بيان من نذر أن يحج .
و لو قال : لله علي إحرام أو قال : علي إحرام صح و عليه حجة أو عمرة و التعيين إليه و كذا إذا ذكر لفظا يدل على التزام الإحرام بأن قال : لله علي المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة جاز و عليه حجة أو عمرة .
و لو قال : إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يصح و لا يلزمه شيء في قول أبي حنيفة و عندهما : يصح و يلزمه حجة أو عمرة .
و لو قال : إلى الصفا والمروة لا يصح في قولهم جميعا و لو قال : علي الذهاب إلى بيت الله أو الخروج أو السفر أو الإتيان لا يصح في قولهم و دلائل هذه المسائل تذكر إن شاء الله تعالى في كتاب النذر فإنه كتاب مفرد و إنما نذكر ههنا بعض ما يختص بالحج فإن قال : لله هدي أو علي هدي فله الخيار إن شاء ذبح شاة و إن شاء نحر جزورا و إن شاء ذبح بقرة لأن اسم الهدي يقع على كل واحد من الأشياء الثلاثة لقوله : { فما استيسر من الهدي } قيل في التفسير أن المراد منه الشاة و إذا كانت الشاة ما استيسر من الهدي فلا بد و أن يكون من الهدي ما لا يكون مستيسرا و هو الإبل و البقر .
و قد روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لما سئل عن الهدي [ أدناه شاة ] و إذا كانت الشاة أدنى الهدي كان أعلاه الإبل و البقر ضرورة و قد روي عن علي Bه أنه قال : الهدي من ثلاثة و البدنة من اثنين و لأن مأخذ الاسم دليل عليه لأن الهدي اسم لما يهدي أي ينقل و يحول و هذا المعنى يوجد في الغنم كما يوجد في الإبل و البقر و يجوز سبع البدنة عن الشاة لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ البدنة تجزي عن سبعة و البقرة تجزي عن سبعة ] و لو قال : لله علي بدنة فإن شاء نحر جزورا و إن شاء ذبح بقرة عندنا و قال الشافعي : لا يجوز إلا الجزور .
وجه قوله : إن البدنة في اللغة اسم للجمل و الدليل عليه قوله تعالى : { و البدن جعلناها لكم من شعائر الله } ثم فسرها بالإبل بقوله عز و جل : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } أي قائمة مصطفة و الإبل هي التي تنحر كذلك فأما البقر فإنها تذبح مضجعة و روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ البدنة تجزي عن سبعة و البقرة تجزي عن سبعة ] حتى قال جابر : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم البدنة عن سبعة و البقرة عن سبعة ميز بين البدنة و البقرة فدل أنهما غيران .
و لنا : ما روينا عن علي Bه أنه قال : الهدي من ثلاثة و البدنة من اثنين و هذا نص .
و عن ابن عباس Bه أنه رجلا سأله و قال : إن رجلا صاحبا لنا أوجب على نفسه بدنة أفتجزيه البقرة فقال له ابن عباس Bه : مم صاحبكم ؟ قال من بني رباح : فقال متى اقتنت بنو رباح البقر إنما البقر للأزد و إنما وهم صاحبكم الإبل و لو لم يقع اسم البدنة على البقر لم يكن لسؤاله معنى و لما سأله فقد أوقع الاسم على الإبل و البقر لكن أوجب على الناذر الإبل لإرادته ذلك ظاهرا و لأن البدنة مأخوذة من البدانة و هي الضخامة و أنها توجد فيهما و لهذا استويا في الجواز عن سبعة و لا حجة له في الآية لأن فيها جواز إطلاق اسم البدنة على الإبل و نحن لا ننكر ذلك .
و أما قوله إنه وقع التمييز بين البدنة و البقرة في الحديث فممنوع لأنه ذكر البقرة ما خرج على التمييز بل على التأكيد كما في قوله عز و جل : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم } و كما في قول القائل : جاني أهل القرية كذا فلان و فلان على أن ظاهر العطف أن أول على التغيير و التسوية بينهما في جواز كل واحد منهما عن سبعة يدل على الاتحاد في المعنى و لا حجة مع التعارض .
و لو قال : لله علي جزور فعليه أن ينحر بعيرا لأن اسم الجزور لا يقع إلا على الإبل و يجوز إيجاب الهدي مطلقا و معلقا بشرط بأن يقول : إن فعلت كذا فلله علي الهدي .
و لو قال هذه الشاة هدي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام أو إلى الصفا و المروة فالجواب فيه كالجواب في قوله علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى كذا و كذا على الاتفاق و الاختلاف و لو وجب على نفسه أن يهدي مالا بعينه من الثياب و غيرها مما سوى النعم جاز و عليه أن يتصدق به أو بقيمته .
و الأفضل أن يتصدق على فقراء مكة و لو تصدق بالكوفة جاز و أما في النعم من الإبل و البقر و الغنم فلا يجوز ذبحه إلا في الحرم فيذبح في الحرم و يتصدق بلحمه على فقراء مكة هو الأفضل و لو تصدق على غير فقراء مكة جاز كذا ذكر في الأصل و إنما كان كذلك لأن معنى القربة في الثياب في عينها و هو التصدق بها و الصدقة لا تختص بمكان كسائر الصدقات فأما معنى القربة في الهدي من النعم في الإراقة شرعا و الإراقة لم تعرف قربة في الشرع إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص و الشرع أوجب الإراقة ههنا في الحرم بقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } حتى إذا ذبح الهدي جاز له أن يتصدق بلحمه على فقراء غير أهل مكة لأنه لما صار لحما معنى القربة فيه في الصدقة كسائر الأموال و لو جعل شاة هديا أجزأه أن يهدي قيمتها في رواية أبي سليمان و في رواية أبي حفص لا يجوز .
وجه رواية أبي سليمان : اعتبار البدنة بالأمر ثم فيما أمر الله تعالى من إخراج الزكاة من الغنم يجوز إخراج القيمة فيه و كذا النذور وجه رواية أبي حفص : أن القرية تعلقت بشيئين إراقة الدم و التصدق باللحم و لا يوجد في القيمة إلا أحدهما و هو التصدق و يجوز ذبح الهدايا في موضع شاء من الحرم و لا يختص بمنى و من الناس من قال : لا يجوز إلا بمنى .
و الصحيح قولنا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ منى كلها منحر و فجاج مكة كلها منحر ] .
و عن ابن عمر Bه أنه قال الحرم كله منحر و قد ذكرنا أن المراد من قوله عز و جل : { ثم محلها إلى البيت العتيق } الحرم .
و أما البدنة إذا أوجبها بالنذر فإنه ينحرها حيث شاء إلا إذا نوى أن ينحر بمكة فلا يجوز نرحها إلا بمكة و هذا قول أبي حنيفة و محمد .
و قال أبو يوسف : أرى أن ينحر البدن بمكة لقوله عز و جل : { ثم محلها إلى البيت العتيق } الحرم .
و لهما : أنه ليس في لفظ البدنة ما يدل على امتياز المكان لأنه مأخوذ من البدانة و هي الضخامة يقال : بدن الرجل أي ضخم و قد قيل : في بعض وجوه التأويل لقوله تعالى : { ذلك و من يعظم شعائر الله } و أن تعظيمها استسمانها و لو أوجب جزأ فهو من الإبل خاصة و يجوز أن ينحر في الحرم و غيره و يتصدق بلحمه و يجوز ذبح الهدايا قبل أيام النحر .
و الجملة فيه : أن دم النذر و الكفارة و هدي التطوع يجوز قبل أيام النحر و لا يجوز دم المتعة و القران و الأضحية و يجوز دم الإحصار في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد لا يجوز و أدنى السن الذي يجوز في الهدايا ما يجوز في الضحايا و هو الثني من الإبل و البقر و المعز و الجذع من الضأن إذا كان عظيما و بيان ما يجوز في ذلك و ما لا يجوز من بيان شرائط .
الجواز موضعه كتاب الأضحية و لا يحل الانتفاع بظهرها وصوفها و لبنها إلا في حال الاضطرار لقوله تعالى : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق } قيل في بعض وجوه التأويل : لكم فيها منافع من ظهورها و أبانها و أصوافها إلى أجل مسمى أي إلى أن تقلد و تهدي ثم محلها إلى البيت العتيق أي ثم محلها إذا قلدت واهديت إلى البيت العتيق لأنها ما لم تبلغ محلها فالقربة فيها بالإرادة .
فإن قيل : روى أن رجلا كان يسوق بدنة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ اركبها ويحك ] فقال : إنها بدنة يا رسول الله فقال : [ اركبها ويحك ] و قيل كلمة ترحم ويلك كلمة تهدد فقد أباح رسول الله صلى الله عليه و سلم ركوب الهدي و الجواب أنه روي أن الرجل كان قد أجهده السير فرخص له النبي صلى الله عليه و سلم و عندنا يجوز الانتفاع بها في مثل تلك الحالة يبدل لأنه لا يجوز الانتفاع بملك الغير في حالة الضطرار ببدل و كذا في الهدايا إذا ركبها و حمل عليها للضرورة يضم ما نقصها الحمل و الركوب و ينضج ضرعها لأنه إذا لم يجز له الانتفاع بلبنها يؤذيها فينضج بالماء حتى يتقلص و يرقى لبنها و ما حلب قبل ذلك يتصدق به إن كان قائما و إن كان مستهلكا يتصدق بقيمته لأن اللبن جزء من أجزائها فيجب صرفه إلى القربة كما لو و لدت و لدا أنها تذبح و لدها كذا هذا .
فإن عطب الهدي في الطريق قبل أن يبلغ محله فإن كان و اجبا نحره و هو لصاحبه يصنع به ماشاه و عليه هدي مكانه و إن كان تطوعا نحره و غمس نعله بدمه ثم ضرب صفحة سنامة و خلي بينه و بين الناس يأكلونه و لا يأكل هو بنفسه و لا يطعم أحدا من الأغنياء .
و الفرق بين الواجب و التطوع أنه إذا كان و اجبا فالمقصود منه إسقاط الواجب فإذا انصرف من تلك الجهة كان له أن يفعل به ماشاء و عليه هدي آخر مكانه لأن الأول لما لم يقع عن الواجب التحق بالعدم فبقي الواجب في ذمته بخلاف التطوع و لأن القربة قد تعينت فيه و ليس عليه غير ذلك و إنما قلنا أنه ينحره و يفعل به ما ذكرنا لما ذكرنا و لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه : [ بعث هديا على يد ناجية بن جندب الأسلمي فقال : يا رسول الله إن أزحف منها أي قامت من الأعياء ] و في رواية قال : ما أفعل بما يقوم علي فقال النبي A : [ انحرها و اصبغ نعلها بدمها ثم اضرب به صفحة سنامها و خل بينها و بين الفقراء و لا تأكل منها أنت و لا أحد من رفقتك ] و إنما لا يحل له أن يأكل منها و له أن يطعم الأغنياء لأن القربة كانت في ذبحه إذا بلغ محله فإذا لم يبلغ كانت القربة في التصدق و لا يجب عليه مكانه آخر لأنه لم يكن واجبا عليه و يتصدق بجلالها و خطامها لما روي عن النبي A أنه قال لعلي Bه : [ تصدق بجلالها و خطامها و لا تعط الجزار منها شيئا ] و لا يجوز له أن يأكل من دم النذر شيئا .
و جملة الكلام فيه أن الدماء نوعان نوع يجوز لصاحب الدم أن يأكل منه و هو دم المتعة و القران و الأضحية و هدي التطوع إذا بلغ محله و نوع لا يجوز له أن يأكل منه و هو دم النذر و الكفارات و هدي الإحصار و هدي التطوع إذا لم يبلغ محله لأن الدم في النوع الأول دم شكر فكان نسكا فكان له أن يأكل منه و دم النذر دم صدقة .
و كذا دم الكفارة في معناه لأنه وجب تكفيرا لذنب .
و كذا دم الإحصار لوجود التحلل و الخروج من الإحرام قبل أوانه و هدي التطوع إذا لم يبلغ محله بمعنى القربة في التصدق به فكان دم صدقة و كل دم يجوز له أن يأكل منه لا يجب عليه التصدق بلحمه بعد الذبح لأنه لو وجب عليه التصدق به لما جاز فيه من إبطال حق الفقراء و كل ما لا يجوز له أن يأكل منه يجب عليه التصدق به بعد الذبح لأنه إذا لم يجز له أكله و لا يتصدق به يؤدي إلى إضاعة المال .
و كذا لو هلك المذبوح بعد الذبح لا ضمان عليه في النوعين لأنه لا صنع له في الهلاك و إن استهلكه بعد الذبح فإن كان مما يجب عليه التصدق به يضمن قيمته فيتصدق بها لأنه تعلق به حق الفقراء فبالاستهلاك تعدى على حقهم فيضمن قيمته و يتصدق بها لأنها بدل أصل مال واجب التصدق به و إن كان مما لا يجب التصدق به لا يضمن شيئا لأنه لم يوجد منه التعدي بإتلاف حق الفقراء لعدم تعلق حقهم به .
و لو باع اللحم يجوز بيعه في النوعين جميعا لأنه ملكه قائم إلا أن فيما لا يجوز له أكله و يجب عليه التصدق به يتصدق بثمنه لأن ثمنه مبيع واجب التصدق به لتعلق حق الفقراء به فيتمكن في ثمنه حنث فكان سبيله التصدق به و الله تعالى أعلم