فصل : و أما بيان ما يصير به محرما .
و أما بيان ما يصير به محرما فنقول و بالله التوفيق : لا خلاف في أنه إذا نوى و قرن النية بقول و فعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله أنه يصير محرما بأن لبى ناويا به الحج إن أراد به الإفراد بالحج أو العمرة إن أراد الإفراد بالعمرة أو العمرة و الحج إن أراد القران لأن التلبية من خصائص الإحرام و سواء تكلم بلسانه ما نوى بقلبه أولا لأن النية عمل القلب لا عمل اللسان لكن يستحب أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه فيقول : اللهم أني أريد فيسره لي و تقلبه مني لما ذكرنا في بيان سنن الحج و ذكرنما التلبية المسنونة .
و لو ذكر مكان التلبية التهليل أو التسبيح أو التحميد أو غير ذلك مما يقصد به تعظم الله تعالى مقرونا بالنية يصير محرما و هذا على أصل أبي حنيفة و محمد في باب الصلاة أنه يصير شرعا في الصلاة بكل ذكر و الصلاة و روي عنه أنه لا يصير محرما إلا بلفظ التلبية كما لا يصير شارعا في الصلاة إلا بلفظ التكبير فأبو حنيفة و محمد مرا على أصلهما أن الذكر الموضوع لافتتاح لا يختص بلفظ دون لفظ ففي باب الحج أولى : .
ووجه الفرق أبي يوسف على ظاهر الرواية عنه : أن باقب الحج أوسع من باب الصلاة فإن أفعال الصلاة لا يقوم بعضها مقام بعض و بعض الأفعال يقوم البعض كالهدي فغنه يقوم مقام كثير من أفعال الحج في حق المحصر .
و سواء كان بالعربية أو غيرها و هو يحسن العربية أو لا يحسنها و هذا على أصل أبي حنيفة و أبي يوسف في الصلاة ظاهر و هو ظاهر الرواية عن محمد في الحج و روي عنه أنه لا يصير محرما إلا إذا كان لا يحسن العربية كما في باب الصلاة فهما مرا على أصلهما و محمد على ظاهر الرواية عنه فرق بين الصلاة و الحج .
و وجه الفرق له : على نحو ما ذكرنا أبي يوسف في المسألة الأولى و تجوز النيابة في التلبية عند العجز بنفسه بأمره بلا خلاف حتى لو توجهى يريد الحجة الإسلام فأغمس عليه فلبى عنه أصحابه و قد كان أمرهم بذلك حتى لو عجز عنه بنفسه يجوز بالإجماع فإن لم يأمرهم بذلك نصا فأهلوا عنه جاز أيضا في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد لا يجوز فلا خلاف في أنه تجوز النيابة في أفعال الحج عند عجزه عنها بنفسه من الطواف و السعي و الوقوف حتى لو طيف به و سعي و وقف جاز بالإجماع .
وجه قولهما : قوله تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } و لم يوجد منه السعي في التلبية لأن فعل غيره لا يكون فعله حقيقة و إنما يجعل فعلا له تقديرا بأمره و لم يوجد بخلاف الطواف و نحوه فإن الفعل هناك ليس بشرط بل الشرط حصوله في ذلك الموضع على ما ذكرنا و قد حصل و الشرط ههنا هو التلبية و قول غيره لا يصير قولا له إلا بأمره و لم يوجد .
و أبي حنيفة : أن الأمر ههنا موجود دلالة و هي دلالة عقد المرافقة لأن كل واحد رفقائه المتوجهين إلى الكعبة يكون آذنا للآخر باعانته فيما يعجز عنه أمر الحج فكان الأمر موجودا دلالة و سعي الإنسان جاز أن يجعل سعيا لغيره بأمره فقلنا بموجب الآية بحمد الله تعالى .
و لو قلد بدنة يريد به الإحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما توجه معها يصير محرما لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا الهدي و لا القلائد } ثم ذكر تعالى بعده : { و إذا حللتم فاصطادوا } و الحل يكون بعد الإحرام و لم يذكر الإحرام في الأول و إنما ذكر التقليد بقوله D { و لا القلائد } فدل أن التلقيد منهم مع التوجه كان إحراما إلا أنه زيد عليه النية بدليل آخر .
وعن جماعة من الصحابة Bهم منهم علي و ابن مسعود و ابن عمر و جابر Bهم أنهم قالوا : إذا قلد أحرم و كذا روي عن ابن عباس Bهما أنه قال : إذا قلد و هو يريد الحج أو العمرة فقد أحرم و لأن التقليد مع التوجه من خصائص الإحرام فالنية اقترنتى بما هو من خصائص الإحرام فأشبه التلبية .
فإن قيل أليس [ أنه روي عن عائشة Bها أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل و لبى ] فهذا يقتضي أنه لا يصير محرما بالتقليد .
فالجواب : أن ذلك محمول على ما إذا قلد و لم يخرج معها توفيقا بين الدلائل و به نقول إن بمجرد التقليد لا يصير محرما ما روي عن عائشة Bها أنها قالت : [ كان رسول الله A ثيبعث بهديه و يقيم فلا يحرم عليه شيء ] و التقليد : هو تعليق على عنق البدنة من عروة مزادة أو شراك نعل من أدم أو غير ذلك من الجلود و إن قلد و لم يتوجه على يد غيره و لم يصر محرما و إن بعث على يد غيره فكذلك عند عامة العلماء و عامة الصحابة Bهم .
و عن ابن عباس Bه أنه يصير محرما بنفس التوجه من غير توجه قول عامة العلماء لما روي عن عائشة Bها أنها قالت : [ إني كنت لأفتل قلائد بدن رسول الله A فيبعثها و يمكث عندنا حلالا بالمدينة لا يجتنب ما يجتنبه المحرم ] و لأن التوجيه من غير توجه ليس إلا أمر بالفعل فلا يصير به محرما كما لو أمر غيره بالتلبية .
و لو توجه بنفسه بعدما قلد و بعث لا يصير محرما ما لم يلحقها و يتوجه معها فإذا لحقها و توجه معها عند ذلك يصير محرما إلا في هدي المتعة فإن هناك يصير محرما بنفس التوجه قبل أن يلحقه .
و القياس : أن لا يصير محرما ثم أيضا ما لم يلحق و يتوجه معه لأن السير بنفسه بدون البدنة ليس من خصائص الإحرام و لا دليل أنه يريد الإحرام فلا يصير به محرما إلا أنا تركنا القياس و استحسنا في هدي المتعة لم أن للهدي فضل تأثير في البقاء على الإحرام ما ليس لغيره بدليل أنه لو ساق الهدي لا يجوز له أن يتحلل و إن لم يسق جاز له التحلل فإذا له فضل تأثير في البقاء على الإحرام جاز أن يكون له تأثير في الابتداء و قد قالوا إنه يصير محرما بنفس التوجه في أثر هدي المتعة و إن لم يلحق الهدي إذا كان في أشهر الحج فأما في غير أشهر الحج فلا يصير محرما حتى يلحق الهدي لأن أحكام الهدي المتمتع لا تثبت قبل أشهر الحج فلا يصير هذا الهدي للمتعة قبل أشهر الحج فكان هدي التطوع .
و لوجلل البدنة لا يصير محرما و إن توجه معها لأن التجليل ليس من خصائص الحج لأنه إنما يفعل ذلك لدفع الحروالبرد عن البدنة أو للتزيين و لو قلد الشاة ينوي به الحج و توجه معها لا يصير محرما و إن نوى الإحرام لأن تقليد الغنم ليس بسنة عندنا فلم يكن من دلائل الإحرام فضلا عن أن يكون من خصائصه و الدليل على أن الغنم لا تقلد قوله تعالى : { و لا الهدي و لا القلائد } عطف القلائد على الهدي و العطف يقتضي المغايرة في الأصل و اسم الهدى يقع علىالغنم و الإبل و البقر جميعا فهذا يدل على أن الهدي نوعان : ما يقلد ثم الإبل و البقر يقلدان بالإجماع فتعين أن الغنم لا تقلد ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح .
و لو أشعر بدنته و توجه معها لا يصير محرما لأن الإشعار مكروه أبي حنيفة لأنه مثله و إيلام الحيوان من غير ضرورة لحصول المقصود بالتقليد و هو الإعلام يكون المشعر هدايا لئلا يتعرض له لو ضل و الإتيان بفعل مكروه لا يصلح دليل الإحرام .
و اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة و محمد قال بعضهم : إن أشعر و توجه معها يصير محرما عندهما لأن الإشعار سنة عندهما كالتقليد فيصلح أن يكون دليل الإحرام كالتقليد .
و قال بعضهم : لا يصير محرما عندهما أيضا لأن الإشعار ليس بسنة عندهما بل هو مباح فلم يكن قربة فلا يصلح دليل الإحرام .
و ذكر في الجامع الصغير أن الإشعار عندهما حسن و لم يسمع لأنه من حيث أنه إكمال لما شرع له التقليد و هو إعلام المقلد أنه هدي لما أن تمام الإعلام تحصل به سنة و من حيث أنه مثلة بدعة فتردد بين السنة و البدعة فسماه حسنا .
و عند الشافعي : الإشعار سنة و احتج بما روي أن رسول الله A أشعر و الجواب أن ذلك كان في الابتداء حين كانت المثلة مشروعة ثم لما نهى عن المثلة انتسخ بنسخ المثلة و ذلك أن النبي A فعل ذلك قطعا لأيدي المشركين عن التعرض للهدايا أو ضلت لأنهم كانوا ما يتعرضون للهدايا و التقليد ما كان يدل دلالة تامة أنها هدي فكان يحتاج إلى الأشعار ليعملوا أنها هدي فكان يحتاج إلى الأشعار ليعلموا أنها هدي و قد زال هذا المعنى في زماننا فانتسخ بانتساخ المثلة .
ثم الإشعار : هو الطعن في أسفل السنام و ذلك من قبل اليسار عند أبي يوسف و عند الشافعي : من قبل اليمين : و كل ذلك [ مروي عن النبي A فإنه كان يدخل بين بعيرين من قبل الرؤس و كان يضرب أولا الذي عن يساره من قبل يسار سنامه ثم يعطف على الآخر فيضربهن من قبل يمينه ] أتفاقا للأول لا قصدا فصار الطعن على الجانب الأيسر أصليا و الآخر أتفاقيا بل الاعتبار الأصلي أولى و الله D أعلم .
هذا الذي ذكرنا في أن الإحرام لا يثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول أو فعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله ظاهر مذهب أصحابنا .
و روي عن أبي يوسف : أنه يصير محرما بمجرد النية و به أخذ الشافعي و هذا يناقض قوله إن الإحرام ركن لأنه جعل نية الأحرام إحراما و النية ليست بركن بل هي شرط لأنها عزم على الفعل و العزم على فعل ليس ذلك الفعل بل هو عقد أدائه و هو أن تعقد قلبك عليه انك فاعله لا محالة قال الله تعالى : { فإذا عزم الأمر } أي جد الأمر و في الحديث خير الأمور عوازمها أي ما وكت رأيك عليه و قطعت التردد عنه و كونه من أفعال الحج فكان تناقضا .
ثم جعل الإحرام عبارة عن مجرد النية مخالفة للغة فإن الإحرام في اللغة هو الإهلال يقال أحرم أي أهل بالحج و هو موافق لمذهبنا أي الإهلال لا بد منه إما بنفسه أو بما يقوم مقامه على ما بيننا و الدليل أن الإهلال شرط ما روي [ عن رسول الله A أنه قال لعائشة Bها و قد رآها حزينة : مالك فقالت أنا قضيت عمرتي و ألقاني الحج عاركا فقال النبي A : ذاك شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم حجي و قولي مثل ما يقول الناس في حجهم ] فدل قوله قولي ما يقول الناس في حجهم على لزوم التلبية لأن الناس يقولونها و فيه إشارة إلى أن إجماع المسلمين حجة يجب اتباعها حيث أمرها باتباعهم بقوله قولي ما يقول الناس في حجهم .
و روينا عن عائشة Bها أنها قالت : [ لا يحرم إلا من أهل و لبى ] و لم يرو عن غيرها خلافه فيكون إجماعا و لأن مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع عرفنا ذلك بالنص و المعقول .
أما النص : ما روي عن النبي A أنه قال : [ إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا او يفعلوا ] .
و أما المعقول فهو : أن النية وضعت لتعيين جهة الفعل في البعادة و تعيين المعدوم محال .
و لو أحرم بالحج و لم يعين حجة الإسلام و عليه حجة الإسلام يقع عن حجة الإسلام استحسانا .
و القياس : أن لا يقع عن حجة الإسلام إلا بتعيين النية .
وجه القياس : أن الوقت يقبل الفرض و النفل فلا بد من التعيين بالنية بخلاف الصوم رمضان أنه يتادى بمطلق النية لأن الوقت هناك لا يقبل صوما آخر فلا حاجة إلى التعيين بالنية و الاستحسان أن الظاهر من حال بمطلق النية لأن الوقت هناك لا يقبل صوما آخر فلا حاجة إلى التعيين بالنية و الاستحسان أن الظاهر من حال من عليه حجة الإسلام أنه لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع و يبقى نفسه في عهده الفرض على حجة الإسلام بدلالة حاله فكان الإطلاق فيه تعيينا كما في صوم رمضان .
و لو نوى التطوع يقع عن التطوع لأنا أنما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النية بدلالة حاله و الدلالة لا تعمل مع النص بخلافه و لو لبى ينوي الإحرام و لا النية له في حج و لا عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا فإن طاف شوطا كان إحرامه عن العمرة .
و الأصل في انعقاد الإحرام بالمجهول ما روي أن عليا و أبا موسى الأعشري Bهما لما قدما من اليمن في حجة الوداع قال لهما النبي A [ بماذا أهللتما فقالا : بإهلال كإهلال رسول الله A ] فصار هذا أصلا في انعقاد الإحرام بالمجهول و لأن الإحرام شرط جواز الأداء عندنا و ليس بأداء بل هو عقد على الأداء فجاز أن ينعقد مجملا و يقف على البيان .
و إذا انعقد إحرامه جاز له ظان يؤدي به حجة أو عمرة و له الخيار في ذلك يصلارفه إلى أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا واحدا فإذا طاف بالبيت شوطا واحدا كان إحرامه للعمرة لأن الطواف ركن في العمرة و طواف اللقاء في الحج ليس بركن بل هو سنة فإيقاعه عن الركن أولى و تتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده قال الحاكم في الأصل : و كذلك لو لم يطف حتى جامع أو أحصر كانت عمرة لأن القضاء قد لزمه فيجب عليه الأقل إذا الأقل متيقين به و هو العمرة و الله تعالى أعلم