يمنع لأنه متعلق بالطعام يبقى ببقائه و يهلك بهلاكه و الطعام ليس مال التجارة حتى يصير مستحقا بالدين