الجزء الثاني ما يسقط به نصف المهر .
و وجه التسوية بينهما : أن المهر مضمون على الزوج بالنكاح لم يستقر ملكها فيه كالمبيع في يد البائع ثم الحكم في البيع كذا هذا في النكاح .
و وجه الفرق في ظاهر الرواية : أن الأوصاف و هي الأتابع إن كانت لا تضمن بالعقد فإنها تضمن بالإتلاف لأنها تصير مقصودة بالإتلاف فتصير مضمونة إلا أن المبيع لا يمكن جعله مضمونا بالقيمة لأنه مضمون بضمان آخر و هو الثمن و المحل الواحد لا يكون مضمونا بضمانين و المهر غير مضمون على الزوج بملك النكاح بل بالقيمة الا ترى أنه لو أتلف المهر لا يبطل ملك النكاح و لكن تجب عليه القيمة فكذا إذا أتلف الجزء و إن كان النقصان بفعل المهر بأن جنى المهر على نفسه ففيه روايتان في رواية حكم هذا النقصان ما هو حكم النقصان بآفة سماوية لأن جناية الإنسان على نفسه هدر فالتحقت بالعدم فكانت كالآفة السماوية .
و في رواية : حكمه حكم جناية الزوج لأن المهر مضمون في يد الضامن و هو الزوج و جناية المضمون في يد الضامن كجناية الضامن كالعبد المغصوب إذا جنى على نفسه في يد الغاصب و إن كان النقصان بفعل المرأة فقد صارت قابضة بالجناية فجعل كأن النقصان حصل في يدها كالمشتري إذا جنى على في يد البائع أنه يصير قابضا له كذا ههنا .
هذا إذا كان النقصان فاحشا فأما إذا كان يسيرا فلا خيار لها كما إذا كان هذا العيب به يوم العقد ثم إن كان هذا النقصان بآفة سماوية أو بفعل المهر فلا شيء لها و إن كان بفعل الأجنبي تتبعه بنصف النقصان و كذا بفعل الزوج هذا إذا حدث النقصان في يد الزوج فأما إذا حدث في يد المرأة فهذا أيضا لا يخلو من الأقسام التي وصفناها فإن حدث بفعل أجنبي و هو فاحش قبل الطلاق فالأرش لها فإن طلقها الزوج فله نصف القيمة يوم قبضت و لا سبيل له على العين لأن الأرش بمنزلة الولد فيمنع التنصيف كالولد و إن كانت جناية الأجنبي عليه بعد الطلاق فللزوجة نصف العبد و هو بالخيار في الأرش إن شاء أخذ نصفه من المرأة و اعتبرت القيمة يوم القبض و إن شاء اتبع الجاني و أخذ منه نصفه لأن حق الفسخ و عود النصف إليه استقر بالطلاق و توقف على قضاء القاضي أو التراضي فصار في يدها كالمقبوض ببيع فاسد فصار مضمونها عليها .
و كذلك إن حدث بفعل الزوج فجناية الأجنبي لأنه جنى على ملك غيره و لا يد فيه فصار كالأجنبي و الحكم في الأجنبي ما وصفنا .
و إن حدث بآفة سماوية قبل الطلاق فالزوج بالخيار إن شاء أخذ نصفه ناقصا و لا شيء له غير ذلك أن شاء أخذ نصف القيمة يوم القبض لأن حقه معها عند الفسخ كحقه معها عند العقد .
و لو حدث نقصان في يده بآفة سماوية كان لها الخيار بين أن تأخذه ناقصا أو قيمته فكذا حق الزوج معها عند الفسخ و إن كان ذلك بعد الطلاق فللزوج أن يأخذ نصفه و نصف الأرش لما ذكرنا أنه بعد الطلاق يبقى في يدها كالمقبوض بحكم بيع فاسد لأن الملك لها و حق الغير في الفسخ مستقر فصار بمنزلة المقبوض ببيع فاسد و إن شاء أخذ قيمته يوم قبضت و كذلك إن حدث بفعل المرأة فالزوج بالخيار إن شاء أخذ نصفه ولا شيء له من الأرش و إن شاء أخذ نصف قيمته عبدا عند أصحابنا الثلاثة و قال زفر للزوج أن يضمنها الأرش .
وجه قوله : أن المهر مضمون عليها بالقبض و الأوصاف و هي الاتباع بالقبض و لا تضمن بالعقد و كذلك يقول زفر في النقصان الحادث بغير فعلها لهذا المعنى .
و لنا : أن المرأة جنت على ملك نفسها و جناية الإنسان على ملك نفسه غير مضمونة عليه بخلاف ما إذا حدث بفعل الزوج على الرواية المشهورة لأن الزوج جنى على ملك غيره وجناية الإنسان على ملك غيره مضمونة عليه و قد خرج الجواب عما قال زفر لأن قبضها صادف ملك نفسها و قبض الإنسان ملك نفسه لا يوجب الضمان عليه و إن كان ذلك بعد الطلاق فعليها نصف الأرش لما ذكرنا أن حق الفسخ قد استقر .
و كذلك إن حدث بفعل المهر فالزوج بالخيار على الروايتين جمعيا إن شاء أخذ نصفه ناقصا و إن شاء أخذ نصف القيمة لنا إن جعلنا جناية المهر كالآفة السماوية لم تكن مضمونة و إن جعلناها كجناية المرأة لم تكن مضمونة أيضا فلم تكن مضمونة أيضا على الروايتين .
هذا إذا كان النقصان فاحشا فأما إن كان غير فاحش فإن كان بفعل الأجنبي أو بفعل الزوج لا ينتصف لأن الأرش يمنع التنصيف و إن بآفة سماوية أو بفعلها أو بفعل المهر أخذ النصف و لا خيار له و الله تعالى الموفق .
و أما النوع الثاني و هو ما يسقط به نصف المهر معنى و الكل صورة فهو كل طلاق تجب فيه المتعة فيقع الكلام في مواضع : في بيان الطلاق الذي تجب فيه المتعة و الذي تستحب فيه و في تفسير المتعة و في بيان من تعتبر المتعة بحاله .
أما الأول : فالطلاق الذي تجب فيه المتعة نوعان : .
أحدهما : أن يكون قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه و لا فرض بعده أو كانت التسمية فيه فاسدة و هذا قول عامة العلماء و قال مالك : لا تجب المتعة و لكن تستحب فمالك لا يرى وجوب المتعة أصلا و احتج بأن الله سبحانه و تعالى قيد المتعة بالمتقي و المحسن بقوله { حقا على المحسنين } { حقا على المتقين } و الواجب لا يخلف فيه المحسن و المتقي و غيرهما فدل أنها ليست بواجبة .
و لنا قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و متعوهن } و مطلق الأمر لوجوب العمل و المراد من قوله عز و جل { أو تفرضوا } أي و لم تفرضوا ألا ترى أنه عطف عليه و قوله تعالى : { و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } و لو كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن و قد فرضوا لهن أو لم يفرضوا لما عطف المفروض و قد تكون أو بمعنى الواو .
قال الله عز و جل : { و لا تطع منهم آثما أو كفورا } أي و لا كفورا و قوله تعالى : و على الموسع قدره و على المقتر قدره و على كلمة إيجاب و قوله تعالى : { حقا على المحسنين } و ليس في ألفاظ الإيجاب كلمة أوكد من قولنا حق عليه لأن الحقية تقتضي الثبوت و على كلمة إلزام و إبثات فالجمع بينهما يقتضي التأكيد و ما ذكره مالك كما يلزمنا يلزمه لأن المندوب إليه أيضا لا يختلف فيه المقتفي و المحسن و غيرهما ثم نقول الإيجاب على المحسن و المتقي لا ينفي الإيجاب على غيرهما ألا ترى أنه سبحانه و تعالى أخبر أن القرآن هدى للمتقين ثم لم ينف أن يكون هدى للناس كلهم كذا هذا .
و الدليل على أن المتعة ههنا واجبة أنها بدل الواجب و هو نصف مهر المثل و بدل الواجب واجب لأنه يقوم مقام الواجب و يحكي حكايته ألا ترى أن التيمم لما كان بدلا عن الوضوء و الوضوء واجب كان التيمم واجبا و الدليل على أن المتعة تجب بدلا عن نصف المهر أن بدل الشيء ما يجب بسبب الأصل عند عدمه كالتيمم مع الوضوء و غير ذلك و المتعة بالسبب الذي يجب به مهر المثل و هو النكاح لا الطلاق لأن الطلاق مسقط للحقوق لا موجب لها لكن عند الطلاق يسقط نصف مهر المثل فيجب المتعة بدلا عن نصفه و هذا طريق محمد فإن الرهن بمهر المثل يكون رهنا بالمتعة عنده حتى إذا هلك تهلك المتعة .
و أما أبو يوسف : فإنه لا يجعله رهنا بها حتى إذا هلك الرهن يهلك بغير شيء و المتعة باقية عليه فلا يكون وجوبها بطريق البدل عنده بل يوجبها ابتداء بظواهر النصوص التي ذكرنا أو يوجبها بدلا عن البضع بالاستدلال بنصف المسمى في نكاح فيه تسمية .
و الثاني : أن يكون قبل الدخول في نكاح لم يسم فيه المهر و إنما فرض بعده و هذا قول أبي حنيفة و محمد و هو قول أبي يوسف الأخير و كان يقول أولا يجب نصف المفروض كما إذا كان المهر مفروضا في العقد و هو قول مالك و الشافعي .
و احتجوا بقوله عز و جل : { و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } أوجب تعالى نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول مطلقا من غير فصل بين ما إذا كان الفرض في العقد أو بعده و لأن الفرض بعد العقد كالفرض في العقد ثم المفروض في العقد يتنصف فكذا المفروض بعده .
و لهما : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن } أوجب المتعة في المطلقات قبل الدخول عاما ثم خصت منه المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية عند وجود فبقيت المطلقة قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه عند وجوده على أصل العموم و قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و متعوهن } أي و لم تفرضوا لهن فريضة لما ذكرنا فيما تقدم و هو منصرف إلى الفرض في العقد لأن الخطاب ينصرف إلى المتعارف و المتعارف هو الفرض في العقد لا متأخرا عنه و به تبين أن الفرض المذكور في قوله تعالى : { و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة } منصرف إلى المفروض في العقد لأنه هو المتعارف و به نقول إن المفروص في العقد يتنصف بالطلاق قبل الدخول و لأن مهر المثل قد وجب بنفس العقد كما ذكرنا فيما تقدم فكان الفرض بعده تقديرا لما وجب بالعقد و هو مهر المثل و مهر المثل يسقط بالطلاق قبل الدخول و تجب المتعة فكذا ما هو بيان و تقدير له إذ هو تقدير لذلك الواجب و كذا الفرقة بالإيلاء و اللعان و الجب و العنة فكل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه فتوجب المتعة لأنها توجب نصف المسمى في نكاح فيه تسمية و المتعة عوض عنه كردة الزوج و إباية الإسلام و كل فرقة جاءت من قبل المرأة فلا متعة لها لأنه لا يجب بها المهر أصلا فلا تجب بها المتعة و المخيرة إذا اختارت نفسها قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه فلها المتعة لأن الفرقة جاءت من قبل الزوج لأن البيونة مضافة إلى الإبانة االسابقة و هي فعل الزوج .
و أما الذي تستحب فيه المتعة فهو الطلاق بعد الدخول و الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية و هذا عندنا .
و قال الشافعي : المتعة في الطلاق بعد الدخول واجبة و احتج بقوله تعالى : { و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } جعل سبحانه و تعالى المطلقات متاعا بلام الملك عاما إلا أنه خصصت منه المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية فبقيت المطلقة قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه و المطلقة الدخول على ظاهر العموم .
و لنا : ما ذكرنا أن المتعة وجبت بالنكاح بدلا عن البضع إما بدلا عن نصف المهر أو ابتداء فإذا استحقت المسمى أو مهر المثل بعد الدخول فلو وجبت المتعة لأدى إلى أن يكون لملك واحد بدلان و إلى الجمع بين البدل و الأصل في حالة واحدة و هذا ممتع و لأن المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية لا تجب لها المتعة بالإجماع فالمطلقة بعد الدخول أولى لأن الأولى تستحق بعض المهر و الثانية تستحق الكل فاستحقاق بعض المهر لما منع عن استحقاق المتعة فاستحقاق الكل أولى .
و أما الآية الكريمة فيحمل ذكر المتاع فيها على الندب و الاستحباب و نحن به نقول إنه ندب الزوج إلى ذلك كما يندب إلى أداء المهر على الكمال في غير المدخول بها أو يحمل على النفقة و الكسوة في حال قيام العدة و لأن كل ذلك المتاع اسم لما ينتفع به عملا بالدلائل كلها بقدر الإمكان و كل فرقة جاءت من قبل الزوج بعد الدخول تستحب فيها المتعة إلا أن يرتد أو يأتي الإسلام لأن الاستحباب طلب الفضيلة و الكافر ليس من أهل الفضيلة .
و أما تفسير المتعة الواجبة فقد قال أصحابنا : إنها ثلاثة أثواب درع و خمار و ملحفة و هكذا روي عن الحسن و سعيد بن المسيب و عطاء و الشعبي و عن عبد الله بن عباس Bهما أنه قال : ارفع المتعة الخادم ثم دون من ذلك الكسوة ثم دون ذلك النفقة .
وقال الشافعي : ثلاثون درهما له ما روي عن أبي مجلز أنه قال : قلت : لابن عمر Bهما أخبرني عن المتعة و أخبرني عن قدرها فإني موسر فقال : اكس كذا اكس مكذا قال : فحسبت ذلك فوجدته قدر ثلاثين فدل أنها مقدرة بثلاثين درهما .
و لنا : قوله تعالى في آية المتعة : { متاعا بالمعروف حقا على المحسنين } و المتاع اسم للعروض في العرف و لأن لإيجاب الأثواب نظيرا في أصول الشرع و الكسرة التي تجب لها حال قيام النكاح و العدة و أدنى ما تكتسي به المرأة و تستتر به عند الخروج ثلاثة أثواب و لا نظير لإيجاب الثلاثين فكان إيجاب ما له نظير أولى .
و قوله عبد الله بن عمر : دليلنا لأنه أمره بالكسوة لا بدراهم مقدرة إلا أنه اتفق أن قيمة الكسوة بلغت ثلاثين درهما و هذا لا يدل على أن التقدير فيها بالثلاثين و لو أعطاها قيمة الأثواب دراهم أو دنانير تجبر على القبول لأن االأثواب ما وجبت لعينها بل من حيث أنها مال كالشاة في خمس من الإبل في باب الزكاة و أما بيان من تعتبر المتعة بحاله فقد اختلف العلماء فيه قال بعضهم قدر المتعة بغير حال الرجل في يساره و إعساره و هو قول أبي يوسف و قال يعضهم تعتبر بحال المرأة في يسارها و إعسارها و قال بعضهم تعتبر بحالها جميعا و قال بعضهم المتعة الواجبة تعتبر بحالها و المستحبة تعتبر بحاله .
وجه قول من اعتبر حال الرجل قوله تعالى : { و متعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره } جعل المتعة على قدر حال الرحل في يساره و إعساره .
وجه قول من قال باعتبار حالها : أن المتعة بدل بضعها فيعتبر حالها و هذا أيضا وجه من يقول المتعة الواجبة تعتبر بحالها .
و قوله : المتعة المستحبة تعتبر بحاله لا معنى لأن التقدير في الواجب لا في المستحب وجه من اعتبر حالهما أن الله تعالى اعتبر في المتعة شيئين أحدهما حال الرجل في يساره و إعساره بقوله عز و جل : { على الموسع قدره و على المقتر قدره } و الثاني أن يكون مع ذلك بالمعروف بقوله متاعا بالمعروف فلو اعتبرنا فيها حال الرجل دون حالها عسى أن لا يكون بالمعروف لأنه يقتضي أنه لو تزوج رجل امرأتين إحداهما شريفة و الأخرى مولاة دنيئة ثم طلقهما قبل الدخول بهما و لم يسم لهما أن يستويا في المتعة باعتبار حال الرجل و هذا منكر في عادات الناس لا معروف فيكون خلاف النص ثم المتعة الواجبة لا تزاد على نصف مهر المثل بل هو نهاية المتعة لا مزيد عليه لأن الحق عند التسمية آكد و أثبت منه عدم التسمية لأن الله تعالى أوجب المتعة على قدر احتمال الزوج بقوله عز و جل : { على الموسع قدره و على المقتر قدره } فأوجب نصف المسمى مطلقا احتمله وسع الزوج و ملكه أولا و كذا في وجوب كمال مهر المثل و سقوطه و وجوب المتعة في نكاح لا تسمية فيه و عدم أحد الزوجين اختلاف بين العلماء و لا خلاف في وجوب كمال المسمى من ذلك في نكاح فيه تسمية دل أن الحق اوكد و أثبت عند التسمية ثم لا يزاد هناك على نصف المسمى فلأن لا يزاد ههنا على نصف مهر المثل أولى و لأن المتعة بدل عن نصف مهر المثل و لا يزاد البدل على الأصل و لا ينقص من خمسة دراهم لأنها تجب على طريق العوض و أقل عوض يثبت في النكاح نصف الشعرة و الله أعلم