و أما شرائط صحته فنوعان .
فصل : و أما شرائط صحته فنوعان نوع يرجع إلى المعتكف و نوع يرجع إلى المعتكف فيه أما ما يرجع إلى المعتكف فمنها : الإسلام و العقل و الطهارة عن الجناية و الحيض و النفاس و أنها شرط الجواز في نوعي الاعتكاف الواجب و التطوع جميعا لأن الكافر ليس من أهل العبادة و كذا المجنون لأن العبادة لا تؤدى إلا بالنية و هو ليس من أهل النية و الجنب و الحائض و النفساء ممنوعون عن المسجد و هذه العبادة لا تؤدى إلا في المسجد .
و أما البلوغ : فليس بشرط لصحة الاعتكاف فيصح من الصبي العاقل لأنه من أهل العبادة كما يصح منه صوم التطوع و لا تشترط الذكورة و الحرية فيصح من المرأة و العبد بإذن المولى و الزوج إن كان لها زوج لأنهما من أهل العبادة و إنما المانع حق الزوج و المولى فإذا وجد الإذن فقد زال المانع .
و لو نذر المملوك اعتكافا فللمولى أن يمنعه عنه فإذا أعتق قضاه و كذلك المرأة إذا نذرت فلزوجها أن يمنعها فإذا باتت قضت لأن الزوج ملك المنفعة فيها و للمولى ملك الذات و المنفعة في المملوك و في الاعتكاف تأخير حقهما في استيفاء المنفعة فكان لهما المنع ما داما في ملك الزوج و المولى فإذا بانت المرأة و أعتق المملوك لزمهما قضاؤه و لأن النذر منهما قد صح لوجوده من الأهل لكنهما منعا لحق المولى و الزوج فإذا سقط حقهما بالعتق و البينونة فقد زال المانع فيلزمهما القضاء .
و أما المكاتب : فليس للمولى أن يمنعه من الاعتكاف الواجب و التطوع لأن المولى لا يملك منافع مكاتبه فكان كالحر في حق منافعه و إذا أذن الرجل لزوجته بالاعتكاف لم يكن له أن يرجع عنه لأنه لما أذن لها بالاعتكاف فقد ملكها منافع الاستمتاع بها في زمان الاعتكاف و هي من أهل الملك الرجوع فلا يملك عن ذلك و النهي عنه بخلاف المملوك إذا أذن له مولاه بالاعتكاف أنه يملك الرجوع عنه لأن هناك ما ملكه المولى منافعه لأنه ليس من أهل الملك و إنما أعاره منافعه و للمعير أن يرجع في العارية متى شاء إلا أنه يكره له الرجوع لأنه خلف في الوعد و غرور فيكره له ذلك .
و منها : النية لأن العبادة لا تصح بدون النية و منها : الصوم فإنه شرط لصحة الاعتكاف الواجب بلا خلاف بين أصحابنا و عند الشافعي : ليس بشرط و يصح الاعتكاف بدون الصوم و المسألة مختلفة بين الصحابة Bهم و روي عن ابن عباس و عائشة و إحدى الروايتين عن علي Bهم مثل مذهبنا و روى عن علي و عبد الله بن مسعود مثل مذهبه .
وجه قوله : إن الاعتكاف ليس إلا الليث و الإقامة و ذا لا يفتقر إلى الصوم و لأن الصوم عبادة مقصودة بنفسه فلا يصلح شرطا لغيره لأن الشروط الشيء تبع له و جعل المتبوع تبعا و إنه قلب الحقيقية و لهذا لم يشترط لاعتكاف التطوع و كذا يصح الشروع في الاعتكاف الواجب بدونه بأن قال : لله علي أن أعتكف شهر رجب فكما رأى الهلال عليه الدخول في الاعتكاف و لا صوم في ذلك القوت ولو كان شرطا لما جاز بدونه فضلا عن الوجوب إذا الشروع في العبادة بدون شرطها لا يصح و الدليل عليه أنه لو قال لله علي أن أعتكف شهر رمضان فصام رمضان و اعتكف خرج عن عهدة النذر و إن لم يجب عليه الصوم بالاعتكاف .
و لنا : ما روي عن عائشة Bها عن النبي A أنه قال [ لا اعتكاف إلا بصوم ] و لأن الصوم هو الإمساك عن الأكل و الشرب و الجماع ثم أحد ركني الصوم و هو الإمساك عن الجماع شرط صحة الاعتكاف فكذا الركن الآخر و هو الإمساك عن الأكل و الشرب لاستواء كل واحد منهما في كونه ركنا للصوم فإذا كان أحد الركنين شرطا كان الآخر كذلك و لأن معنى هذه العبادة و هو ما ذكرنا من الإعراض عن الدنيا و الإقبال على الآخرة بملازمة بيت الله تعالى لا يتحقق بدون ترك قضاء الشهوتين إلا بقدر الضرورة و هي ضرورة القوام و ذلك بالأكل و الشرب في الليالي و لا ضرورة في الجماع .
و قوله : الاعتكاف ليس إلا اللبث و المقام مسلم لكن هذا لا يمنع أن يكون الإمساك عن الأكل و الشرب شرطا لصحته كما لم يمنع أن يكون الإمساك عن الكل و الشرب و الجماع شرطا لصحته و النية و كذا كون الصوم عبادة بنفسه لا ينافي أن يكون شرطا لغيره ألا ترى أن قراءة القرآن عبادة مقصودة بنفسه ثم جعل شرطا لجواز الصلاة حالة الاختيار كذا ههنا .
و أما اعتكاف التطوع فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا تصح بدون الصوم و من مشايخنا من اعتمد على هذه الرواية و أما على ظاهر الرواية فلأن في الاعتكاف التطوع عن أصحابنا روايتين في رواية مقدر بيوم و في رواية غير مقدر أصلا و هو رواية الأصل فإذا لم يكن مقدرا و الصوم عبادة مقدرة بيوم فلا يصلح شرطا لما ليس بمقدر بخلاف الاعتكاف الواجب فإنه مقدر بيوم لا يجوزالخروج عنه قبل تمامه فجاز أن يكون الصوم شرطا لصحته .
و أما إذا قال لله علي أن أعتكف شهر رجب فإنما أوجب عليه الدخول في الاعتكاف في الليل لأن الليالي دخلت في الاعتكاف المضاف إلى الشهر لضرورة اسم الشهر إذ هو اسم للأيام والليالي دخلت تبعا لا أصلا و مقصودا فلا يشترط لها ما يشتؤرط للأصل كما إذا قال لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام إنه يدخل فيه الليالي و يكون أول دخوله فيه من الليل لما قلنا كذا هذا .
و أما النذر باعتكاف شهر رمضان فإنما يصح لوجود شرطه و هو الصوم في زمان الاعتكاف و إن لم يكن لزومه بالتزام الاعتكاف لأن ذلك أفضل و أما اعتكاف التطوع فالصوم ليس بشرط لجوازه في ظاهر الرواية و إنما الشرط أحد ركني الصوم عينا و هو الإمساك عن الجماع لقوله تعالى : { و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد } فأما الإمساك عن الأكل و الشرب فليس بشرط وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه شرط و اختلاف الرواية فيه مبني على اختلاف الرواية في اعتاكف التطوع أنه مقدر بيوم أو غير مقدر ذكر محمد في الأصل أنه غير مقدر و يستوي فيه القليل و الكثير و لو ساعة .
و رورى الحسن عن أبي حنيفة أنه مقدر بيوم فلما لم يكن مقدرا على رواية الأصل لم يكن الصوم شرطا له لأن الصوم مقدر بيوم إذ صوم بيوم إذ صوم بعض اليوم ليس بمشروع فلا يصلح شرطا لما ليس بمقدر و لما كان مقدرا بيوم على رواية الحسن فالصوم يصلح أن يكون شرطا لما ليس بمقدر و لما كان مقدراص بيوم على رواية الحسن فالصوم يصلح أن يكون شرطا له و الكلام فيه يأتي في موضعه .
و على هذا يخرج ما إذا قال : لله علي أن أعتكف يوما أنه يصح نذره و عليه أن يعتكف يوما واحدا بصوم و التعيين إليه فإذا أراد أن يؤدي يدخل المسجد قبل طلوع الفجر فيطلع الفجر و هو فيه فيعتكف يومه ذلك و يخرج منه بعد غروب الشمس لأن اليوم اسم لبياض النهار و هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فيجب أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر حتى يقع اعتكافه في جميع اليوم و إنما كان التعيين إليه لأنه لم يعين اليوم في النذر .
و لو قال : لله : علي أن أعتكف ليلة لم يصح و لم يلزمه شيء عندنا لأن الصوم شرط صحة الاعتكاف فالليل ليس بمحل للصوم و لم يوجد منه ما يوجب دخوله في الاعتكاف تبعا فالنذر لم يصادف محله .
و عند الشافعي : يصح لأن الصوم عنده ليس بشرط لصحة الاعتكاف .
و روي عن أبي يوسف : أنه إن نوى ليلة بيومها لزمه ذلك و لم يذكر محمد هذا التفصيل في الأصل فإما أن يوفق بين الروايتين فيحمل المذكور في الأصل على ما إذا لم تكن له نية و إما أن يكون في المسألة روايتان .
وجه ما روى عن أبي يوسف : اعتبار الفرد بالجمع و هو أن ذكر الليالي و هو أن ذكر الليالي بلفظ الجمع يكون ذكرا للأيام كذا ذكر الليلة الواحدة يكون ذكرا ليوم واحد و الجواب : أن هذا إثبات اللغة بالقياس و لا سبيل إليه فلو قال لله علي أن أعتكف ليلا و نهارا لزمه أن يعتكف ليلا و نهارا و إن لم يكن الليل محلا للصوم لأن الليل يدخل فيه تبعا و لا يشترط للتبع ما يشترط للأصل و لو نذر اعتكاف يوم قد أكل فيه لم يصح و لم يلزمه شيء لأن الاعتكاف الواجب لا يصح بدون الصوم و لا يصح الصوم في يوم قد أكل فيه لم يصح الصوم لم يصح الاعتكاف و لو قال : لله علي أن أعتكف يومين و لا نية له يلزمه اعتكاف يومين بليليتهما و تعيين ذلك إليه فإذا أراد أن يؤدي يدخل المسجد قبل غروب الشمس فيمكث تلك الليلة و يومها ثم الليلة الثانية و يومها إلى أن تغرب الشمس ثم يخرج من المسجد و هذا قول أبي حنيفة و محمد .
و قال أبي يوسف : الليلة الأولى لا تدخل في نذره و إنما تدخل الليلة المتخللة بين اليومين فعلى قوله يدخل قبل طلوع الفجر و روي عن ابن سماعة أن المستحب له أن يدخل قبل غروب الشمس و لو دخل قبل طلوع الفجر جاز .
وجه قوله : إن اليوم في الحقيقة اسم لبياض النهار إلا أن الليلة المتخللة تدخل لضرورة حصول التتابع و الدوام و لا ضرورة في دخول الليلة الأولى بخلاف ما إذا ذكر الأيام بلفظ الجمع حيث يدخل ما بإزائها من الليالي لأن الدخول هناك للعرف و العادة كقول الرجل كنا عند فلان ثلاثة أيام و يريد به ثلاثة أيام و ما بإزائها من الليالي و مثل هذا العرف لم يوجد في التثنية و لهما أن هذا العرف أيضا ثابت في التثنية كما في الجمع و يقول الرجل كنا عند فلان يومين و يريد يومين و ما بإزائها من الليالي .
و يلزمه الاعتكاف يومين متتابعين لكن تعيين اليومين إليه لأنه لم يعين في النذر و لو نوى يومين خاصة دون ليلتيهما صحت نيته و يلزمه اعتكاف يومين بغير ليلة لأنه نوى حقيقية كلامه و هو بالخيار إن شاء تابع و إن شاء فرق لأنه ليس في لفظه ما يدل على التتابع و اليومان متفرقان لتخلل الليلة بينهما فصار الاعتكاف ههنا كالصوم فيدخل في كل يوم المسجد قبل طلوع الفجر و يخرج منه بعد غروب الشمس و كذا لو قال لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك و لا نية له أنه يلزمه الأيام مع لياليهن و تعيينها إليه لكن يلزمه مراعاة صفة التتابع و إن نوى الأيام دون الليالي صحت نيته لما قلنا ويلزمه اعتكاف ثلاثة أيام بغير ليلة و له خيار التفريق لأن القربة تعلقت بالأيام و الأيام متفرقة فلا يلزمه التتابع إلا بالشرط كما في الصوم و يدخل كل يوم قبل طلوع الفجر إلى غروب الشمس ثم يخرج .
و لو قال : لله علي أن أعتكف ليلتين و لا نية له يلزمه اعتكاف ليلتين مع يوميها و كذلك لو قال ثلاث ليال أو أكثر من ذلك من الليالي و يلزمه متتابعا لكن التعيين إليه لما قلنا و يدخل المسجد قبل غروب الشمس و لو نوى حقيقية كلامه و لا يلزمه شيء لأن الليل ليس وقتا للصوم و الأصل في هذا أن الأيام إذا ذكرت بلفظ الجمع يدخل ما بإزائها من الليالي و كذا الليالي إذا ذكرت بلفظ الجمع يدخل ما بإزائها من الأيام لقوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام { ثلاثة أيام إلا رمزا } و قال D في موضع آخر { ثلاث ليال سويا } و القصة واحدة فلما عبر في موضع باسم الأيام و في موضع باسم الليالي دل أن المراد من كل واحد منهما هو و ما بإزاء صاحبه حتى إن في الموضع الذي لم تكن الأيام فيه على عدد الليالي أفرد كل واحد منهما بالذكر قال الله تعالى { سبع ليال و ثمانية أيام حسوما } و للآيتين حكم الجماعة ههنا لجريان العرف فيه كما في اسم الجمع على ما بيننا .
و لو قال لله علي ان أعتكف ثلاثين يوما و لا نية له فهو على الأيام و الليالي متتابعا إليه و لو قال نويت النهار دون الليل صحت نيته لأنه عنى به حقيقية كلامه دون ما نقل عنه بالعرف و العرف أيضا باستعمال هذه الحقيقة باق فيصح نيته ثم هو بالخيار إن شاء الله تابع و إن شاء فرق لأن اللفظ مطلق عن قيد التتابع و كذا ذات الأيام لا تقتضي التتابع لتخلل ما ليس بمحل للاعتكاف بين كل يومين و لو قال عنيت الليالي دون النهار لم يعمل بنيته و لزمه الليل و النهار لأنه لما نص على الأيام فإذا قال : نويت بها الليالي دون الأيام فقد نوى ما لا يحتمله كلامه فلا يقبل قوله .
و لو قال : لله علي أن أعتكف ثلاثين ليلة و قال عنيت به الليالي دون النهار لا يلزمه شيء لأنه عنى به حقيقية كلامه و الليالي في اللغة اسم للزمان الذي كانت الشمس فيه غائبة إلا أن عند الإطلاق تتناول ما بإزائها من الأيام بالعرف فإذا عني به حقيقة كلامه و العرف أيضا باستعمال هذه الحقيقة باق صحت نيته لمصادفتها محلها و لم قال لله علي أن أعتكف شهرا يلزمه عتكاف شهر أي كان متتابعا في النهار و الليالي جميعا سواء ذكر التتابع أو لا و تعيين ذلك الشهر إليه فيدخل المسجد قبل غروب الشمس فتعرب الشمس و هو فيه فيعتكف ثلاثين ليلة و ثلاثين يوما ثم يخرج بعد استكمالها بعد غروب الشمس بخلاف ما إذا قال لله علي أن أصوم شهرا و لم يعين و لم يذكر التتابع و لا نواه إنه لا يلزمه التتابع بل هو بالخيار إن شاء تابع و إن شاء فرق .
و هذا الذي ذكرنا من لزوم التتابع في هذه المسائل مذهب أصحابنا الثلاثة و قال زفر : لا يلزمه التتابع في شيء من ذلك إلا بذكر التتابع أو بالنية و هو بالخيار إن شاء تابع و إن شاء فرق .
وجه قوله : إن اللفظ مطلق عن قيد التتابع و لم ينو التتابع أيضا فيجري على إطلاقه كما في الصوم .
و لنا : الفرق بينهما و وجه الفرق أن الاعتكاف عبادة دائمة و مبناها على الاتصال لأنه لبث و إقامة و الليالي قابلة للبث فلا بد من التتابع و إن كان اللفظ مطلقا عن قيد التتابع لكن في لفظه ما يقتضيه و في ذاته ما يوجبه بخلاف ما إذا نذر أن يصوم شهرا و لزمه أن يصوم شهرا غير معين إنه عين شهرا له أن يفرق لأنه أوجب مطلقا عن قيد التتابع و ليس مبنى حصوله على التتابع بل على التفريق لأن بين كل عبادتين منه وقتا لايصلح لها و هو الليل فلم يوجد فيه قيد التتابع و لا اقتضاء لفظه و تعيينه فبقي له الخيار و لهذا لم يلزم التتابع فيما لم يتقيد بالتتابع من الصيام المذكور في الكتاب كذا هذا .
و لو نوى في قوله لله علي أن أعتكف شهرا النهار دون الليل لم تصح نيته و يلزمه الاعتكاف شهرا بالأيام و الليالي جميعا لأن الشهر اسم لزمان مقد بثلاثين يوما و ليلة مركب من شيئين مختلفين كل واحد منهما أصل في نفسه كالبلق فإذا أراد بالاسم ما لم يوضع له و لا احتمله فبطل كمن ذكر البلق و عني به البياض دون السواد فلم تصادف النية محلها فلغت .
و هذا بخلاف اسم الخاتم فإنه اسم للحلقة بطريق الأصالة و الفص كالتابع لها لأنه مركب فيها زينة لها فكان كالوصف لها فجاز أن يذكر الخاتم و يراد به الحلقة فأما ههنا فكل واحد من الزمانين أصل فلم ينطلق الاسم على أحدهما بخلاف ما إذا قال لله علي أن أصوم شهرا حيث انصرف إلى النهار دون الليالي لأن هناك أيضا لا نقول إن اسم الشهر تناول النهار دون الليالي لما ذكرنا من الاستحالة بل تناول النهار و اليالي جميعا فكان مضيفا النذر بالصوم إلى الليالي و النهار جميعا معا غير أن اليالي ليست محلا لإضافة النذر بالصوم إليها إن التصرف المصادف لمحله يصح و المصادف لغير محله يلغو .
فأما في الاعتكاف فكل واحد منهما محل و لو قال لله علي أن أعتكف شهرا النهار دون الليل يلزمه كما التزم و هو اعتكاف شهر بالأيام دون اليالي لأنه لما قال فقد لغا ذكر الشهر بنص كلامه كمن قال رأيت فرسا أبلق للبياض وجب منه دون السواد و كان هو بالخيار إن شاء تابع و إن شاء فرق لأنه تلفظ بالنهار و الأصل فيه أن كل اعتكاف وجب في الأيام دون الليالي فصاحبه فيه بالخيار إن شاء تابع و إن شاء فرق و كل اعتكاف وجب في الأيام و الليالي جميعا يلزمه اعتكاف شهر يصومه متتابعا .
و لو أوجب عل نفسه اعتكاف شهر بعينه بأن قال الله علي أن أعتكف رجب يلزمه ان يعتكف فيه يصومه متتابعا و إن أفطر يوما أو يومين فعليه قضاء ذلك و لا يلزمه قضاء ما يصلح اعتكافه فيه كما إذا أوجب على نفسه صوم رجب على ما ذكرنا في كتاب الصوم .
فإن لم يعتكف في رجب حتى مضى يلزمه اعتكاف شهر يصومه متتابعا لأنه لما مضى رجب من غير اعتكاف صار في ذمته اعتكاف شهر بغير فليزمه مراعاة صفة التتابع فيه كما إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر بغير عينه ابتداء بأن قال لله علي أن أعتكف رجبا فاعتكف شهر ربيع الآخر عن تعذره عند أبي يوسف و عند محمد رحمهما الله تعالى لا تجزئه و هو على الاختلاف في النذر بالصوم في شهر معين فصام قبله و تذكر المسألة في كتاب النذر إن شاء الله تعالى .
و لو قال : لله علي أن أعتكف شهر رمضان يصح نذره و يلزمه أن يعتكف في شهر رمضان كله لوجود الالتزام بالنذر فإن صام رمضان و اعتكف فيهى خرجح عن عهدة النذر لوجود شرط صحة الاعتكاف و هو الصوم و إن لم يكن لزومه بالتزامه الاعتكاف لأن ذلك ليس بشرط إنما الشرط وجوده معه كمن لزمه أداء الظهر و هو محدث يلزمه الطهارة و لو دخل وقت الظهر و هو على الطهارة يصح أداء الظهر بها لأن الشرط هو الطهارة و قد وجدت كذا هذا .
و لوصام رمضان كله و لم يعتكف يلزمه قضاء الاعتكاف بصوم آخر في شهر آخر متتابعا كذا ذكر محمد في الجامع و روي عن أبي يوسف أنه لا يلزمه الاعتكاف بل يسقط نذره .
وجه قوله : أن نذره انعقد غير موجب للصوم و قد تعذر إبقاؤه كما انعقد فتسقط لعدم الفائدة في البقاء .
وجه قول محمد C تعالى : أن النذر بالاعتكاف في رمضان قد صح و وجب عليه الاعتكاف فيه فإذا لم يؤد واجبا عليه كما إذا نذر باعتكاف في شهر آخر بعينه فلم يؤده حتى مضى الشهر و إذا بقي واجبا عليه و لا بقي واجبا عليه إلا بالوجوب شرط صحة أدائه وهو الصوم فيبقى واجبا عليه بشرط و هو الصوم .
و أما قوله : إن نذره ما انعقد موجبا للصوم في رمضان فنعم لكن جاز أن يبقى موجبا للصوم في غير رمضان و هذا لأن وجوب الصوم لضرورة التمكن من الأداء و لا يتمكن من الأداء في غيره إلا بالصوم فيجب عليه الصوم و يلزمه متتابعا لأنه لزمه الاعتكافى في شهر بعينه و قد فاته فيقضيه متتابعا كما إذا أوجب اعتكاف رجب فلم يعتكف فيه أنه يقضيه في شهر آخر متتابعا كذا هذا و لو لم يصم رمضان و لم يعتكف فيه فعليه اعتكاف شهر متتابعا بصوم و قضاء رمضان فإن قضى صوم الشهر متتابعا و قرن به الاعتكاف جاز و يسقط عنه قضاء رمضان و خرج عن عهدة النذر لأن الصوم الذي وجب فيه الاعتكاف باق فيقضيهما جميعا يصوم شهرا متتابعا .
و هذا لأن ذلك الصوم لما كان باقيا لا يستدعي لا يستدعي وجوب الاعتكاف فيها صوما آخر فبقي واجب الأداء بعين ذلك الصوم كما انعقد و لو صام و لم يعتكف حتى دخل رمضان القابل فاعتكف قاضيا لما فاته بصوم هذا الشهر لم يصح لما ذكرنا أن بقاء وجوب الاعتكاف يستدعي وجوب صوم يصير شرطا لأدائه فوجب في ذمته صوم على حدة و ما وجب في الذمة من الصوم لا يتأدى بصوم الشهر .
و لو نذر أن يعتكف يومي العيد و أيام التشريق فهو على الروايتين اللتين ذكرناهما في الصوم أن على رواية محمد عن أبي حنيفة يصح نذره لكن يقال له اقض في يوم آخر و يكفر اليمين إن كان أراد به اليمين و إن أعتكف فيها جاز و خرج عن عهدة النذر و كان مسيئا .
و على رواية أبي يوسف و ابن المبارك عن أبي حنيفة لا يصح نذره بالاعتكاف فيها أصلا كما لا يصح نذره بالصوم فيها و إنما كان كذلك لأن الصوم من لوازم الاعتكاف الواجب فكان الواجب في الاعتكاف كالجواب في الصوم و الله أعلم .
و أما الذي يرجع إلى المعتكف فيه فالمسجد و أنه شرط في نوعي الاعتكاف الواجب و التطوع لقوله تعالى : { و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد } و صفهم بكونهم عاكفين في المساجد مع أنهم لم يباشروا الجماع في المساجد لينهوا عن الجماع فيها فدل أن مكان الاعتكاف هو المسجد و يستوي فيه الاعتكاف الواجب و التطوع لأن النص مطلق ثم ذكر الكرخي أنه لا يصح الاعتكاف إلا في مساجد الجماعات يريد به الرجل و قال الطحاوي أنه يصح في كل مسجد .
و روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلا في مسجد تصلى في الصلوات كلها و اختلفت الرواية عن ابن مسعود Bه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام و مسجد المدينة و مسجد بيت المقدس كأنه ذهب في ذلك إلى ما روي عن النبي A أنه قال : [ لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ] و روى أنه قال : [ لا تشد الرحال إلا لثلاث مساجد المسجد الحرام و مسجدي هذا و المسجد الأقصى ] .
و في رواية [ و مسجد الأنبياء ] .
و لنا : عموم قوله تعالى : { و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد } و عن حذيفة Bه أنه قال : سمعت رسول الله A يقول : [ الاعتكاف في كل مسجد له إمام و مؤذن ] و المروى : [ أنه الاعتكاف إلا في المسجد الحرام ] إن ثبت فهو على التناسخ لأنه روى النبي A [ اعتكف في مسجد المدينة ] فصار منسوخا بدلالة فعله إذ فعل النبي A يصلح ناسخا لقوله أو يحمل على بيان الأفضل كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أو على المجاورة على قول من لا يكرهها .
و أما الحديث الآخر إن ثبت فيحمل على الزيادة أو على بيان الأفضل فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام ثم في المسجد المدينة و هو مسجد رسول الله A ثم في المسجد الأقصى ثم في المسجد الجامع في المساجد العظام التي كثر أهلها و عظم .
أما المسجد الحرام و مسجد رسول الله A فلما روي عن النبي A أنه قال [ صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد ما خلا المسجد الحرام ] و لأن المسجد الحرام من فضائل ماليس لغيره من كون الكعبة فيه ولزوم الطواف به ثم بعده مسجد المدينة لأنه مسجد أفضل الأنبياء و المرسلين صلى الله تعالى عليه و عليهم و سلم ثم مسجد بيت المقدس لأنه مسجد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و إجماع المسلمين على أنه ليس بعد المسجد الحرام و مسجد رسول الله A مسجد أفضل منه ثم المسجد الجامع لأنه مجمع المسلمين لإقامة الجمعة ثم بعده المساجد الكبار لأنها في معنى الجوامع لكثرة أهلها .
و أما المرأة فذكر في الأصل أنها لا تعتكف إلا في مسجد بيتها و لا تعتكف في مساجد جماعة .
و روى الحسن عن أبي حنيفة : أن للمرأة أن تعتكف في مسجد الجماعة و إن شاءت اعتكفت في مسجد بيتها و مسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها و مسجد حيها أفضل لها من المسجد الأعظم و هذا لا يوجب اختلاف الروايات بل يجوز اعتكافها في مسجد الجماعة علىالروايتين جميعا بلا خلاف بين أصحابنا و المذكور في ألاصل محمول على نفي الفضيلة لا على نفي الجواز توفيقا بين الروايتين و هذا عندنا .
و قال الشافعي : لا يجوز اعتكافها في مسجد بيتها .
وجه قوله : أن الاعتكاف قربة خصت بالمساجد بالنص و مسجد بيتها ليس بمسجد حقيقة بل هو اسم للمكان المعد للصلاة في حقها حتى لا يثبت له شيء من أحكام المسجد فلا يجوز إقامة هذه القربة فيه و نحن نقول بل هذه القربة خصت بالمسجد لكن مسجد بيتها له حكم المسجد في حقها في حق الاعتكاف لأن له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة لحاجتها إلى إحراز فضيلة الجماعة فأعطى له حكم مسجد الجماعة في حقها حتى كانت صلاتها في بيتها أفضل على ما روى عن رسول الله A أنه قال : [ صلاة المرأة في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في مسجد دارها و صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها ] و إذا كان له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة فكذلك في حق الاعتكاف لأن كل واحد منهما في الاختصاصه بالمسجد سواء و ليس لها أن تعتكف في بيتها في غير مسجد و هو الموضع المعد للصلاة لأنه ليس لغير ذلك الموضع من بيتها حكم المسجد فلا يجوز اعتكافها فيه و الله أعلم