الحلف على الأكل و الشرب ـ القسم الثاني .
و لو حلف لا يأكل فاكهة فأكل تفاحا أو سفرجلا أو كمثري أو خوخا أو تينا أو أجاصا أو مشمشا أو بطيخا حنث و إن أكل قثاء أو خيارا أو جزرا لا يحنث و إن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد : يحنث و لو أكل زبيبا أو حب الرمان أو تمرا لا يحنث بالإجماع .
وجه قولهما : أن كل واحدة من هذه الأشياء تسمى فاكهة في العرف بل تعد من رؤوس الفواكه و لأن الفاكهة اسم لما يتفكه به و تفكه الناس بهذه الأشياء ظاهر فكانت فواكه .
و لأبي حنيفة قوله تعالى : { فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا } عطف الفاكهة على العنب و قوله عز و جل : { فيهما فاكهة و نخل و رمان } عطف الرمان على الفاكهة و المعطوف غير المعطوف عليه هو الأصل لأن الفاكهة اسم لما يقصد بأكله التفكه و هو التنعم و التلذذ دون الشبع .
و الطعام ما يقصد بأكله التغذي و الشبع و التمر عندهم يؤكل بطريق التغذي و الشبع حتى روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ بيت لا تمر فيه جياع أهله ] و قال عليه أفضل الصلاة و السلام : [ يوم الفطر أغنوهم عن المسئلة في مثل هذا اليوم ] ثم ذكر في جملة ما تقع به الغنية التمر و في بعضها الزبيب و لأن الفاكهة لا يختلف حكم ربطها و يابسها فما كان رطبه فاكهة كان يابسة فاكهة كالتين و المشمش و الإجاص و نحو ذلك و اليابس من هذه الأشياء ليس بفاكهة بالإجماع و هو الزبيب و التمر و حب الرمان فكذا رطبها و ما ذكراه من العرف ممنوع بل العرف الجاري بين الناس أنهم يقولون ليس في كرم فلان فاكهة إنما فيه العنب فحسب فالحاصل أن ثمر الشجر كلها فاكهة و عنده كذلك إلا ثمر النخل و الكرم و شجر الرمان لأن سائر الثمار من التفاح و السفرجل و الإجاص و نحوها يقصد بأكلها التفكه دون الشبع و كذا يابسها فاكهة كذا ربطها .
قال محمد : التوت فاكهة لأنه يتفكه به و القثاء و الخيار و الجزر و الباقلاء و الرطب إدام و ليس بفاكهة ألا يرى أنه لا يؤكل للتفكه و إن عنى بقوله : لا آكل فاكهة العنب و الطب و الرمان فأكل من ذلك شيئا حنث كذا ذكر في الأصل لأن هذه الأشياء مما يتفكه بها و إن كان لا يطلق عليها اسم الفاكهة .
و قال محمد : بسر السكر و البسر الأحمر فاكهة لأن ذلك مما يتفكه به و قال أبو يوسف : اللوز و العناب فاكهة رطب ذلك من الفاكهة الرطبة و يابسه من اليابسة لأن ذلك يؤكل على وجه التفكه قال : و الجوز رطبة فاكهة و يابسة إدام و قال في الأصل : و كذلك الفاكهة اليابسة فيدخل فيها الجوز و اللوز و أشباهما .
و روى المعلى عن محمد أن الجوز اليابس ليس بفاكهة لأنه يؤكل مع الخبز غالبا فأما رطبه فلا يؤكل إلا للتفكه .
وجه ما ذكر في الأصل أنه فاكهة ما ذكرنا أن رطبه و يابسه مما لا يقصد به الشبع فصار كسائر الفواكه .
و ذكر المعلى عن محمد : في رجل حلف لا يأكل من الثمار شيئا و لا نية له أن ذلك على الرطب و اليابس فإن أكل تينا يابسا أو لوزا يابسا حنث فجعل الثمار كالفاكهة لأن أحد الاسمين كالآخر .
و قال المعلى قلت : لمحمد فإن حلف لا يأكل من فاكهة العام أو من ثمار العام و لا نية له قال : إن حلف في أيام الفاكهة الرطبة فهذا على الرطب فإن أكل من فاكهة ذلك العام شيئا يابسا لم يحنث و كذلك الثمرة و إن حلف في غير وقت الفاكهة الرطبة كانت يمينه على الفاكهة اليابسة من فاكهة ذلك العام و كان ينبغي في القياس إن كان وقت الفاكهة الرطبة أن يحنث في الرطب و اليابس لأن اسم الفاكهة يتناولهما إلا أنه استحسن لأن العادة في قولهم فاكهة العام إذا كان في وقت الرطب أنهم يريدون به الرطب دون اليابس فإذا مضى وقت الرطب فلا تقع اليمين إلا على اليابس فيحمل عليه و الله عز و جل أعلم .
و لو حلف لا يأكل هذه الحنطة أو لا يأكل هذه الحنطة فإن عنى بها أن لا يأكلها حبا كما هي فأكل من خبزها أو من سويقها لم يحنث و إنما يحنث إذا قضمها و إن لم تكن له نية فكذلك عند أبي حنيفة و قال أبو يوسف و محمد يحنث وهل يحنث عندهما إذا أكل عينها .
ذكر محمد في الأصل عنهما ما يدل على أنه لا يحنث لأنه قال فيه إن اليمين تقع على ما يصنع الناس و ذكر عنهما في الجامع الصغير ما يدل على أنه يحنث فإنه قال : و قال أبو يوسف و محمد إن أكلها خبزا حنث أيضا فهذا يدل على أنه إذا قضمها يحنث عندهما كما يحنث إذا أكلها خبزا .
وجه قولهما : أن المتعارف في إطلاق أكل الحنطة أكل المتخذ منها و هو الخبز لا أكل عينها يقال فلان يأكل من حنطة كذا أي من خبزها و مطلق الكلام يحمل على المتعارف خصوصا في باب الأيمان وجه قول أبي حنيفة Bه أن اسم الحنطة لا يقع على الخبز حقيقة لأنها اسم لذات مخصوصة مركبة فيزول الاسم بزوال التركيب حقيقة فالحمل على الخبز يكون حملا على المجاز فكان صرف الكلام إلى الحقيقة أولى .
و أما قولهما : أن مطلق الكلام يحمل على المتعارف فنعم لكن على المتعارف عند أهل اللسان و هو المتعارف في الاستعمال اللغوي كما يقول مشايخ العراق لا على المتعارف من حيث الفعل كما يقول مشايخ بلخ بدليل أنه لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الآدمي أو الخنزير يحنث و إن لم يتعارف أكله لوجود التعارف في الاسم و استعمال اسم الحنطة في مسماها متعارف عند أهل اللسان إلا أنه يقل استعماله فيه لكن قلة الاستعمال فيه لقلة محل الحقيقة و هذا لا يوجب الحمل على المجاز كما في لحم الآدمي و لحم الخنزير على أن المتعارف فعل ثابت في الجملة لأن الحنطة تطبخ و تقلى فتؤكل مطبوخا و مقليا و إن لم يكن في الكثرة مثل أكلها خبزا و لو حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات من شعير حنث و لو كان اليمين على الشراء لم يحنث لأن من اشترى حنطة فيها حبات شعير يسمى مشتري الحنطة لا مشتري الشعير و صرف الكلام إلى الحقيقة المستعملة في الجملة أولى من الصرف إلى المجاز و إن كان استعماله في المجاز أكثر لأن الحقيقة شاركت المجاز في أصل الاستعمال و المجاز ما شارك الحقيقة في الوضع رأسا فكان العمل بالحقيقة أولى .
و لو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه و لم تكن له نية حنث لأن الدقيق هكذا يؤكل عادة و لا يستف إلا نادرا و النادر ملحق بالعدم فلم يكن له حقيقة مستعملة و له مجاز مستعمل و هو كلما يتخذ منه فحمل عليه و إن نوى أن لا يأكل الدقيق بعينه لا يحنث بأكل ما يخبز منه لأنه نوى حقيقة كلامه .
و لو حلف لا يأكل من هذا الكفرى شيئا فصار بسرا أو لا يأكل من هذا البسر شيئا فصار رطبا أو لا يأكل من هذا الرطب شيئا فصار تمرا أو لا يأكل من هذا العنب شيئا فصار زبيبا فأكله أو حلف لا يأكل من هذا اللبن شيئا فأكل من جبن صنع منه أو مصل أو أقط أو شيراز أو حلف لا يأكل من هذه البيضة فصارت فرخا فأكل من فرخ خرج منها أو حلف لا يذوق من هذه الخمر شيئا فصارت خلا لم يحنث في جميع ذلك و الأصل أن اليمين متى تعلقت بعين تبقى ببقاء العين و تزول بزوالها و الصفة في العين المشار إليه غير معتبرة لأن الصفة لتمييز الموصوف من غيره و الإشارة تكفي للتعريف فوقعت الغنية عن ذكر الصفة و غير المعين لا يحتمل الإشارة فيكون تعريفه بالوصف و إذا عرف هذا نقول العين بدلت في هذه المواضع فلا تبقى اليمين التي عقدت على الأول و العين في الرطب و إن لم تبدل لكن زال بعضها و هو الماء بالجفاف لأن اسم الرطب يستعمل على العين و الماء الذي فيها فإذا جف فقد زال عنها الماء فصار آكلا بعض العين المشار إليها فلا يحنث كما لو حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه بخلاف ما إذا حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخا أنه يحنث لأن هناك العين قائمة و إنما الفائت هو الوصف لا بعض الشخص فيبقى كل المحلوف عليه فبقيت اليمين .
و فرق آخر أن الصفات التي في هذه الأعيان مما تقصد باليمين منعا و حملا كالرطوبة التي هي في التمر و العنب فإن المرطوب تضربه الرطوبات فتعلقت اليمين بها و الصبا و الشباب مما لا يقصد بالمنع بل الذات هي التي تقصد فتعلقت اليمين بالذات دون هاتين الصفتين كما إذا حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه أنه يحنث لما قلنا كذا هذا .
و كذا إذا حلف لا يأكل من لحم هذا الحولي فأكله بعد ما صار كبشا أو من لحم هذا الجدي فأكله بعد ما صار تيسا يحنث لما قلنا و كذلك لو حلف لا يجامع هذه الصبية فجامعها بعد ما صارت امرأة يحنث لما قلنا و لو نوى في الفصول المتقدمة ما يكون من ذلك حنث لأنه شدد على نفسه و لو حلف لا يأكل من هذه الحد حبة فأكلها بعدما صارت بطيخا لا رواية فيه و اختلف المشايخ فيه و الله عز و جل أعلم .
قال بشر عن أبي يوسف في رجل حلف لا يذوق من هذا اللبن شيئا أو لا يشرب فصب فيه ماء فذاقه أو شربه أنه إن كان اللبن غالبا حنث لأنه إذا كان غالبا يسمى لبنا .
و كذلك لو حلف على نبيذ فصبه في خل أو على ماء ملح فصب على ماء عذب و الأصل في هذا أن المحلوف عليه إذا اختلط بغير جنسه تعتبر فيه الغلبة بلا خلاف بين أبي يوسف و محمد غير أن أبا يوسف اعتبر الغلبة في اللون أو الطعم لا في الأجزاء فقال : إن كان المحلوف عليه يستبين لونه أو طعمه حنث و إن كان لا يستبين له لون و لا طعم لا يحنث سواء كانت أجزاؤه أكثر أو لم تكن و أعتبر محمد غلبة الأجزاء فقال : أن كانت أجزاء المحلوف عليه غالبا يحنث وإن كانت مغلوبة لا يحنث .
وجه قول محمد : أن الحكم يتعلق بالأكثر و الأقل يكون تبعا للأكثر فلا عبرة به و لأبي يوسف أن اللون و الطعم إذا كانا باقيين كان الاسم باقيا ألا ترى أنه يقال لبن مغشوش و خل مغشوش و إذا لم يبق له لون و لا طعم لا يبقى الاسم و يقال ماء فيه لبن و ماء فيه خل فلا يحنث .
و قال أبو يوسف : فإن كان طعمهما واحدا أو لونهما واحدا فأشكل عليه تعتبر من حيث الأجزاء فإن علم أن أجزاء المحلوف عليه هي الغالبة يحنث و إن علم أن أجزاء المخالط له أكثر لا يحنث و إن وقع الشك فيه و لا يدري ذلك فالقياس أن لا يحنث لأنه وقع الشك في حكم الحنث فلا يثبت مع الشك و في الاستحسان يحنث لأنه عند احتمال الوجود و العدم على السواء فالقول بالوجود أولى احتياطا لما فيه من براءة الذمة بيقين و هذا يستقيم في اليمين بالله تعالى لأن الكفارة حق الله تعالى فيحتاط في إيجابها فأما في اليمين بالطلاق و العتاق فلا يستقيم لأن ذلك حق العبد و حقوق العباد لا يجري فيها الاحتياط للتعارض فيعمل فيها بالقياس .
و لو حلف لا يأكل سمنا فأكل سويقا قد لت بسمن و لا نية له ذكر محمد في الأصل أن أجزاء السمن إذا كانت تستبين في السويق و يوجد طعمه يحنث وإن كان لا يوجد طعمه و لا يرى مكانه لم يحنث لأنها إذا استبانت لم تصر مستهلكة فكأنه أكل السمن بنفسه منفردا و إذا لم يستبن فقد صارت مستهلكة فلا يعتد بها و روى المعلى عن محمد أنه إن كان السمن مستبينا في السويق و كان إذا عصر سال السمن حنث و إن كان على غير ذلك لم يحنث و هذا لا يوجب اختلاف الرواية لإمكان التوفيق بين القولين لأنه إذا كان يحنث إذا عصر سال السمن لم يكن مستهلكا و إذا لم يسل كان مستهلكا و إذا اختلط المحلوف عليه بجنسه كاللبن المحلوف عليه إذا اختلط بلبن آخر .
قال أبو يوسف : هذا و الأول سواء و تعتبر فيه الغلبة و إن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه لم يحنث و قال محمد : يحنث و إن كان مغلوبا فمن أصل محمد أن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه و إنما يصير مستهلكا بغير جنسه و إذا لم يصر مستهلكا بجنسه صار كأنه غير مغلوب .
و قال المعلى عن محمد : في رجل حلف لا يشرب من هذه الخمر فصبها في ماء فغلب على الخمر حتى ذهب لونها و طعمها فشربه لم يحنث فقد قال مثل قول أبي يوسف و لو حلف على ماء من ماء زمزم لا يشرب منه شيئا فصب عليه ماء من غيره كثيرا حتى صار مغلوبا فشربه يحنث لما ذكرنا من أصله أن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه و لو صبه في بئر أو حوض عظيم لم يحنث قال لأني لا أدري لعل عيون البئر تغور بما صب فيها و لا أدري لعل اليسير من الماء الذي صب في الحوض العظيم لم يختلط به كله و لو حلف لا يشرب هذا الماء العذب فصبه في ماء مالح فغلب عليه ثم شربه لم يحنث فجعل الماء مستهلكا بجنسه إذا كان على غير صفته قال : و كذلك إذا حلف لا يشرب لبن ضأن فخلطه بلبن معز فإنه تعتبر الغلبة لأنهما نوعان فكانا كالجنسين قال الكرخي و لو قال لا أشرب لبن هذه الشاة لشاة معز أو ضأن ثم خلطه بغيره من لبن ضأن أو معز حنث إذا شربه و لا تعتبر الكثرة و الغلبة و علل فقال لأنه ليس في يمينه ضأن و لا معز .
و معناه : أن يمينه وقعت على لبن و اختلاطه بلبن آخر لا يخرجه من أن يكون لبنا و اليمين في المسألة الأولى وقعت على لبن الضأن فإذا غلب عليه لبن المعز فقد استهلكت صفته و استشهد محمد للفرق بين المسألتين فقال : و لا تشبه الشاة إذا حلف عليها بعينها حلفه على لبن المعز ألا يرى أنه لو قال و الله لا أشتري رطبا فاشترى كباسة بسر فيها رطبتان أو ثلاث لم يحنث لأن هذا إنما هو الغالب و لو قال و الله لا أشتري هذه الرطبة لرطبة في كباسة ثم اشترى الكباسة حنث .
و نظير هذا ما ذكر ابن سماعة عن محمد في رجل قال : و الله لا أكل ما يجيء به فلان يعني ما يجيء به من طعام أو لحم أو غير ذلك مما يؤكل فدفع الحالف إلى المحلوف عليه لحما ليطبخه فطبخه و ألقى فيه قطعة من كرش بقر ثم طبخ القدر به فأكل الحالف من المرق قال محمد : لا أراه يحنث إذا ألقى فيه من اللحم ما لا يطبخ وحده و يتخذ منه مرقة لقلته و إن كان مثل ذلك يطبخ و يكون له مرقة فإنه يحنث لأنه جعل اليمين على اللحم الذي يأتي به فلان و على مرقته و المرقة لا تكون إلا بدسم اللحم الذي جاء به فإذا اختلط به لحم لا يكون له مرق لقلته فلم يأكل ما جاء به فلان و إذا كان مما يفرد بالطبخ و يكون له مرق و المرق جنس واحد فلم تعتبر فيه الغلبة و حنث .
و قد قال محمد : فيمن قال لا آكل مما يجيء به فلان فجاء فلان بلحم فشواه و جعل تحته أرزا للحالف فأكل الحالف من جوانبه حنث و كذلك لو جاء المحلوف عليه بحمص فطبخه فأكل الحالف من مرقته و فيه طعم الحمص حنث و كذلك لو جاء برطب فسال منه رب فأكل منه أو جاء بزيتون فعصر فأكل من زيته حنث .
قال ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال و الله لا أكل من ثمرة هذا البستان و فيه نخل يحصى أو لا آكل من ثمرة هذا النخل و هي عشرة أو ثلاث أو لا آكل من ثمرة هاتين النخلتين أو من هاتين الرطبتين أو من هذه الثلاث التفاحات أو من هذين الرغيفين أو لا أشرب من لبن هاتين الشاتين فأكل بعض ذلك أو شرب بعضه فإنه يحنث لأنه منع نفسه من أكل بعض المذكور و شرب بعضه لأن كلمة من للتبعيض فإذا أكل البعض أو شرب حنث .
قال أبو يوسف : و لو قال و الله لا أشرب لبن هاتين الشاتين و لم يقل من فإنه لا يحنث حتى يشرب من لبن كل شاة لأنه حلف على شرب لبنهما فلا يحنث بشرب لبن إحداهما و إذا شرب جزأ من لبن كل واحدة منهما حنث لأن الإنسان لا يمكنه أن يشرب جميع لبن الشاة فلا يقصد بيمينه منع نفسه عن ذلك فينعقد يمينه على البعض كما إذا حلف لا يشرب ماء البحر قال و إن كان لبن قد حلب فقال و الله لا أشرب لبن هاتين الشاتين للبن بعينه فإن كان لبنا يقدر على شربه في مرة واحدة لم يحنث بشرب بعضه و إن كان لبنا لا يستطيع شربه في مرة واحدة يحنث بشرب بعضه لأن يمينه وقعت على شرب الكل حقيقة فإذا استطاع شربه دفعة واحدة أمكن العمل بالحقيقة و إذا لم يستطع شربه دفعة يحمل على الجزء كما في ماء البحر و على هذا إذا قال : لا آكل هذا الطعام و هو لا يقدر على أكله دفعة واحدة .
و نظير هذا ما قالوا فيمن قبض من رجل دينا عليه فوجد فيه درهمين زائفين فقال و الله لا آخذ منهما شيئا فأخذ أحدهما حنث لأن كلمة من للتبعيض و قال ابن رستم عن محمد : إذا قال و الله لا آكل لحم هذا الخروف فهذا على بعضه لأنه لا يمكن أكل كله مرة واحدة عادة .
و ذكر في الأصل فيمن قال لا آكل هذه الرمانة فاكلها إلا حبة أو حبتين حنث في الاستحسان لأن ذلك القدر لا يعتد به فإنه يقال في العرف لمن أكل رمانة و ترك منها حبة أو حبتين أنه أكل رمانة و إن ترك نصفها أو ثلثها أو ترك أكثر مما يجري في العرف أنه يسقط من الرمانة لم يحنث لأنه لا يسمى آكلا لجميعها و لو قال و الله لا أبيعك لحم هذا الخروف أو خابية الزيت فباع بعضها لم يحنث لأنه يمكن حمل اليمين ههنا على الحقيقة لأن بيع الكل ممكن و قد قال ابن سماعة فيمن قال لا أشتري من هذين الرجلين أنه لا يحنث حتى يشتري منهما و لا يشبه هذا قوله لا آكل هذين الرغيفين لأن من للتبعيض و يمكن العمل بالتبعيض في الأكل و لا يمكن في الشراء لأن البيع لا يتبعض فيحمل على ابتداء الغاية فقد ذكر في الأصل و الجامع فيمن حلف لا يتزوج النساء أو لم يكلم بني آدم أنه يقع على الواحد لتعذر الحمل على الكل فيحمل على بعض الجنس و قد ذكرنا فيما تقدم .
و لو حلف لا يأكل من كسب فلان فالكسب ما صار للإنسان أن يفعله كالإيجاب و القبول في البيع و الإيجارة و القبول في الهبة و الصدقة و الوصية و الأخذ في المباحات فأما الميراث فلا يكون كسبا للوارث لأنه يملكه من غير صنعه و لو مات المحلوف عليه و قد كسب شيئا فورثه رجل فأكل الحالف منه حنث لأن ما في يد الوارث يسمى كسب الميت بمعنى مكسوبة عرفا انتقل عنه إلى غيره بغير الميراث لم يحنث لأنه صار للثاني بفعله فطلبت الإضافة إلى الأول .
قال أبو يوسف : و كذلك إذا قال لا آكل مما ملكت أو مما يملك له أو من ملكك فإذا خرج من محمد لك المحلوف عليه إلى ملك غيره فأكل منه الحالف لم يحنث لأنه إذا ملكه الثاني لم يبق ملك الأول فلم يبق مضافا إليه بالملك .
قال : و كذلك إذا حلف لا يأكل مما اشترى فلان أو مما يشتري فاشترى المحلوف لنفسه أو لغيره فأكل منه الحالف حنث فإن باعه المحلوف عليه من غيره بأمر المشتري له ثم أكل منه الحالف لم يحنث لأن الشراء إذا طرأ على الشراء بطلت الإضافة الأولى و تجددت إضافة أخرى لم تتناولها اليمين و إنما كان الشراء لغيره و لنفسه سواء لأن حقوق العقد تتعلق بالمشتري فكانت الإضافة إليه لا إلى المشتري له .
قال : و كذلك لو حلف لا يأكل من ميراث فلان شيئا فمات فأكل من ميراثه حنث فإن مات وارثه فأورث ذلك الميراث فأكل منه الحالف لم يحنث لنسخ الميراث الأخير الميراث الأول كذا ذكر لأن الميراث إذا طرأ على الميراث بطلت الإضافة الأولى .
و من هذا القبيل ما قالوا فيمن حلف لا يأكل مما زرع فلان فباع فلان زرعه فأكله الحالف عند المشتري حنث لأن الإضافة إلى الأول لا يبطل بالبيع فإن بذره المشتري و زرعه فأكل الحالف من هذا الزرع فإنه لا يحنث لأن الإضافة بالزرع إنما تكون إلى الثاني دون الأول .
و على هذا لو حلف لا يأكل من طعام يصنعه فلان أو من خبز يخبزه فلان فتناسخته الباعة ثم أكل الحالف منه فإنه يحنث لأنه يقال هو من خبز فلان و من طبيخه و إن باعه .
و كذلك لو حلف لا يلبس ثوبا من نسج فلان فنسج فلان ثوبا فباعه لأن البيع لا يبطل الإضافة و لو كان ثوب خز فنقض و نسجه آخر ثم لبسه الحالف لم يحنث لأن النسج الثاني أبطل الإضافة الأولى .
و لو حلف لا يشتري ثوبا مسه فلان فمس فلان ثوبا و تناسخته الباعة فإنه يحنث إذا اشتراه لأن الإضافة بالمس لا تبطل البيع فصار كأنه قال لا أشتري ثوبا كان فلان مسه و قال بشر عن أبي يوسف : في رجل حلف أن لا يأكل من هذه الدراهم فاشترى بها طعاما فأكله حنث وإن بدلها بغيرها و اشترى مما أبدل طعاما فأكله لم يحنث لأن الدراهم بعينها لا تحتمل الأكل و إنما أكلها في المتعارف أكل ما يشتري بها و لما اشترى ببدلها لم يوجد أكل ما اشترى بها فلا يحنث .
و كذلك لو حلف لا يأكل من ثمن هذا العبد فاشترى بثمنه طعاما فأكله .
و لو حلف لا يأكل من ميراث أبيه شيئا و أبوه حي فمات أبوه فورث منه مالا فاشترى به طعاما فأكله ففي القياس ينبغي أن لا يحنث لأن الطعام المشتري ليس بميراث و في الاستحسان يحنث لأن المواريث هكذا تؤكل و يسمى ذلك أكل الميراث عرفا و عادة فإن اشترى بالميراث شيئا فاشترى بذلك الشيء طعاما فأكله لم يحنث لأنه مشتر بكسبه و ليس بمشتر بميراثه .
و قال أبو يوسف : في الميراث بعينه إذا حلف عليه فغيره و اشترى به لم يحنث لما قلنا قال : فإن كان قال لا آكل ميراثا يكون لفلان فكيف ما غيره فأكله حنث لأن اليمين المطلقة تعتبر فيها الصفة المعتادة و في العادة أنهم يقولون لما ورثه الإنسان أنه ميراث و إن غيره .
و قال المعلى عن أبي يوسف : إذا حلف لا يطعم فلانا مما ورث من أبيه شيئا فإن كان ورث طعاما فأطعمه منه حنث فإن اشترى بذلك الطعام طعاما فأطعمه منه لم يحنث لأن اليمين وقعت على الطعام الموروث فإذا باعه بطعام آخر فالثاني ليس بموروث وقد أمكن حمل اليمين على الحقيقة فلا تحمل على المجاز و إن كان ورث دراهم فاشترى بها طعاما فأطعمه منه حنث لأنه لا يمكن حمل اليمين على الحقيقة فحملت على المجاز .
و قال هشام : سمعت محمدا يقول في رجل معه دراهم حلف أن لا يأكلها فاشترى بها دنانير أو فلوسا ثم اشترى بالدنانير أو الفلوس طعاما فأكله لم يحنث فإن حلف لم يحنث فإن حلف لا يأكل هذه الدراهم فاشترى بها عرضا ثم باع ذلك العرض بطعام فأكله فإنه لا يحنث لأن العادة في قوله لا أشترى بهذه الدراهم الامتناع من إنفاقها في الطعام و النفقة تارة تكون بالابتياع و تارة بتصريفها بما ينفق فحملت اليمين على العادة فأما ابتياع العروض بالدراهم فليس بنفقة في الطعام في العادة فلا تحمل اليمين عليه وهذا خلاف ما حكاه عن أبي يوسف .
و قال ابن رستم : فيمن قال و الله لا آكل من طعامك و هو يبيع الطعام فاشترى منه فأكل حنث لأن مثل هذه اليمين يراد بها منع النفس عن الابتياع .
قال محمد : و لو قال و الله لا أكل من طعامك هذا الطعام بعينه فأهداه له فأكله لا يحنث في قياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف و يحنث في قول محمد و هذا فرع اختلافهم فيمن قال : لا أدخل دار فلان هذه فباعها فلان ثم دخلها و المسألة تجيء فيما بعد إن شاء الله تعالى .
قال محمد : ولو حلف لا يأكل من طعامه فأكل من طعام مشترك بينهما حنث لأن كل جزء من الطعام يسمى طعاما فقد أكل من طعام المحلوف عليه و قال علي بن الجعد و ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل حلف لا يأكل من غلة أرضه و لا نية له فأكل من ثمن الغلة حنث لأن هذا في العادة يراد به استغلال الأرض فإن نوى أكل نفس ما يخرج منه فأكل من ثمنه دينته فيما بينه و بين الله تعالى و لم أدينه في القضاء .
قال القدوري : و هذا على أصله فيمن حلف لا يشرب الماء و نوى الجنس أنه لا يصدق في القضاء فأما على الرواية الظاهرة فيصدق لأنه نوى حقيقة كلامه و قال محمد في الجامع إذا حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئا و أكل من ثمرها أو جمارها أو طلعها أو بسرها أو الدبس الذي يخرج من رطبها فإنه يحنث لأن النخلة لا يتأتى أكلها فحملت اليمين على ما يتولد منها و الدبس اسم لما يسيل من الرطب لا المطبوخ منه .
و لو حلف لا يأكل من هذا الكرم شيئا فأكل من عنبه أو زبيبه أو عصيره أنه لا يحنث لأن المراد هو الخارج من الكرم إذ عين الكرم لا تحتمل الأكل كما في النخلة بخلاف ما نظر إلى عنب فقال عبده حر إن أكل من هذا العنب فأكل من زبيبه أو عصيره أنه لا يحنث لأن العنب مما تؤكل عينه فلا ضرورة إلى الحمل على ما يتولد منه .
و كذلك لو حلف لا يأكل من هذه الشاة فأكل من لبنها أو زبدها أو سمنها لم يحنث لأن الشاة مأكولة في نفسها فأمكن حمل اليمين على أجزائها فيحمل عليها لا على ما يتولد منها .
قال محمد : و لو أكل من ناطف جعل من ثمر النخلة أو نبيذ نبذ من ثمرها لم يحنث لأن كلمة [ من ] لابتداء .
الغاية وقد خرج هذا محذوف الصيغة عن حال الابتداء فلم يتناوله اليمين .
و لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فأكل من زبده أو سمنه لم يحنث لأن اللبن مأكول بنفسه فتحمل اليمين على نفسه دون ما يتخذ منه و الله عز و جل أعلم .
و أما الحلف على الشرب فقد ذكرنا معنى الشرب أنه إيصال ما لا يحتمله المضغ من المائعات إلى الجوف حتى لو حلف لا يشرب فأكل لا يحنث كما لو حلف لا يأكل فشرب لا يحنث لأن الأكل و الشرب فعلان متغايران قال الله تبارك و تعالى : { و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } عطف الشرب على الأكل و المعطوف غير المعطوف عليه و إذا حلف لا يشرب و لا نية له فأي شراب شرب من ماء أو غيره يحنث لأنه منع نفسه عن الشرب عاما و سواء شرب قليلا أو كثيرا لأن بعض الشراب يسمى شرابا و كذا لو حلف لا يأكل طعاما فأكل شيئا يسيرا يحنث لأن قليل الطعام طعام