بيان صيغة اللفظ الذي ينعقد به النكاح .
و أما بيان صيغة اللفظ الذي ينعقد به النكاح فنقول : لا خلاف في أن النكاح ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي كقوله : زوجت و تزوجت و ما يجري مجراه و إما بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي و بالآخر عن المستقبل كما إذا قال لرجل زوجني بنتك أو قال : جئتك خاطبا ابنتك أو قال : جئتك لتزوجني بنتك فقال الأب : قد زوجتك أو قال لامرأة : أتزوجك على ألف درهم فقالت : قد تزوجك على ذلك أو قال لها : زوجيني أو انكحيني نفسك فقالت : زوجتك أو أنكحت ينعقد استحسانا .
و القياس : أن لا ينعقد لأن لفظ الاستقبال عدة و الأمر من فروع الاستقبال فلم يوجد الاستقبال فلم يوجد الإيجاب إلا أنهم تركوا القياس لما روي أن بدلا Bه إلى قوم من الأنصار فأبوا أن يزوجوه فقال : [ لولا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني أن أخطب إليكم لما خطبت فقالوا له : ملكت ] و لم ينقل أن بلالا أعاد القول و لو فعل لنقل و لأن الظاهر أنه أراد الإيجاب لأن المساومة لا تتحقق في النكاح عادة فكان محمولا على الإيجاب بخلاف البيع فإن السوم معتاد فيه فيحمل اللفظ عليه فلا بد من لفظ آخر يتأدى به الإيجاب و الله الموفق .
و أما بيان أن النكاح هل ينعقد بعاقد واحد ؟ أو لا ينعقد إلا بعاقدين ؟ .
فقد اختلف في هذا الفصل قال أصحابنا : ينعقد بعاقد واحد إذا كانت له ولاية من الجانبين سواء كانت ولايته أصلية كالولاية بالملك و القرابة أو دخلية كالولاية الثابتة بالوكالة بأن كان العاقد مالكا من الجانبين كالمولى إذا زوج أمته من عبده أو كان واليا من الجانبين كالجد إذا زوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة و الأخ إذا زوج بنت أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير أو كان أصيلا و وليا كابن العم إذا زوج بنت عمه من نفسه أو كان وليا من جانب و وكيلا من جانب آخر أو وكلت امرأة رجلا ليتزوجها من نفسه أو وكل رجل امراة لتزوج نفسها منه و هذا مذهب أصحابنا الثلاثة .
و قال زفر : لا ينعقد النكاح بعاقد واحد أصلا .
و قال الشافعي : لا ينعقد إلا إذا كان وليا من الجانبين و لقب المسألة أن الواحد هل يجوز أن يقوم بالنكاح من الجانبين أم لا ؟ .
وجه قول زفر و الشافعي : أن ركن النكاح اسم لشطرين مختلفين و هو الإيجاب و القبول فلا يقومان إلا بعاقدين كشطري البيع إلا أن الشافعي يقول في الولي ضرورة لأن النكاح لا ينعقد بلا ولي فإذا كان الولي فإذا كان الولي متعينا فلو لم يجز نكاح المولية لا متنع نكاحها أصلا و هذا لا يجوز و هذه الضرورة منعدمة في الوكيل و نحوه .
و لنا قوله تعالى : { و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون أن تنكحوهن } قيل نزلت هذه الآية في يتيمة في حجر و ليها و هي ذات مال .
و وجه الاستدلال بالآية الكريمة : أن قوله تعالى : { لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون أن تنكحوهن } خرج مخرج العتاب فيدل على أن الولي يقوم بنكاح وليته وحده إذ لو لم يقم وحده به لم يكن للعتاب معنى لما فيه من إلحاق العتاب بأمر لا يتحقق قوله تعالى : { و أنكحوا الأيامى منكم } أمر سبحانه و تعالى بالإنكاح مطلقا من غير فصل بين الإنكاح من غيره أو من نفسه و لأن الوكيل في باب النكاح ليس بعاقد بل هو سفير عن العاقد و معبر عنه بدليل أن حقوق النكاح و العقد لا ترجع إلى الوكيل و إذا كان معبرا عنه و له ولاية على الزوجين فكانت عبارته كعبارة الموكل فصار كلامه ككلام شخصين فيعتبر إيجابه كلاما للمرأة كأنها قالت : زوجت نفسي من فلان و قبوله كلاما للزوج كأنه قال قبلت فيقوم العقد باثنين حكما و الثابت بالحكم محلق بالثابت حقيقة .
و أما البيع فالواحد فيه إذا كان وليا يقوم بطرفي العقد كالأب يشتري مال الصغير لنفسه أو يبيع مال نفسه من الصغير أو يشتري إلا أنه إذا كان و كيلا لا يقوم بهما لأن حقوق العقد مقتصرة على العاقد كلام الشخصين و لأن حقوق البيع إذا كانت مقتصرة على العاقد و للبيع أحكام متضادة من التلسيم و القبض و المطالبة فلو تولى طرفي العقد لصار الشخص الواحد مطالبا و مطلوبا و مسلما و هذا ممتنع و الله D أعلم .
و أما صفة الإيجاب و القبول فهي أن لا يكون أحدهما لازما قبل وجود الآخر حتى لو وجد الإيجاب من أحد المتعاقدين كان له أن يرجع قبل قبول الآخر كما في البيع لأنهما جميعا ركن واحد فكان أحدهما بعض الركن و المركب من شيئين لا وجود له بأحدهما