بيان صفة النكاح المشروع .
و قال الشافعي : إنه مباح كالبيع و الشراء .
و اختلف أصحابنا فيه : قال بعضهم إنه مندوب و مستحب و إليه ذهب من أصحابنا الكرخي .
و قال بعضهم : إنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين بمنزلة الجهاد و صلاة الجنازة .
و قال بعضهم : إنه واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في كيفية الوجوب .
قال بعضهم : إنه واجب على سبيل الكفاية كرد السلام .
و قال بعضهم : إنه واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين كصدقة الفطر و الأضحية و الوتر .
احتج أصحاب الظواهر بظواهر النصوص من نحو قوله D : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } .
و قوله D : { و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم } .
و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تزوجوا و لا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن ] .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ] أمر الله D بالنكاح مطلقا و الأمر المطلق للفرضية و الوجوب قطعا إلا أن يقوم الدليل بخلافه و لأن الامتناع من الزنا واجب و لا يتوصل إليه إلا بالنكاح و ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا .
واحتج الشافعي بقوله تعالى : { و أحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } أخبر عن إحلال النكاح و المحلل و المباح من الأسماء المترادفة و لأنه قال : { و أحل لكم } و لفظ : { لكم } يستعمل في المباحات و لأن النكاح سبب يتوصل به إلى القضاء الشهوة فيكون مباحا كشراء الجارية للتسري بها و هذا لأن قضاء الشهوة إيصال النفع إلى نفسه و ليس يجب على الإنسان إيصال النفع إلى نفسه بل هو مباح في الأصل كالأكل و الشرب و إذا كان مباحا لا يكون واجبا لما بينهما من التنافي و الدليل على أن النكاح ليس بواحب قوله تعالى : { و سيدا و حصورا و نبيا من الصالحين } و هذا خرج مخرج المدح ليحيى عليه الصلاة و السلام بكونه حصورا و الحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة و لو كان واجبا لما استحق المدح بتركه لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح .
و احتج من قال من أصحابنا أنه مندوب إليه و مستحب بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من استطاع منكم الباءة فليتزوج و من لم يستطع فليصم ] فإنة الصوم له وجاء أقام الصوم مقام النكاح و الصوم ليس بواجب فدل أن النكاح ليس بواجب أيضا لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب و لأن في الصحابة Bهم من لم تكن له زوجة و رسول الله صلى الله عليه و سلم علم منه بذلك و لم ينكر عليه فدل أنه ليس بواجب .
و من قال منهم : إنه فرض أو واجب على سبيل الكفاية احتج بالأوامر الواردة في باب النكاح و الأمر المطلق للفرضية و الوجوب قطعا و النكاح لا يحتمل ذلك على طريق التعيين لأن كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم فيحمل على الفرضية و الوجوب على طريق الكفاية فأشبه الجهاد و صلاة الجنازة ورد الإسلام .
و من قال منهم : إنه واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق اللتعيين يقول صيغة الأمر المطلقة عن القرينة تحتمل الفرضية و تحتمل الندب لأن الأمر دعاء و طلب و معنى الدعاء و الطلب موجود في كل واحد منها فيؤتي بالفعل لا محالة و هو تفسير وجوب العمل ويعتقد على الإبهام على أن ما أراد الله تعالى بالصيغة من الوجوب القطعي أو الندب فهو حق لأنه إن كان واجبا عند الله فخرج عن العهدة بالفعل فيأمن الضرر و إن كان مندوبا يحصل له الثواب فكان القول بالوجوب على هذا الوجه أخذا بالثقة و الاحتياط و احترازا عن الضرر بالقدر الممكن و أنه واجب شرعا و عقلا .
و على هذا الأصل بنى أصحابنا من قال منهم : إن النكاح فرض أو واجب لأن الاشتغال به مع أداء الفرائض و السنن أولى من التخلي لنوافل العبادات مع ترك النكاح و هو قول أصحاب الظواهر لأن الاشتغال بالفرض و الواجب كيف ما كان أوفى من الاشتغال بالتطوع .
و من قال منهم : إنه مندوب و مستحب فإنه يرجحه على النوافل من وجوه أخر .
: .
أحدها : أنه سنة قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ النكاح سنتي ] و السنن مقدمة على النوافل بالإجماع و لأنه أوعد على ترك السنة بقوله : [ فمن رغب عن سنتي فليس مني ] و لا وعيد على ترك النوافل .
و الثاني : أنه فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم و واظب عليه أي دوام وثبت عليه بحيث لم يخل عنه بل كان يزيد عليهلا حتى تزوج عددا مما أبيح له من النساء و لو كان التخلي للنوافل أفضل لما فعل لأن الظاهر أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام لا يتركون الأفضل فيما له حد معلوم لأن ترك الأفضل فيما له حد معلوم عد زلة منهم و إذا ثبت أفضلية النكاح في حق النبي صلى الله عليه و سلم ثبت في حق الأمة لأن الأصل في الشرائع هو العموم و الخصوص بدليل .
و الثالث : أنه سبب يتوصل به إلى المقصود هو مفضل على النوافل لأنه سبب لصيانة النفس عن الفاحشة و سبب لصيانة نفسها عن الهلاك بالنفقة و السكنى و اللباس لعجزها عن الكسب و سبب لحصول الولد الموحد و كل واحد من هذه المقاصد مفضل على النوافل فكذا السبب الموصل إليه كالجهاد و القضاء و عند الشافعي : التخلي أولى و تخريج المسألة على أصله ظاهر لأن النوافل مندوب إليها فكانت مقدمة على المباح و ما ذكره من دلائل الإباحة و الحل فنحن نقول بموجبها إن النكاح مباح و حلال في نفسه لكنه واجب لغيره أو مندوب و مستحب لغيره من حيث أنه صيانة للنفس من الزنا و نحو ذلك على ما بيننا و يجوز أن يكون الفعل الواحد حلالا بجهة واحبا أو مندوبا إليه بجهة إذ لا تنافي عند اختلاف الجهتين و أما قوله D : { و سيدا و حصورا و نبيا من الصالحين } فاحتمل أن التخلي النوافل كان أفضل من النكاح في شريعته ثم نسخ ذلك في شريعتنا بما ذكرنا من الدلائل و الله أعلم