الحلف على الخروج .
فصل : و أما الحلف على الخروج فالخروج هو الانفصال من الحصن إلى العورة على مضادة الدخول فلا يكون المكث بعد الخروج خروجا كما لا يكون المكث بعد الدخول دخولا لانعدام حده و حقيقته ثم الخروج كما يكون من البلدان والدور و المنازل و البيوت يكون من الأخبية و الفساطيط و الخيم و السفن لوجود حده كالدخول و الخروج من الدور المسكونة أن يخرج الحالف بنفسه و متاعه و عياله كما إذا حلف لا يسكن و الخروج من البلدان و القرى أن يخرج الحالف ببدنه خاصة و هذا يشهد لقول من قال من أصحابنا : أن من حلف لا يسكن في بلد فخرج بنفسه دون عياله لا يحنث و التعويل في هذا على العرف فأن من خرج من الدار وأهله و متاعه فيها لا يعد خارجا من الدار ويقال لم يخرج فلان من الدار إذا كان أهله و متاعه فيها و من خرج من البلد .
يعد خارجا من الدار و إن كان أهله و متاعه فيه .
و قال هشام : سمعت أبا يوسف قال إذا قال : و الله لا أخرج و هو في بيت من الدار فخرج إلى صحن الدار لم يحنث لأن الدار والبيت في حكم بقعة واحدة فالحلف على الخروج المطلق يقتضي الخروج منهما جميعا فما لم يوجد لا يحنث إلا أن تكون نيته أن لا يخرج من البيت فإذا خرج إلى صحن الدار حنث لأنه نوى ما يحتمله لفظه وهو الانفصال من داخل إلى خارج وفيه تشديد على نفسه .
فإن قال : نويت الخروج إلى مكة أو خروجا من البلد فإنه لا يصدق في القضاء و لا فيما بينه و بين الله تعالى لأنه نوى تخصيص المكان و هو ليس بمذكور و غيره المذكور لا يحتمل نية التخصيص .
و كذلك قال محمد في الجامع لو قال إن خرجت فعبدي حر و قال عنيت به السفر إلى بغداد دون ما سواها لم يدين في القضاء و لا فيما بينه وبين الله تعالى لما قلنا و قال هشام سألت محمدا عن رجل حلف لا يخرج من الري إلى الكوفة فخرج من الري يريد [ مكة ] و طريقه على [ الكوفة ] .
قال محمد : إن كان حين خرج من الري نوى أن يمر بالكوفة فهو حانث و أن كان حين خرج من الري نوى أن لا يمر بها ثم بدا له بعد ما خرج و صار من الري إلى الموضع الذي تقصر فيه الصلاة أن يمر بالكوفة فمر بها لم يحنث لأن النية تعتبر حين الخروج وفي الفصل الأول وجدت نية الخروج إلى الكوفة لأنه لما نوى أن يخرج إلى مكة و يمر فقد نوى الخروج إلى الكوفة و إلى غيرها فيحنث و في الفصل الثاني لم توجد النية وقت الخروج فلا يحنث و إن كان نيته أن لا يخرج إلى الكوفة خاصة ليست إلى غيرها ثم بدا له الحج فخرج و نوى أن يمر بالكوفة قال محمد : هذا لا يحنث فيما بينه و بين الله عز و جل لأنه نوى تخصيص ما في لفظه .
و قال ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال لامرأته : إن خرجت من هذه الدار إلا إلى المسجد فأنت طالق فخرجت تريد المسجد ثم بدا لها فذهبت إلى غير المسجد لم تطلق لأنه جعل الخروج إلى المسجد مستثنى من اليمين ولما خرجت تريد المسجد فقد تحقق الخروج إلى المسجد فوجد الخروج المستثنى فبعد ذلك و إن قصدت غير المسجد لكن لا يوجد الخروج بل المكث في الخارج و أنه ليس بخروج لعدم حده فلا يحنث .
و قال عمر بن أسد : سألت محمدا عن رجل حلف ليخرجن من البلدة ما الخروج قال إذا جعل البيوت خلف ظهره لأن من حصل في هذه المواضيع جاز له القصر و لا يجوز له القصر إلا بالخروج من البلد فعلم أنه خرج من البلد قال عمر سألت محمدا عن رجل قال لامرأته إن خرجت في غير حق فأنت طالق فخرجت في جنازة والدها أو أخ لا تطلق و كذلك كل ذي رحم محرم و كذلك خروجها إلى العرس أو خروجها فيما يجب عليها لأن الحق المذكور في هذا الموضع لا يراد به الواجب عادة و إنما يراد به المباح الذي لا مأثم فيه .
و لو قال لها : إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق فخرجت منها من الباب أي باب كان و من أي موضع كان من فوق حائط أو سطح أو نقب حنث لوجود الشرط و هو الخروج من الدار .
و لو قال : إن خرجت من باب هذه الدار فخرجت من أي باب كان من الباب القديم أو الحادث بعد اليمين حنث لوجود الشرط و هو الخروج من باب الدار و لا يحنث بالخروج من السطح أو فوق الحائط أو النقب لعدم الشرط و لو عين بابا في اليمين يتعين ولا يحنث بالخروج من غيره لأن التعين مقيد في الجملة فيعتبر و لو قال : إن خرجت من هذه الدار إلا في أمر كذا فهذا و قوله : إلا بإذني واحد و سنذكره إن شاء الله تعالى .
و لو قال : إن خرجت من هذه الدار مع فلان فأنت طالق فخرجت وحدها أو مع فلان آخر ثم خرج فلان ولحقها لم يحنث لأن كلمة مع للقران فيقتضي مقارنتها في الخروج و لم يوجد لأن المكث بعد الخروج ليس بخروج لانعدام حدة و لو قال إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق فصعدت الصحراء إلى بيت علو أو كنيف شارع إلى الطريق الأعظم لا يحنث لأن هذا في العرف لا يسمى خروجا من الدار و لو حلف لا يخرج من هذه الدار فخرج منها ماشيا أو راكبا أو أخرجه رجل بأمره أو بغير أمره أو أخرج إحدى رجليه فالجواب فيه كالجواب في الدخول وقد ذكرناه .
و لو حلف لا يخرج إلى مكة فخرج من بلده يريد مكة حنث لأن خروجه من بيته هو انفصال من داخل بلده إلى خارجه على نية الحج وقد وجد وقد ذكرنا تفسير خروجه من بلده و هو أن يجعل بيوت بلده خلف ظهره و لو قال لا آتي مكة فخرج إليها لا يحنث ما لم يدخلها لأن إتيان الشيء هو الوصول إليه و لو قال لا يذهب إلى مكة فلا رواية فيه .
و اختلف المشايخ قال بعضهم : هو و الخروج سواء .
و قال بعضهم : هو و الإتيان سواء و لو قال : أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني أو بأمري أو برضائي أو بعلمي أو قال إن خرجت من هذه الدار بغير إذني أو أمري أو رضائي أو علمي فهو على كل مرة عندهم جميعا و ههنا ثلاث مسائل : .
إحداهما : هذه .
و الثانية أن يقول : أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أو آمر أو أعلم أو أرضى .
و الثالثة : أن يقول : أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو آمر أو أرضى أو أعلم .
أما المسألة الأولى : فالجواب ما ذكرنا أن ذلك يقع على الإذن في كل مرة حتى لو أذن لها مرة فخرجت ثم عادت ثم خرجت بغير إذن حنث .
وكذلك لو أذن لها مرة فقبل أن يخرج نهاها عن الخروج ثم خرجت بعد ذلك يحنث و إنما كان كذلك لأنه جعل كل خروج شرطا لوقوع الطلاق واستثنى خروجا موصوفا بكونه ملتصقا بالإذن لأن الباء في قوله : إلا بإذني حرف إلتصاق هكذا قال أهل اللغة و لا بد من شيئين يلتصقان بآلة الإلصاق كما في قولك كتبت بالقلم و ضربت بالسيف التصق الضرب بالسيف و الكتابة بالقلم و ليس ههنا شيء مظهر يلتصق به الإذن فلا بد من أن يضمر كما في قوله : بسم الله أنه يضمر فيه ابتدئ و في باب الحلف قوله بالله لأفعلن كذا أنه يضمر فيه أقسم لتكون الباء ملصقة للاسم بقوله : ابتدىء و اسم الله في باب الحلف بقوله : أقسم بالله و لا بد لكل مضمر من دليل عليه إما حال و إما لفظ مذكور لأن الوصول إلى ما خفي غير ممكن إلا بواسطة الحال و لا حال ههنا يدل على إضمار شيء فأضمرنا ما دل عليه اللفظ المذكور في صدر الكلام و هو قوله : إن خرجت و ليس ذلك إلا الخروج فصار تقدير الكلام إن خرج فلان من هذه الدار خروجا إلا خروجا بإذني و المصدر الأول في موضع النفي فيعم فيصح استثناء الثاني منه لأنه بعض المستثنى منه و هو خروج موصوف بصفة الالتصاق بالإذن فقد نفى كل خروج و استثنى خروجا موصوفا بكونه ملتصقا بالإذن فبقي كل خروج غير موصوف بهذه الصفة تحت المستثنى منه و هو الخروج العام الذي هو شرط وقوع الطلاق فإذا وجد خروج اتصل به الإذن لم يكن شرطا لوقوع الطلاق و إذا وجد خروج غير متصل به الإذن كان شرطا لوقوع الطلاق كما إذا قال لها أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بملحفة إن كل خروج يوصف بهذه الصفة و هو أن يكون بملحفة يكون مستثنى من اليمين فلا يحنث به و كل خروج لا يكون بهذه الصفة يبقى تحت عموم اسم الخروج فيحنث به كذا هذا .
فإن أراد بقوله : [ إلا بإذني ] مرة واحدة يدين فيما بينه و بين الله تعالى و في القضاء إيضا في قول أبي حنيفة و محمد و إحدى الروايتين عن أبي يوسف وروي أيضا عنه أنه لا يدين في القضاء لأنه نوى خلاف الظاهر لأن ظاهر هذا الكلام يقتضي تكرار الإذن في كل مرة لما بينا .
وجه ظاهر الرواية : أن تكرار الإذن ما ثبت بظاهر اللفظ و إنما ثبت بإضمار الخروج فإذا نوى مرة واحدة فقد نوى ما يقتضيه ظاهر كلامه فيصدق ثم في قوله : إلا بإذني لو أراد الخروج لا يحنث و تقدر المرأة على الخروج في كل وقت من غير حنث فالحيلة فيه أن يقول الزوج لها أذنت لك أبدا أو أذنت لك الدهر كله أو كلما شئت الخروج فقد أذنت لك .
وكذلك لو قال أذنت لك عشرة أيام فدخلت مرارا في العشرة لا يحنث فلو أنه أذن لها إذنا عاما ثم نهاها عن الخروج هل يعمل نهيه قال محمد : يعمل نهيه و يبطل إذنه حتى أنها لو خرجت بعد ذلك بغير إذنه يحنث و قال أبو يوسف لا يعمل فيه نهيه و رجوعه عن الإذن .
وجه قول محمد : أنه لو أذن لها مرة ثم نهاها صح نهيه حتى لو خرجت بعد النهي يحنث فكذا إذا أذن لها في كل مرة وجب أن يعمل نهيه و يرتفع الإذن بالنهي وجه قول أبي يوسف إن الإذن الموجود على طريق العموم في الخرجات كلها مما يبطل الشرط لأن شرط وقوع الطلاق الخروج الذي ليس بموصوف بكونه ملتصقا بالإذن و هذا لا يتصور بعد الإذن العام لأن كل خروج يوجد بعده لا يوجد إلا ملتصقا بالإذن فخرج الشرط من يكون متصور الوجود و لا بقاء لليمين بدون الشرط كما لا بقاء لها بدون الجزاء لأنها تتركب من الشرط و الجزاء فلم يبق اليمين فوجد النهي العام و لا يمين فلم يعمل بخلاف الإذن الخاص بمرة واحدة ثم النهي عنها لأن هناك بالإذن بالخروج مرة لم ترتفع اليمين فجاء النهي و اليمين باقية فصح النهي .
وأما المسألة الثانية : فجوابها أن ذلك على الإذن مرة واحدة حتى لو أذن لها مرة فخرجت ثم عادت ثم خرجت بغير إذن لا يحنث و كذا إذا أذن لها مرة ثم نهاها قبل أن تخرج ثم خرجت بعد ذلك لا يحنث لأن كلمة [ حتى ] كلمة غاية و هي بمعنى إلى و كلمة [ إلى ] كلمة انتهاء الغاية فكذا كلمة [ حتى ] .
ألا ترى أنه لا فرق بين قوله : حتى آذن و بين قوله إلى أن آذن و معنى قوله : حتى أن آذن و كلمة [ أن ] مضمرة لأن [ حتى ] لما كانت من عوامل الأسماء و ما كان من عوامل الأسماء لا يدخل الأفعال البتة فلم يكن بد من إضمار [ أن ] لتصير هي بالفعل الذي هو صلتها بمنزلة المصدر تقول أحب أن تقوم أي أحب قيامك فيكون قوله : [ حتى آذن ] أي حتى اذني و هو قوله : إلى إذني و لهذا ادخلوا كلمة [ أن ] بعد إلى فقالوا إلى أن آذن إلا أن هناك اعتادوا الإظهار مع إلى و ههنا مع حتى اعتادوا الإضمار و إذا كان كذلك صار وجود الإذن منه غاية لحظر الخروج و المضروب له الغاية ينتهي عند وجود الغاية فينتهي حظر الخروج و منعه باليمين عند وجود الإذن مرة واحدة بخلاف الأول فإن أراد بقوله : [ حتى آذن ] في كل مرة فهو على ما نوى في قولهم جميعا و يجعل حتى مجازا عن [ إلى ] لوجود معنى الانتهاء في الاستثناء على ما بينا و فيه تشديد على نفسه فيصدق .
و أما المسألة الثالثة : فلا يجوز فيها فالجواب في قوله : [ حتى آذن ] في قول العامة و قال الفراء : الجواب فيها كالجواب في قوله : إلا بإذني .
وجه قوله إن كلمة [ إلا ] استثناء فلا بد من تقديم المستثنى منه عليها و تأخير المستثنى عنها و أن مع الفعل المستقبل بمنزلة المصدر على ما مر فصار تقدير الكلام إن خرجت من الدار إلا خروجا بإذني و هذا ليس بكلام مستقيم فلا بد من إدراج حتى يصح الكلام فندرج الباء و يجعل معناه إلا خروجا بإذني و إسقاط الباء في اللفظ مع ثبوتها في التقدير جائز في اللغة كما روى عن رؤبة بن العجاج أنه قيل له كيف أصبحت فقال : خير عافاك الله أي بخير و كذا يحذفون الباء في القسم فيقولون الله مكان قولهم بالله و إنما اختلفوا في الخفض و النصب و إذا كان هذا جائزا أدرجت لضرورة تصحيح الكلام .
و الدليل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } أي إلا بإذن لكم حتى كان محتاجا إلى الإذن في كل مرة فكذا فيما نحن فيه .
و لنا أن هذا الكلام لما لم يكن بنفسه صحيحا لما قاله الفراء و لا بد من القول بتصحيحه و لكن تصحيحه على التقدير الذي قاله الفراء و أمكن تصحيحه أيضا بجعله إلا بمعنى حتى و إلى لأن كلمة إلا كلمة استثناء و ما وراء كلمة الاستثناء و هو المستثنى منه ينتهي عند كلمة الاستثناء وعند وجود المستثنى فصارت كلمة الاستثناء على هذا التقدير للغاية فأقيم مقام الغاية فصار كأنه قال إن خرجت من هذه الدار إلى إذني أو حتى إذني و هذا أولى مما قاله الفراء لأن تصحيح الكلام بجعل كلمة قائمة مقام أخرى أولى من التصحيح بطريق الإضمار لأن جعل الكلمة قائمة مقام أخرى و إن كان فيه ضرب تغير لكن التغير تصرف في الوصف و الإضمار إثبات أصل الكلام و التصرف في الوصف بالتغير و التبديل أولى من إثبات الأصل بلا شك فكان هذا أولى على أن فيما قاله إضمار شيئين : أحدهما الباء و الآخر الجالب للباء .
و هو قوله : إلا خروجا و ليس فيما ذهبنا إليه إدراج شيء بل إقامة ما فيه معنى الغاية مقام الغاية و لا شك أن هذا أدون فكان التصحيح به أولى و لهذا كان معنى قوله تعالى : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم } أي إلى أن تقطع قلوبهم و الله عز و جل أعلم أي إلى وقت تقطع قلوبهم و هو حالة الموت و في قوله عز و جل : { إلا أن يؤذن لكم } إنما احتيج إلى الإذن في كل مرة لا بمقتضى اللفظ بل بدليل آخر و هو أن دخول دار الغير بغير إذنه حرام ألا يرى أنه قال عز و جل في آخر قوله تعالى : { إن ذلكم كان يؤذي النبي } و معنى الأذى موجود في كل ساعة فشرط الإذن في كل مرة و الله عز و جل أعلم .
فإن قال : إلا بإذن فلان فمات المحلوف على إذنه بطلت اليمين عند أبي حنيفة و محمد .
و عند أبي يوسف : هي حالها و هذا فرع اختلافهم فيمن حلف ليشربن الماء الذي في هذا الكوز و ليس في الكوز ماء أنه لا تنعقد اليمين في قول أبي حنيفة و محمد .
و عند أبي يوسف : تنعقد بناء على أصل ذكرناه فيما تقدم أن تصور وجود المحلوف عليه حقيقة في المستقبل شرط انعقاد اليمين و بقاؤه متصور الوجود حقيقة شرط بقاء اليمين عندهما و عنده ليس بشرط فإن أذن لها بالخروج من حيث لا تسمع فخرجت بغير الإذن يحنث عند أبي حنيفة و محمد و لا يحنث عند أبي يوسف .
وجه قوله : أن الإذن يتعلق بالإذن لأنه كلامه وقد وجد فأما السماع فإنما يتعلق بالمأذون فلا يعتبر لوجود الإذن كما وقع الإذن بحيث يجوز أن تسمع و هي نائمة لأنه كلامه و لأن شرط الحنث خروج غير مأذون فيه مطلقا و هذا مأذون فيه من وجه لوجود كلام الإذن فلم يوجد شرط الحنث و لأن المقصود من الإذن أن لا تخرج و هو كاره وقد زالت الكراهية بقوله : أذنت و إن لم تسمع و لهما أن إعلام قال الله تعالى { و أذان من الله ورسوله } أي إعلام .
و قوله أذنت لك بحيث لا تسمع لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا فلم يوجد خروج مأذون فيه فلم يوجد الخروج المستثنى فيحنث و لأن هذه اليمين اشتملت على الحظر و الإطلاق فإن قوله : إن خرجت من هذه الدار يجري مجرى الحظر و المنع و قوله : إلا بإذني يجري مجرى الإطلاق و حكم الحظر و الإطلاق من الشارع و الشرائع لا تثبت بدون البلوغ كذا من الحالف .
ألا ترى أنه قيل في قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا و آمنوا و عملوا الصالحات } أنه نزل في قوم شربوا الخمر بعد نزول تحريم الخمر قبل علمهم به و ذكر محمد في الزيادات : أن الوكيل لا يصير وكيلا قبل علمه بالوكالة حتى يقف تصرفه على إجازة الموكل و التوكيل إذن و طلاق و لهما أن الإذن إعلام قال الله تعالى : { و أذان من الله ورسوله } أي إعلام و قوله أذنت لك بحيث لا تسمع لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا فلم يوجد خروج مأذون فيه فلم يوجد الخروج المستثنى فيحنث و لأن الخروج مذكور في محل النفي فيعم كل خروج إلا الخروج المستثنى و هو الخروج المأذون فيه مطلقا و هو أن يكون مأذونا فيه من كل وجه و لم يوجد فلم يكن هذا خروجا مستثنى فبقي داخلا تحت عموم الخروج فيحنث بخلاف ما إذا كانت نائمة فأذن لها بحيث يجوز أن تسمع لأن مثل هذا يعد سماعا عرفا و عادة كما إذا أذن لها وهي تسمع إلا أنها غافلة و مسألتنا مفروضة فيما إذا أذن لها من حيث لا تسمع عادة ومثل هذا لا يعد سماعا في العرف فهو الفرق بين الفصلين .
وقيل : إن النائم يسمع لأن ذلك بوصول الصوت إلى صماخ أذنه و النوم لا يمنع منه و إنما يمنع من فهم المسموع فصار كما لو كلمه و هو يقظان لكنه غافل .
و حكي ابن شجاع أنه لا خلاف في هذه المسألة أنه لا يحنث لأنه قد عقد على نفسه بالإذن و قد أذن قال : و إنما الخلاف بينهم في الأمر وروى نصر بن يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة مثل قوله أبي يوسف إلا أن أبا سليمان حكى الخلاف في الإذن والله عز و جل أعلم .
و قال ابن سماعة عن محمد لو أن رجلا قال لعبده : إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت حر ثم قال له أطع فلانا في جميع ما يأمرك به فأمره فلان بالخروج فخرج فالمولى حانث لوجود شرط الحنث و هو الخروج بغير إذن المولى لأن المولى لم يأذن له بالخروج و إنما أمره بطاعة فلان .
وكذلك لو قال المولى لرجل إئذن له في الخروج فأذن له الرجل فخرج لأنه لم يأذن له بالخروج و إنما أمر فلان بالإذن و كذلك لو قال له قل يا فلان مولاك قد أذن لك في الخروج فقال له فخرج فإن المولى حانث لأنه لم يأذن له و إنما أمر فلانا بالإذن .
و لو قال المولى لعبده بعد يمينه ما أمرك به فلان فقد أمرتك به فأمره الرجل بالخروج فخرج فالمولى حانث لأن مقصود المولى من هذا أنه لا يخرج إلا برضاه فإذا قال ما أمرك به فلان فقد أمرتك به فهو لا يعلم أن فلانا يأمره بالخروج و الرضا بالشيء بدون العلم به لا يتصور فلم يعلم كون هذا الخروج مرضيا به فلم يعلم كونه مستثنى فبقي تحت المستثنى منه .
و لو قال المولى للرجل : قد أذنت له في الخروج فأخبر الرجل به العبد لم يحنث المولى لأن الإذن من المولى قد وجد إلا أنه لم يبلغ العبد فإذا أخبره به فقد بلغه فلا يحنث .
و لو قال لامرأته : إن خرجت إلا بإذني ثم قال لها : إن بعت خادمك فقد أذنت لك لم يكن منه هذا إذنا لأنه مخاطرة يجوز أن تبيع و يجوز أن لا تبيع فلا يعد ذلك رضا .
و قال ابن سماعة عن أبي يوسف : إذا قال لها إن خرجت إلا بأمري فلأمر على أن يأمرها و يسمعها أو يرسل بذلك رسوله إليها فإن أشهد قوما أنه قد أمرها ثم خرجت فهو حانث فقد فرق أبو يوسف بين الأمر و بين الإذن حيث لم يشترط في الإذن إسماعها و إرسال الرسول به و شرط ذلك في الأمر .
و وجه الفرق : له أن حكم الأمر لا يتوجه على المأمور بدون العلم به كما في أمر الشرع و المقصود من الإذن هو الرضا و هو أن لا تخرج مع كراهته و هذا يحصل بنفس الإذن بدون العلم به .
قال محمد : و لو غضبت و تهيأت للخروج فقال : دعوها تخرج و لا نية له فلا يكون هذا إذنا إلا أن ينوي الإذن لأن قوله دعوها ليس بأذن نصا بل هو أمر بترك التعرض لها وذلك بأن لا تمنع من الخروج أو بتخلية سبيلها فلا يحصل إذنا بدون النية .
و لو قال لها في غضبه : اخرجي و لا نية له كان على الإذن لأنه نص على الأمر إلا أن ينوي به أخرجي حتى تطلقي فيكون تهديدا و الأمر يحتمل التهديد كما في أمر الشرع قال الله تعالى : { اعملوا ما شئتم } فإذا نوى التهديد و فيه تشديد عليه صحت نيته .
و لو قال : عبده حر إن دخل هذه الدار إلا إن نسي فدخلها ناسيا ثم دخل بعد ذلك ذاكرا لم يحنث وهذا على ما ذكرنا من قول العامة في قوله أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أن قوله : إلا أن لانتهاء الغاية بمنزلة قوله : حتى فلما دخلها ناسيا فقد انتهت اليمين فلا يتصور الحنث بدخول هذه الدار بهذه اليمين بحال .
و لو قال : إن دخل هذه الدار إلا ناسيا فدخلها ناسيا ثم دخلها ذاكرا حنث لأنه عقد يمينه على كل دخول و حظر على نفسه و منعها منه و استثنى منه دخولا بصفة و هو أنه يكون عن نسيان فبقي ما سواه داخلا تحت اليمين فيحنث به .
قال ابن سماعة عن محمد : في رجل قال عبدي حر إن دخلت هذه الدار دخلة إلا أن يأمرني فلان فأمره فلان مرة واحدة فإنه لا يحنث إن دخل هذه الدخلة و لا بعدها وقد سقطت اليمين و هذا على أن الأمر واحد لما ذكرنا أن [ إلا أن ] لانتهاء الغاية كحتى فإذا وجد الأمر مرة واحدة انحلت اليمين .
و لو قال : إن دخلت هذه الدار دخلة إلا أن يأمرني بها فلان فأمره فدخل ثم دخل بعد ذلك بغير أمره فإنه يحنث و لا بد ههنا من الأمر في كل مرة لأنه وصل الأمر بالدخلة بحرف الوصف و هي حرف الباء فلا بد من الأمر في كل دخلة كما لو قال إلا بأمر فلان .
قال هشام عن محمد : في رجل حلف لا تخرج امرأته إلا بعلمه فأذن لها أن تخرج فخرجت بعد ذلك و هو لا يعلم فهو جائز لأن قوله : إلا بعلمي أي إلا بأذني وقد خرجت فكان خروجا مستثنى فلا يحنث و إذا حلف رجل على زوجته أو مولى على عبده أن لا يخرج من داره إلا بإذنه أو سلطان حلف رجلا أن لا يخرج من كورة إلا بإذنه ثم بانت المرأة من الزوج أو خرج العبد من ملك المولى أو عزل السلطان عن عمله فكان الخروج بغير إذن من واحد منهم فلا حنث على الحالف وتقع اليمين على الحال التي يملك الحالف فيها الإذن فإن زالت تلك الحالة سقطت اليمين و إنما كان كذلك لأن غرض المستحلف من ذلك تنفيذ ولايته و هو أن لا يخرج من له عليه ولاية إلا بأمره فيتقيد بحال قيام الولاية فإذا زالت زالت اليمين فإن عادت المرأة إلى ملك الزوج أو العبد إلى ملك المولى أو أعيد السلطان إلى ولايته لا تعد اليمين لأنها قد سقطت لما بينا فلا تحتمل العود .
و كذلك الغريم إذا حلف المطلوب أن لا يخرج من بلده إلا بإذنه فاليمين مقيدة بحال قيام الدين فإن قضاه المطلوب أو أبرأ الطالب سقطت اليمين فإن عاد عليه ذلك الدين أو غيره لم تعد اليمين لأن غرض المستحلف أن لا يخرج لأجل ذلك الدين الذي له عليه وقت الحلف فإذا أسقط ذلك بطل اليمين فلا يحتمل العود .
و على هذا قالوا : في عامل استحلف رجلا أن يرفع إليه كل من علم به من فاسق أو داعر أو سارق في محلته ولم يعلم من ذلك حتى عزل العامل عن عمله ثم علم فليس عليه أن يرفعه وقد خرج عن يمينه و بطلت عنه لأنها تقيدت بحال عمله بدلالة الغرض لأن غرض العامل أن يرفع إليه ما دام واليا فإذا زالت ولايته ارتفعت اليمين فإن عاد العامل عاملا بعد عزله لم يكن عليه أيضا أن يرفع ذلك إليه لأن اليمين قد بطلت فلا تعود سواء عاد عاملا بعد ذلك أو لم يعد و لو كان الحالف علم ببعض ما استحلف عليه فأخر رفع ذلك حتى عزل العامل حنث في يمينه ولم ينفعه رفع ذلك إليه بعد عزله لأن الرفع تقيد بحال قيام الولاية فإذا زالت الولاية فقد فات شرط البر .
قال محمد في الزيادات : إلا أن يعني أن يرفع إليهم على كل حال في السلطان و غيره و أدينه فيما بينه و بين الله عز و جل و في القضاء لأنه نوى ظاهر كلامه و هو العموم فيصدق ديانة و قضاء .
و قال محمد في الزيادات : إذا حلف أن لا تخرج امرأته من هذه الدار و لا عبده فبانت منه أو خرج العبد عن ملكه ثم خرجت حنث و لا يتقيد بحال قيام الزوجية و الملك لانعدام دلالة التقيد و هي قوله : إلا بإذنه فيعمل بعموم اللفظ فإن عنى به ما دامت امرأته يدين فيما بينه وبين الله عز و جل لأنه عنى ما يحتمله لفظه و لا يدين في القضاء لأنه نوى تخصيص العموم و أنه خلاف الظاهر .
و كذلك من طولب بحق فحلف أن لا يخرج من دار مطالبه حنث بالخروج زال ذلك الحق أو لم يزل لما قلنا .
و إن أرادت المرأة أن تخرج وقد أخذت في ذلك أو العبد أو أراد الرجل أن يضرب عبده وقد نهض لذلك فقال : أنت طالق ان خرجت أو قال المولى أنت حر إن خرجت أو قال رجل للضارب عبدي حر إن ضربته فكفوا عن ذلك فقد سقطت اليمين حتى لو خرج المحلوف عليه بعد ذلك أو ضرب الرجل عبده لا يحنث الحالف لأن غرضه من هذه اليمين المنع من الخروج في الحال أو الضرب فتقيدت بالحال بدلالة الغرض فتزول اليمين بزوال الحالف فلا يتصور الحنث بالخروج بعد ذلك و هذه من مسائل يمين الفور و نظائرها تأتي إن شاء تعالى في مواضعها