الحلف على الأكل و الشرب .
و لو حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شرب حنث لعموم اللفظ و إن شرب سكرا لا يحنث لأن السكر لا يسمى نبيذا لأنه اسم لخمر التمر و هو الذي من ماء التمر إذا غلا و اشتد و قذف بالزبد أو لم يقذف على الاختلاف و كذا لو شرب فضيخا لأنه لا يسمى نبيذا إذ هو اسم للمثلث يصب فيه الماء و كذا لو شرب عصيرا لأنه لا يسمى نبيذا .
و إن حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث و إن كان الإناء الذي يشربان فيه مختلفا و كذا لو شرب الحالف من شراب و شرب الآخر من شراب غيره و قد ضمهما مجلس واحد لأن المفهوم من الشرب مع فلان في العرف هو أن يشربا في مجلس واحد اتحد الإناء و الشراب أو اختلفا بعد أن ضمهما مجلس واحد يقال : شربنا مع فلان و شربنا مع الملك و إن كان الملك يتفرد بالشرب من إناء فإن نوى شرابا واحدا و من إناء واحد يصدق لأنه نوى ما يحتمله لفظه .
و لو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات قال أبو حنيفة لا يحنث ما لم يشرب منه كرعا و هو أن يضع فاه عليه فيشرب منه فإن أخذ الماء بيده أو بإناء لم يحنث و عند أبي يوسف و محمد يحنث شرب كرعا أو بإناء أو اغترف بيده .
وجه قولهما : أن مطلق اللفظ يصرف إلى التعارف عند أهل اللسان و المتعارف عندهم أن من رفع الماء من الفرات بيده أو بشيء من الأواني أنه يسمى شاربا من الفرات فيحمل مطلق الكلام على غلبة المتعارف و إن كان مجازا بعد أن كان متعارفا كما لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر أنه ينصرف ذلك إلى ما يخرج من الشجرة من الثمر و إلى ما يطبخ في القدر من الطعام كذلك ههنا و لأبي حنيفة أن مطلق الكلام محمول على الحقيقة و حقيقة الشرب من الفرات هو أن يكرع منه كرعا لأن كلمة [ من ] ههنا استعملت لابتداء الغاية بلا خلاف لتعذر حملها على التبعيض إذ الفرات اسم للنهر المعروف و النهر اسم لما بين ضفتي الوادي لا للماء الجاري فيه فكانت كلمة من ههنا لابتداء الغاية فتقتضي أن يكون الشرب من هذا المكان و لن يكون شربه منه إلا و أن يضع فاه عليه فيشرب منه و هو تفسير الكرع كما لو حلف لا يشرب من هذا الكوز .
ألا ترى أنه لو شرب من إناء أخذ فيه الماء من الفرات كان شاربا من ذلك الإناء حقيقة لا من الفرات .
و الماء الواحد لا يشرب من مكانين من كل واحد منهما حقيقة و لهذا لو قال شربت من الإناء لا من الفرات كان مصدقا و لو قال على القلب كان مكذبا فدل أن الشرب من الفرات هو الكرع منه و أنه ممكن و مستعمل في الجملة .
و قد روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى قوما فقال : [ هل عندكم من ماء بات في شن و إلا كرعنا ] و يستعمله كثيرا في زماننا من أهل الرساتيق على أنه لم يكن فعلا مستعملا فذا لا يوجب كون الاسم منقولا عن الحقيقة بعد أن كان الاسم مستعملا فيه تسمية و نطقا كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الخنزير إنه يحنث و إن كان لا يؤكل عادة لانطلاق الاسم عليه حقيقة تسمية و نطقا و بهذا تبين أن قلة الحقيقة وجودا لا يسلب اسم الحقيقة عن الحقيقة بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر لأن ههنا كما لا يمكن جعل هذه الكلمة لتبعيض ما دخلت عليه بخروج الشجرة و القدر من أن يكون محلا للأكل لا يمكن جعلها ابتداءين لغاية الأكل لأن حقيقة الأكل لا تحصل من المكان بل من اليد لأن المأكول مستمسك في نفسه و الأكل عبارة عن البلع عن مضغ و لا يتأتى فيه المضغ بنفسه فلم يمكن جعلها لابتداء الغاية فأضمر فيه ما يتأتى فيه الأكل و هو الثمرة في الشجرة و المطبوخ في القدر فكان من للتبعيض و ههنا أمكن جعلها لابتداء الغاية لأن الماء يشرب من مكان لا محالة لانعدام استمساكه في نفسه إذ الشرب هو البلع من غير مضغ و ما يمكن ابتلاعه من غير مضغ لا يكون له في نفسه استمساك فلا بد من حامل له يشرب منه و الله عز و جل أعلم .
و لو شرب من نهر يأخذ من الفرات لم يحنث في قولهم جميعا أما عنده فلا يشكل لأن هذا النهر ليس بفرات فصار كما لو شرب من آنية و أما عندهما فلأنهما يعتبران العرف و العادة و من شرب من نهر يأخذ من الفرات لا يعرف شاربا من الفرات لأن الشرب من الفرات عندهما هو أخذ الماء المفضي إلى الشرب من الفرات و لم يوجد ههنا لأنه أخذ من نهر لا يسمى فراتا .
و لو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر أخذ الماء من الفرات فإنه شرب منه بالاغتراف بالآنية أو بالاستقاء براوية يحنث بالإجماع و إن كرع منه يحنث في ظاهر الراوية .
و روى عن أبي يوسف أنه لا يحنث و وجه أن النهر لما أخذ الماء من الفرات فقد صار مضافا إليه فانقطعت الإضافة إلى الفرات .
و وجه ظاهر الرواية : أنه منع نفسه عن شرب جزء من ماء الفرات لأن كلمة من دخلت في الماء صلة للشرب و هو قابل لفعل الشرب فكانت للتجزئة و بالدخول في نهر انشعب من الفرات لا تنقطع إليه النسبة كما لا تنقطع بالاغتراف بالآنية و الاستقاء بالرواية .
ألا ترى أن ماء زمزم ينقل إلينا و نتبرك به و نقول : شربن من ماء زمزم و لو حلف لا يشرب من ماء دجلة فهذا و قوله لا أشرب من دجلة سواء لأنه ذكر الشرب من النهر فكان على الاختلاف .
و روى المعلى عن محمد فيمن حلف لا يشرب من نهر يجري ذلك النهر إلى دجلة فأخذ من دجلة من ذلك الماء فشربه لم يحنث لأنه قد صار من ماء دجلة لزوال الإضافة إلى نهر الأول بحصوله في دجلة .
و لو حلف لا يشرب من هذا الجب فهو على الاختلاف حتى لو اغترف من مائه في إناء آخر فشرب لم يحنث حتى يضع فاه على الجب في قول أبي حنيفة و عندهما يحنث و من مشايخنا من قسم الجواب في الجب فقال : إن كان ملآن فهو على الاختلاف لأن الحقيقة مقصورة الوجود و إن كان غير ملآن فاغترف يحنث بالإجماع لعدم تصور الحقيقة فتنصرف يمينه إلى المجاز .
و لو حلف لا يشرب من هذا الكوز انصرفت يمينه إلى الحقيقة إجماعا لتصور الحقيقة عنده و عندهما للعرف فإن نقل الماء من كوز إلى كوز و شرب من الثاني لا يسمى شاربا من الكوز الأول .
و إن حلف لا يشرب من ماء هذا الجب فاغترف منه بإناء فشرب حنث بالإجماع لأنه عقد يمينه على ماء ذلك الجب وقد شرب من مائه فإن حول ماءه إلى جب آخر فشرب منه فالكلام فيه كالكلام فيمن حلف لا يشرب من ماء الفرات فيشرب من نهر يأخذ الماء من الفرات وقد مر .
و لو قال : لا أشرب من ماء هذا الجب فالكلام في قوله : لا أشرب من ماء دجلة و قد ذكرناه و لو حلف لا يشرب من هذه البئر أو من مائها فاستقى منها و شرب حنث لأن الحقيقة غير متصورة الوجود فيصرف إلى المجاز و قالوا فيمن حلف لا يشرب من ماء المطر فمدت الدجلة من المطر فشرب لم يحنث لأنه إذا حصل في الدجلة انقطعت الإضافة إلى المطر فإن شرب من ماء واد سال من المطر لم يكن فيه ماء قبل ذلك أو جاء من ماء مطر مستنقع في قاع حنث لأنه لما لم يضف إلى نهر بقيت الإضافة إلى المطر كما كانت .
و لو حلف لا يشرب من ماء فرات فشرب من ماء دجلة أو نهر آخر أو بئر عذبة يحنث لأنه منع نفسه من شرب ماء .
عذب إذ الفرات في اللغة عبارة عن العذاب قال الله عز و جل { و أسقيناكم ماء فراتا } و لما أطلق الماء و لم يضفه إلى الفرات فقد جعل الفرات نعتا للماء و قد شرب من الماء المنعوت فيحنث و في الفصل الأول أضاف الماء إلى الفرات و عرف الفرات بحرف التعريف فيصرف إلى النهر المعروف المسمى بالفرات .
و أما الحلف على الذوق فالذوق هو إيصال المذوق إلى الفم ابتلعه أو لا بعد أن وجد طعمه لأنه من أحد الحواس الخمس الموضوعة للعلم بالمذوقات كالسمع و البصر و الشم و اللمس للعلم بالمسموعات و المبصرات و المشمومات و الملموسات و العلم بالطعم يحصل بحصول الذوق في فمه سواء ابتلعه أو مجه فكل أكل فيه ذوق و ليس كل ذوق أكلا إذا عرف هذا فنقول إذا حلف لا يذوق طعاما أو شرابا فأدخله في فيه حنث لحصول الذوق لوجود معناه و هو ما ذكرنا .
فإن قال : أردت بقولي لا أذوقه لا آكله و لا أشربه دين فيما بينه و بين الله عز و جل و لا يدين في القضاء لأنه قد يراد بالذوق الأكل و الشرب يقال في العرف ما ذقت اليوم شيئا و ما ذقت إلا الماء و يراد به الأكل و الشرب فإذا نوى ذلك لا يحنث فيما بينه و بين الله تعالى حتى يأكل أو يشرب لأنه نوى ما يحتمله كلامه و لا يصدق في القضاء لعدوله عن الظاهر .
قال هشام : و سألت محمدا عن رجل حلف لا يذوق في منزل فلان طعاما و لا شرابا فذاق منه شيئا أدخله فاه و لم يصل إلى جوفه فقال محمد هذا على الذوق إلا أن يكون تقدم كلام .
قلت : فإن كان قال له المحلوف عليه تغد عندي اليوم فحلف لا يذوق في منزله طعاما و لا شرابا فقال محمد : هذا على الأكل ليس على الذوق و إنما كان كذلك لما بينا أن حقيقة الذوق هي اكتساب سبب العلم بالمذوق و قد يستعمل ذلك في الأكل و الشرب فإن تقدمت هناك دلالة حال خرج الكلام عليه حملت اليمين عليها و إلا عملت بحقيقة اللفظ .
و لو حلف لا يذوق الماء فتمضمض للصلاة لا يحنث و إن حصل له العلم بطعم الماء لأن ذلك لا يسمى ذوقا عرفا و عادة إذ المقصود منه التطهير لا معرفة طعم المذوق .
و لو حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا أو لا يذوق و نوى طعاما دون طعام أو شرابا دون شراب فجملة الكلام في هذا أن الحالف لا يخلو إما أن ينوي تخصيص ما هو مذكور و أما إن نوى تخصيص ما ليس بمذكور فإن نوى تخصيص ما هو مذكور بأن ذكر لفظا عاما و أراد به بعض ما دخل تحت اللفظ العام من حيث الظاهر يصدق فيما بينه و بين الله تعالى و لا يصدق في القضاء لأن التكلم بالعام على إرادة الخاص جائز إلا أنه خلاف الظاهر لأن اللفظ وضع دلالة على العموم و الظاهر من اللفظ الموضوع دلالة على العموم في اللغة إرادة العموم فكان نية الخصوص خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء و إن نوى تخصيص ما ليس بمذكور لا يصدق في القضاء و لا فيما بينه و بين الله عز و جل سواء كان التخصيص راجعا إلى الذات أو إلى الصفة أو إلى الحال لأن الخصوص و العموم من صفات الألفاظ دون المعاني فغير الملفوظ لا يحتمل التعميم و التخصيص و التقييد فإذا نوى التخصيص فقد نوى ما لا يحتمله كلامه فلم تصح نيته رأسا و إذا عرف هذا فتخرج عليه مسائل إذا قال إن أكلت طعاما أو شربت شرابا أو إن ذقت طعاما أو شرابا فعبدي حر و قال عنيت اللحم أو الخبز فأكل غيره لا يصدق في القضاء و يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأنه نوى التخصيص من اللفظ المذكور في موضع العموم كما بينا فيما تقدم أن قوله : إن أكلت طعاما بمعنى قوله لا آكل طعاما فيتناول بظاهره كل طعام فإذا نوى به بعض الأطعمة دون بعض فقد نوى الخصوص في اللفظ العام و أنه يحتمله لكنه خلاف للظاهر فلا يصدق قضاء و يدين فيما بينه و بين الله عز و جل .
و إن قال : إن أكلت أو ذقت أو شربت فعبدي حر و هو ينوي طعاما بعينه أو شرابا بعينه فأكل أو شرب غيره فإن عبده يعتق في القضاء و فيما بينه و بين الله عز و جل لأنه نوى التخصيص من غير المذكور إذ الطعام و الشراب ليسا بمذكورين بل يثبتان بطريق الاقتضاء و المقتضى لا عموم له .
و عند الشافعي : يدين فيما بينه و بين الله عز و جل و يزعم أن للمقتضى عموما و الصحيح قولنا لما ذكرنا أن العموم و الخصوص من صفات الموجود دون المعدوم إذ المعدوم لا يحتمل الصفة حقيقة إلا أنه يجعل موجودا بطريق الضرورة لصحة الكلام فيبقى فيما وراءه على حكم العدم .
و أما التخصيص الراجع إلى الصفة و الحال فنحو ما حكى بشر عن أبي يوسف في رجل قال : و الله لا أكلم هذا الرجل و هو قائم و عنى به ما دام قائما لكنه لم يتكلم بالقيام كانت نيته باطلة و حنث إن كلمه لأن الحال و الصفة ليست بمذكورة فلا تحتمل التخصيص .
و لو حلف لا يكلم هذا القائم يعني به ما دام قائما وسعه فيما بينه و بين الله تعالى لورود التخصيص على الملفوظ و كذلك إذا قال و الله لأضربن فلانا خميسين و هو ينوي بسوط بعينه فبأي سوط ضربه فقد خرج عن يمينه و النية باطلة لأن آلة الضرب ليست بمذكورة فبطلت نية التخصيص .
و نظير هذا ما حكى ابن سماعة عن محمد في رجل حلف و قال : و الله لا أتزوج امرأة و هو ينوي كوفية أو بصرية فقال : ليس في هذا نية فلا يصدق فيما بينه و بين الله عز و جل و لا في القضاء .
و لو قال : و الله لا أتزوج امرأة يعني امرأة كان أبوها يعمل كذا و كذا فهذا كله لا تجوز فيه النية .
و لو قال : و الله لا أتزوج امرأة يعني امرأة عربية أو حبشية قال هذا جائز يدين فيما نواه فقد جعل قوله : عربية أو حبشية بيان النوع و قوله : كوفية أو بصرية وصفا فجوز تخصيص النوع و لم يجوز تخصيص الوصف لأن الصفة ليست بمذكورة و الجنس مذكور و هو قوله : امرأة لأنه يتناول كل امرأة لأنه في موضع النفي فتعمل نيته في نوع دون نوع لاشتمال اسم الجنس على الأنواع .
و قال ابن سماعة عن محمد في رجل قال و الله لا أتزوج امرأة على ظهر الأرض ينوي امرأة بعينها قال يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأن اللفظ عام يحتمل تخصيص جنس أفراد العموم إلا أنه خلاف الظاهر فلا يصدق في القضاء قال : و لو قال لا أشتري جارية و نوى مولدة فإن نيته باطلة لأنه ليس بتخصيص نوع من جنس و إنما هو تخصيص صفة فأشبه الكوفية و البصرية .
و لو قال : و الله لا آكل الطعام أو لا أشرب الماء أو لا أتزوج النساء فيمينه على بعض الجنس لما بينا فيما تقدم و إن أراد به الجنس صدق لأنه نوى حقيقة كلامه و أما الحلف على الغداء و العشاء فلا بد من معرفة معنى الغداء و العشاء و معرفة وقتهما .
أما الأول : فالغداء و العشاء كل واحد منهما عبارة عن أكل ما يقصد به الشبع عادة فيعتبر في ذلك العادة في كل بلد فما كان غداء عندهم حملت اليمين عليه و لهذا قالوا أهل الحضر إذا حلفوا على ترك الغداء فشربوا اللبن لم يحنثوا لأنهم لا يتناولون ذلك للشبع عادة .
و لو حلف البدوي فشرب اللبن حنث لأن ذلك غداء في البادية و إذا حلف لا يتغذى فأكل غير الخبز من أرز أو تمر أو غيره حتى شبع لم يحنث ولم يكن ذلك غداء و كذلك إذا أكل لحما بغير خبز لم يحنث في قول أبي يوسف و محمد كذا ذكر الكرخي قال : و قالا ليس الغداء في مثل الكوفة و البصرة إلا على الخبز و المرجع في هذا إلى العادة فما كان غداء معتادا عند الحالف حنث و ما لا فلا و روى هشام عن أبي حنيفة في أكل الهريسة و الأرز أنه يحنث و روى عن أبي يوسف في الهريسة و الفالوذج والخبيص أنه لا يحنث إلا أن يكون ذلك غداءه و الأصل أن غداء كل بلد ما تعارفونه غداء فيعتبر عادة الحالف فيما يحلف عليه فإن كان الحالف كوفيا يقع على خبز الحنطة و الشعير و لا يقع على اللبن و السويق و إن كان بدويا يقع على اللبن و السويق و إن كان حجازيا يقع على السويق و في بلادنا يقع على خبز الحنطة .
و أما الثاني فنقول وقت الغداء من طلوع الفجر إلى وقت الزوال لأن الغداء عبارة عن أكل الغدوة و ما بعد نصف النهار لا يكون غدوة و العشاء من وقت الزوال إلى نصف الليل لأنه مأخوذ من أكل العشية و أول أوقات العشاء ما بعد الزوال .
وقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاتي .
العشاء ركعتين يريد الظهر و العصر ] و في عرف ديارنا العشاء ما بعد وقت صلاة العصر و أما السحور فما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر لأنه مأخوذ من السحر و هو وقت السحر و لم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الغداء و العشاء .
وقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال لأمته إن لم تتعشي الليلة فعبدي حر فأكلت لقمة واحدة لم تزد عليها فليس هذا بعشاء و لا يحنث حتى تأكل أكثر من نصف شبعها لأن من أكل لقمة يقول في العادة ما تغديت و لا تعشيت فإذا أكل أكثر أكله يسمى ذلك غداء في العادة .
و روى المعلى عن محمد : فيمن حلف ليأتينه غدوة أنه إذا أتاه بعد طلوع الفجر إلى نصف النهار فقد بر و هو غدوة لما ذكرنا أن هذا وقت الغداء و لو قال ليأتينه ضحوة فهو من بعد طلوع الشمس من الساعة التي تحل فيها الصلاة إلى نصف النهار لأن هذا وقت صلاة الضحى .
قال محمد : إذا حلف لا يصبح فالتصبيح عندي ما بين طلوع الشمس و بين ارتفاع الضحى الأكبر فإذا ارتفع الضحى الأكبر ذهب وقت التصبيح لأن التصبيح تفعيل من الصباح و التفعيل للتكثير فيقتضي زيادة على ما يفيده الاصباح و روى المعلى عن محمد فيمن حلف لا يكلمه إلى السحر قال إذا دخل ثلث الليل الأخير فليكلمه لأن وقت السحر ما قرب من الفجر .
قال هشام عن محمد و المساء مساآن أحدهما إذا زالت الشمس ألا ترى أنك تقول إذا زالت الشمس كيف أمسيت و المساء الأخير إذا غربت الشمس فإذا حلف بعد الزوال لا يفعل كذا حتى يمسي كان ذلك على غيبوبة الشمس لأنه لا يمكن حمل اليمين على المساء الأول فيحمل على الثاني و الله عز و جل أعلم .
فصل : و أما الحلف على اللبس و الكسوة إذا حلف لا يلبس قميصا أو سراويل أو رداء فاتزر بالسراويل أو القميص أو الرداء لم يحنث و كذا إذا اعتم بشيء من ذلك لأن المطلق تعتبر فيه العادة و الاتزار و التعميم ليس بمعتاد في هذه الأشياء فلا يحنث و لو حلف لا يلبس هذا القميص أو هذا الرداء فعلى أي حال لبس ذلك حنث و إن اتزر بالرداء و ارتدى بالقميص أو اغتسل فلف القميص على رأسه و كذلك إذا حلف لا يلبس هذه العمامة فألقاها على عاتقه لأن اليمين إذا تعلقت بعين اعتبر فيها وجود الاسم و لا تعتبر فيها الصفة المعتادة لأن الصفة في الحاضر غير معتبرة و الاسم باق و هذا ليس بمعتاد فيحنث به .
و لو حلف لا يلبس حريرا فلبس مصمتا لم يحنث لأن الثوب ينسب إلى اللحمة دون السداء لأنها هي الظاهرة منه و السداء ليس بظاهر .
و نظير مسائل الباب ما قال في الجامع فيمن حلف لا يلبس قميصين فلبس قميصا ثم نزعه ثم لبس آخر فإنه لا يحنث حتى يلبسهما معا لأن المفهوم من لبس القميصين في العرف هو أن يجمع بينهما .
و لو قال : و الله لا ألبس هذين القميصين فلبس أحدهما ثم نزعه و لبس الآخر حنث لأن اليمين ههنا وقعت على عين فاعتبر فيها الاسم دون اللبس المعتاد و قالوا فيمن حلف لا يلبس شيئا و لا نية له فلبس درعا من حديد أو درع امرأة أو خفين أو قلنسوة إنه يحنث لأن ذلك كله يتناوله اسم اللبس .
و لو حلف لا يلبس سلاحا فتقلد سيفا أو تنكب قوسا أو ترسا لم يحنث لأن هذا لا يسمى لبسا يقال : تقلد السيف و لا يقال لبسه و لو لبس درعا من حديد أو غيره حنث لأن السلاح هكذا يلبس و قالوا فيمن حلف لا يلبس قطنا فلبس ثوب قطن يحنث لأن القطن لا يحتمل اللبس حقيقة فيحمل على لبس ما يتخذ منه فإن لبس قباء ليس بقطن و حشوه قطن لم يحنث إلا أن يعني الحشو لأن الحشو ليس بملبوس فلا تتناوله اليمين فإن لبس ثوبا من قطن و كتان حنث لأن اليمين على القطن تتناول ما يتخذ منه و بعض الثوب يتخذ منه .
و روى بشر عن أبي يوسف في رجل حلف ليقطعن من هذا الثوب قميصا و سراويل فقطعه قميصا فلبسه ما شاء ثم قطع من القميص سراويل فلبسه فإنه يبر في يمينه لأن القميص يسمى ثوبا فقد قطع الثوب سراويل و اسم الثوب لم يزل فلا يحنث .
وإن حلف على قميص ليقطعن منه قباء و سراويل فقطع منه قباء فلبسه أو لم يلبسه ثم قطع من القباء سراويل فإنه قد حنث في يمينه حين قطع القميص قباء لأنه قطع السراويل مما لا يسمى قميصا و يمينه اقتضت أن يقطع السراويل من قميص لا من قباء .
و قال في الزيادات إذا قال عبده حر إن لم يجعل من هذا الثوب قباء و سراويل و لا نية له فجعله كله قباء و خاطه ثم نقض القباء و جعله سراويل فإنه لا يحنث إلا أن يكون على أن يجعل من بعضه هذا أو بعضه هذا و هو على الحالة الأولى .
و قال عمرو عن محمد : في رجل حلف لا يلبس هذا الثوب فقطعه سراويلين فلبس سراويل بعد سراويل لا يحنث .
و قال محمد : إذا صار سراويلين خرج من أن يكون ثوبا لأن لبس الثوب المشار إليه يلبس جميعه دفعة واحدة .
و روي عن محمد أنه قال : سمعت أبا يوسف فيمن حلف لا يلبس هذا الثوب فأخذ منه قلنسوات فلبسها لم يحنث لأنه لما قطعه قلنسوات لم يبق اسم الثوب لأن القلنسوة لا تسمى ثوبا و إن قطعه قميصا ففضل منه فضلة عن القميص رقعة صغيرة يتخذ منها لبنه أو ما أشبه ذلك فإنه يحنث لأنه هذا القدر مما لا يعتد به فكان لابسا كمن حلف لا يأكل رمانة فأكلها إلا حبة و كذا لو اتخذ من الثوب جوارب فلبسها لا يحنث لأنه لما قطعه جوارب زال اسم الثوب عنها و لو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فقطع بعضه فلبسه فإن كان لا يكون ما قطع إزارا أو رداء لم يحنث فإن بلغ ذلك حنث وإن قطعه سراويل فلبسه حنث لأن اسم الثوب إنما يقع على ما تستر به العورة و أدنى ذلك الإزار فما دونه ليس بلبس ثوب و كذا المرأة إذا حلفت لا تلبس ثوبا فلبست خمارا أو مقنعة لم تحنث و المراد بذلك الخمار الذي لم يبلغ مقدار الإزار فإذا بلغ ذلك الإزار حنث بلبسه وإن لم تستر به العورة .
و كذلك إذا لبس الحالف عمامة لم يحنث إلا أن يلف على رأسه و يكون قدر إزار أو رداء أو يقطع من مثلها قميصا أو درعا أو سراويل لأن العمامة إذا لم تبلغ مقدار الإزار فلابسها لا يسمى لابس ثوب فلم يحنث و إذا بلغت مقدار الإزار أو الرداء فقد لبس ما يسمى ثوبا إلا أنه ليس في موضع مخصوص من بدنه فهو كما لو لبس القميص على رأسه .
و لو حلف لا يلبس من غزل فلانة و لم يقل ثوبا لم يحنث في التكة و الزر و العروة و اللبنة روي ذلك عن محمد لأن هذا ليس بلبس في العادة و لا يقال لمن كان عليه لابس .
و قال أبو يوسف : إن لبس رقعة في ثوب شبرا في شبر حنث لأن هذا عنده في حكم الكثير فصار لابسا له .
و قال محمد : إذا حلف لا يلبس ثوبا لا يحنث في العمامة و المقنعة و يحنث في السراويل و قد قالوا : إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فلبس ثوب خز غزلته حنث لأن ذلك ينسب إلى الثوب فإنه كان كساء من غزلها سداه قطن فإذا كان ذلك يسمى ثوبا حنث و إلا لم يحنث .
و لو حلف لا يلبس ثوبا من نسج فلان فنسجه غلمانه فإن كان فلان يعمل بيده لم يحنث إلا أن يلبس من عمله و إن كان فلان لا يعمل بيده حنث لأن حقيقة النسج ما فعله الإنسان بنفسه فإن أمكن الحمل على الحقيقة يحمل عليها و إن لم يكن يحمل على المجاز فإذا كان فلان لا ينسج بيده لم تكن الحقيقة مراده باليمين فيحمل على المجاز و هو الأمر بالعمل .
و روى بشر عن أبي يوسف فيمن حلف لا يلبس شيئا من السواد قال هذا على ما يلبس مثله و لا يحنث في التكة و الزر و العروة لأن ذلك ليس بلبس و إن حلف لا يكسو فلانا شيئا و لا نية له فكساه قلنسوة أو خفين أو جوربين حنث لأن الكسوة اسم لما يكسى به و ذلك يوجد في القليل و الكثير .
و روى عمرو عن محمد : إذا حلف لا يكسو امرأة فبعث إليها مقنعة قال : لا يحنث فجعل الكسوة عبارة عما يجزئ في كفارة اليمين و أجرى ذلك مجرى قوله لا ألبس ثوبا .
و لو حلف لا يكسو فلانا ثوبا فأعطاه دراهم يشتري بها ثوبا لم يحنث لأنه لم يكسه و إنما وهب له دراهم و شاوره فيما يفعل بها و لو أرسل إليه بثوب كسوة حنث لأن الحقوق لا تتعلق بالرسول و إنما تتعلق بالمرسل