الحلف على أمور شرعيه وما يقع منها على الصحيح و الفاسد أو على الصحيح دون الفاسد .
فصل : و أما النوع الثاني : و هو الحلف على أمور شرعية و ما يقع منها على الصحيح و الفاسد أو على الصحيح دون الفاسد مثل البيع و الشراء و الهبة و المعارضة و العارية و النحلة و العطية و الصدقة و القرض و التزويج و الصلاة و الصوم و نحو ذلك إذا حلف لا يشتري ذهبا و لا فضة فاشترى دراهم أو دنانير أو آنية أو تبرا أو مصوغ حلية أو غير ذلك مما هو ذهب أو فضة فإنه يحنث في قول أبي يوسف و قال محمد لا يحنث في الدراهم و الدنانير .
و الأصل في جنس هذه المسائل أن أبا يوسف يعتبر الحقيقة و محمد يعتبر العرف لمحمد أن اسم الذهب و الفضة إذا أطلق لا يراد به الدرهم و الدنانير في العرف ألا ترى أنها اختصت باسم على حدة فلا يتناولها مطلق اسم الذهب و الفضة و لأبي يوسف أن اسم الذهب و الفضة يقع على الكل لأنه اسم جنس و كونه مضروبا و مصوغا و تبرا أسماء أنواع له و اسم الجنس يتناول الأنواع كاسم الآدمي .
و الدليل عليه قوله تعالى : { و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } فدخل تحت هذا الوعيد كاثر المضروب و غيره .
و لو حلف لا يشتري حديدا فهو على مضروب ذلك و تبره سلاحا كان أو غير سلاح بعد أن يكون حديدا في قول أبي يوسف .
و قال محمد : إن اشترى شيئا من الحديد يسمى بائعه حدادا يحنث و إن كان بائعه لا يسمى حدادا لا يحنث و بائع التبر لا يسمى حدادا فلا يتناولها مطلق اسم الحديد و لها اسم يخصها فلا يدخل تحت اليمين .
و لأبي يوسف : أن الحديد اسم جنس فيتناول المعمول و غير المعمول و قال أبو يوسف في باب الذهب و الفضة إنه إن كان له نية دين فيما بينه و بين الله سبحانه و النية في هذا واسعة لأنها تخصيص المذكور .
و قال في باب الحديد : لو قال عنيت التبر فاشترى إناء لم يحنث و لو قال : عنيت قمقما فاشترى سيفا أو إبرا أو سكاكين أو شيئا من السلاح لم يحنث و يدين في القضاء و هذا مشكل على مذهبه لأن الاسم عنده عام فإذا نوى شيئا منه بعينه فقد عدل عن ظاهر العموم فينبغي أن لا يصدق في القضاء و إن صدق فيما بينه و بين الله تعالى .
و قال محمد في الزيادات : لو حلف لا يشتري حديدا و لا نية له فاشترى درع حديد أو سيفا أو سكينا أو ساعدين أو بيضة أو إبرا أو مسال لا يحنث و إن اشترى شيئا غير مضروب أو إناء من آنية الحديد أو مسامير أو أقفالا أو كانوا حديد يحنث قال : لأن الذي يبيع السلاح و الإبر و المسال لا يسمى حدادا و الذي يبيع ما وصفت لك يسمى حدادا .
و قال أبو يوسف : إن اشترى باب حديد أو كانوا حديد أو إناء حديد مكسور أو نصل سيف مكسور حنث فأبو يوسف اعتبر الحقيقة و هو أن ذلك كله حديد فتناوله اليمين و محمد اعتبر العرف و هو أنه لا يسمى حديدا في العرف حتى لا يسمى بائعه حدادا قال أبو يوسف : و لو حلف لا يشتري صفرا فاشترى طشت صفر أو كوزا أو تورا حنث و كذلك عند محمد أما عند أبي يوسف فلاعتبار الحقيقة و أما عند محمد فلأن بائع ذلك يسمى صفارا .
و قال محمد : لو اشترى فلوسا لا يحنث لأنها لا تسمى صفرا في كلام الناس : لو حلف لا يشتري صوفا فاشترى شاة على ظهرها صوف لم يحنث .
و الأصل فيه أن من حلف لا يشتري شيئا فاشترى غيره و دخل المحلوف عليه في البيع تبعا لم يحنث و إن دخل مقصودا يحنث و الصوف ههنا لم يدخل في العقد مقصودا لأن التسمية لم تتناول الصوف و إنما دخل في العقد تبعا للشاة و كذلك لو حلف لا يشتري آجرا أو خشبا أو قصبا فاشترى دارا لم يحنث لأن البناء يدخل في العقد تبعا لدخوله في العقد بغير تسمية فلم يكن مقصودا بالعقد و إنما يدخل فيه تبعا .
و إن حلف لا يشتري ثمر نخل فاشترى أرضا فيها نخل مثمرة و شرط المشتري الثمرة يحنث لأن الثمرة دخلت في العقد مقصودة لا على وجه التبع ألا ترى أنه لو لم يسمها لا تدخل في البيع و كذلك لو حلف لا يشتري بقلا فاشترى أرضا فيها بقل و اشترط المشتري البقل فإنه يحنث لدخول البقل في البيع مقصودا لا تبعا .
و لو حلف لا يشتري لحما فاشترى شاة حية لا يحنث لأن العقد لم يتناول لحمها لأن لحم الشاة الحية محرم لا يجوز العقد عليه و كذلك إن حلف أن لا يشتري زيتا فاشترى زيتونا لأن العقد لم يقع على الزيت ألا ترى أنه ليس في ملك البائع .
و على هذا قالوا فيمن حلف لا يشتري قصبا و لا خوصا فاشترى بوريا أو زنبيلا من خوص لم يحنث لأن الاسم لم يتناول ذلك و كذلك لو حلف لا يشتري جديا فاشترى شاة حاملا بجدي و كذلك لو حلف لا يشتري لبنا فاشترى شاة في ضرعها لبن .
و كذلك لو حلف لا يشتري مملوكا صغيرا فاشترى أمة حاملا و كذلك لو حلف لا يشتري دقيقا فاشترى حنطة و قالوا : لو حلف لا يشتري شعيرا فاشترى حنطة فيها شعير لم يحنث لأن الشعير ليس بمعقود عليه مقصودا و إنما يدخل في العقد تبعا بخلاف ما إذا حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها شعير .
لأن الأكل فعل فإذا وقع في عينين لم تتبع إحداهما الأخرى فأما الشراء فهو عقد و بعض العين مقصودة بالعقد و بعضها غير مقصودة وقد كان قول أبي يوسف الأول أنه إذا حلف لا يشتري صوفا فاشترى شاة على ظهرها صوف يحنث .
و لو حلف لا يشتري لبنا فاشترى شاة في ضرعها لبن لم يحنث و قال : لأن الصوف ظاهر فتناوله العقد .
و أما اللبن فباطن فلم يتناوله ثم رجع فسوى بينهما لما بينا .
و لو حلف لا يشتري دهنا فهو على دهن جرت عادة الناس أن يدهنوا به فإن كان مما ليس في العادة أن يدهنوا به مثل الزيت و البزر و دهن الأكارع لم يحنث لأن الدهن عبارة عما يدهن به و الأيمان محمولة على العادة فحملت اليمين على الأدهان الطيبة .
و إن حلف لا يدهن بدهن و لا نية له فادهن بزيت حنث و إن ادهن بسمن لم يحنث لأن الزيت لو طبخ بالطيب صار دهنا فأجراه مجرى الأدهان من وجه و لم يجره مجراها من وجه حنث قال في الشراء لا يحنث و في الأدهان يحنث فأما السمن فإنه لا يدهن به بحال في الوجهين فلم يحنث و كذلك دهن الخروع و البزور و لو اشترى زيتا مطبوخا و لا نية له حين حلف يحنث لأن الزيت المطبوخ بالنار و الزئبق دهن يدهن به كسائر الأدهان .
و لو حلف لا يشتري بنفسجا أو حناء أو حلف لا يشمهما فهو على الدهن و الورق في البابين جميعا وقد ذكر في الأصل إذا حلف لا يشتري بنفسجا أنه على الدهن دون الورق و هذا على عادة أهل الكوفة لأنهم إذا أطلقوا البنفسج أرادوا به الدهن فأما في غير عرف الكوفة فالاسم على الورق فتحمل اليمين عليه و الكرخي حمله عليهما و هو رواية عن أبي يوسف أما الحناء و الورد فهو على الورق دون الدهن إلا أن ينوي الدهن فيدين فيما بينه و بين الله تعالى و في القضاء لأن اسم الورد و الحناء إذا أطلق يراد به الرق لا الدهن .
و ذكر في الجامع الصغير أن البنفسج على الدهن و الورد على ورق الورد و جعل في الأصل الخيري مثل الورد و الحناء فحمله على الورق .
و لو حلف لا يشتري بزرا فاشترى دهن بزر حنث و إن اشترى حبا لم يحنث لأن إطلاق اسم البزر يقع على الدهن لا على الحب .
و لو حلف لا يبيع أو لا يشتري فأمر غيره ففعل فجملة الكلام فيمن حلف على فعل فأمر غيره ففعل إن فعل المحلوف عليه لا يخلو إما أن يكون له حقوق أو لا حقوق له فإن كان له حقوق فإما أن ترجع إلى الفاعل أو إلى الآمر أو لا فإن كان له حقوق ترجع إلى الفاعل كالبيع و الشراء و الإجارة و القسمة لا يحنث لأن حقوق هذه العقود إذا كانت راجعة إلى فاعلها لا إلى الآمر بها كانت العقود مضافة إلى الفاعل لا إلى الآمر على أن الفاعل هو العاقد في الحقيقة لأن العقد فعله و إنما للآمر حكم العقد شرعا لا لفعله .
و عند بعض مشايخنا : يقع الحكم له ثم ينتقل إلى الآمر فلم يوجد منه فعل المحلوف عليه فلا يحنث إلا إذا كان الحالف ممن لا يتولى العقود بنفسه فيحنث بالأمر لأنه إنما يمتنع عما يوجد منه عادة و هو الأمر بذلك لا الفعل بنفسه و لو كان الوكيل هو الحالف قالوا : يحنث لما ذكرنا أن الحقوق راجعة إليه و أنه هو العاقد حقيقة لا الآمر و إن كانت حقوقه راجعة إلى الآمر أو كان مما لا حقوق له كالنكاح و الطلاق و العتاق و الكتابة و الهبة و الصدقة و الكسوة و الاقتضاء و القضاء و الحقوق و الخصومة و الشركة بأن حلف لا يشارك رجلا فأمر غيره فعقد عقد الشركة و الذبح و الضرب و القتل و البناء والخياطة والنفقة و نحوها فإذا حلف لا يفعل شيئا من هذه الأشياء ففعله بنفسه أو أمر غيره حنث لأن ما لا حقوق له أو ترجع حقوقه إلى الأمر لا إلى الفاعل يضاف إلى الآمر لا إلى الفاعل .
ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يقول تزوجت و إنما يقول زوجت فلانا و الوكيل بالطلاق يقول طلقت امرأة فلان فكان فعل المأمور مضافا إلى الآمر و اختلفت الرواية عن أبي يوسف في الصلح روى بشر بن الوليد عنه أن من حلف لا يصالح فوكل بالصلح لم يحنث لأن الصلح عقد معاوضة كالبيع و روى ابن سماعة عنه أنه يحنث لأن الصلح إسقاط حق كالإبراء .
فإن قال الحالف فيما لا ترجع حقوقه إلى الفاعل بل إلى الآمر كالنكاح و الطلاق و العتاق نويت أن ألي ذلك بنفسي يدين فيما بينه و بين الله تعالى و لا يدين في القضاء لأن هذه الأفعال جعلت مضافة إلى الآمر لرجوع حقوقها إليه لا إلى الفاعل وقد نوى خلاف ذلك الظاهر فلا يصدق في القضاء و يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأنه نوى المحتمل و إن كان خلاف الظاهر .
و لو قال : فيما لا حقوق له من الضرب و الذبح عنيت أن ألي ذلك بنفسي يصدق فيما بينه و بين الله تعالى و في القضاء أيضا لأن الضرب و الذبح من الأفعال الحقيقية و أنه بحقيقته وجد من المباشر و ليس بتصرف حكمي فيه لتغير وقوعه حكما لغير المباشر فكانت العبرة فيه للمباشرة فإذا نوى به أن يلي بنفسه فقد نوى الحقيقة فيصدق قضاء و ديانة .
و لو حلف لا يبيع من فلان شيئا فأوجب البيع لا يحنث ما لم يقبل المشتري و لو حلف لا يهب لفلان شيئا أو لا يتصدق عليه أو لا يعيره أو لا ينحل له أو لا يعطيه ثم وهب له أو تصدق عليه أو أعاره أو نحله أو أعطاه فلم يقبل المحلوف عليه يحنث عند أصحابنا الثلاثة و عند زفر لا يحنث و نذكر المسألة و الفرق بين الهبة و أخوتها و بين البيع في كتاب الهبة إن شاء الله تعالى .
و أما القرض فقد روي عن محمد أنه لا يحنث ما لم يقبل و عن أبي يوسف روايتان في رواية مثل قول محمد و في رواية يحنث من غير قبول .
وجه هذه الرواية أن القرض لا تقف صحته على تسمية عوض فأشبه الهبة وجه الرواية الأخرى أن القرض يشبه البيع لأنه تمليك بعوض .
و قد قال أبو يوسف على هذه الرواية : لو حلف لا يستقرض من فلان شيئا فاستقرضه فلم يقرضه إنه حانث فرق بين القرض و بين الاستقراض لأن الاستقراض ليس بقرض بل هو طلب القرض كالسوم في باب البيع .
و لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا و قبل المشتري و قبض يحنث لأن اسم البيع يتناول الصحيح و الفاسد و هو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب و لأن المقصود من البيع هو الوصول إلى العوض و هذا يحصل بالبيع الفاسد إذا اتصل به القبض لأنه يفيد الملك بعد القبض و لو باع بالميتة و الدم لا يحنث لأنه ليس ببيع لانعدام معناه و هو ما ذكرنا و لانعدام حصول المقصود منه و هو الملك لأنه لا يقبل الملك و لو باع بيعا فيه خيار للبائع أو للمشتري لم يحنث في قول أبي يوسف و حنث في قول محمد .
وجه قول محمد : أن اسم البيع كما يقع على البيع الثابت يقع على البيع الذي فيه خيار فإن كل واحد منهما يسمى بيعا في العرف إلا أن الملك فيه يقف على أمر زائد و هو الإجازة أو على سقوط الخيار فأشبه البيع الفاسد .
و لأبي يوسف أن شرط الخيار يمنع انعقاد البيع في حق الحكم فأشبه الإيجاب بدون القبول قال محمد سمعت أبا يوسف قال فيمن قال إن اشتريت هذا العبد فهو حر فاشتراه على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فمضت المدة الثلاث و وجب البيع يعتق و أنه على أصله صحيح لأن اسم البيع عنده لا يتناول البيع المشروط فيه الخيار فلا يصير مشتريا بنفس القبول بل عند سقوط الخيار و العبد في ملكه عند ذلك يعتق .
و ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي في البيع بشرط خيار البائع أو المشتري أنه يحنث و لم يذكر الخلاف و أصل فيه أصلا و هو أن كل بيع يوجب الملك أو تلحقه الإجازة يحنث به و ما لا فلا هذا إذا حلف على البيع و الشراء بطلاق امرأته أو عتاق عبده بأن قال لامرأته أنت طالق أو عبده حر فأما إذا حلف على ذلك بعتق العبد المشترى أو المبيع فإن كان الحلف على الشراء بأن قال إن اشتريت هذا العبد فهو حر فاشتراه ينظر إن اشتراه شراء جائزا باتا عتق بلا شك و كذلك لو كان المشتري فيه بالخيار أما على قولهما فلا يشكل لأن خيار المشتري لا يمنع وقوع الملك له .
و أما على قول أبي حنيفة فلان المعلق بالشرط يصير كالمتكلم به عند الشرط فيصير كأنه أعتقه بعدما اشتراه بشرط الخيار و لو أعتقه يعتق لأن إقدامه على الإعتاق يكون فسخا للخيار و لو اشتراه على أن البائع فيه بالخيار لا يعتق لأنه لم يملكه لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف و سواء أجاز البائع البيع أو لم يجز لأنه ملكه بالإجازة لا بالعقد .
و ذكر الطحاوي : أنه إذا أجاز البائع البيع يعتق لأن الملك يثبت عند الإجازة مستندا إلى وقت العقد بدليل أن الزيادة الحادثة بعد العتق قبل الإجازة تدخل في العقد هذا كله إن اشتراه شراء صحيحا فإن اشتراه شراء فاسدا فإن كان في يد البائع لا يعتق لأنه على ملك البائع بعد و إن كان في يد المشتري و كان حاضرا عنده وقت العقد لأنه صار قابضا له عقيب العقد فملكه و إن كان غائبا في بيته أو نحوه فإن كان مضمونا بنفسه كالمغصوب يعتق لأنه ملكه بنفس الشراء و إن كان أمانة أو كان مضمونا بغيره كالرهن لا يعتق لأنه لا يصير قابضا عقيب العقد هذا إذا كان الحلف على الشراء فإن كان على البيع فقال إن بعتك فأنت حر فباعه بيعا جائزا أو كان المشتري بالخيار لا يعتق لأنه زال ملكه عنه بنفس العقد و العقد لا يصح بدون الملك .
و إن كان الخيار للبائع يعتق لأنه كان في ملكه و قد وجد شرطه فيعتق و لو باعه بيعا فاسدا فإن كان في يد البائع أو في يد المشتري غائبا عنه بأمانة أو برهن يعتق لأنه لم يزل ملكه عنه و إن كان في يد المشتري حاضرا أو غائبا مضموما بنفسه لا يعتق لأنه بالعقد زال ملكه عنه .
و لو حلف لا يتزوج هذه المرأة فهو على الصحيح دون الفاسد حتى لو تزوجها نكاحا فاسدا لا يحنث لأن المقصود من النكاح الحل و لا يثبت بالفاسد لأنه لا يثبت بسببه و هو الملك بخلاف البيع فإن المقصود منه الملك و أنه يحصل بالفاسد و كذلك لو حلف لا يصلي و لا يصوم فهو على الصحيح حتى لو صلى بغير طهارة أو صام بغير نية لا يحنث لأن المقصود منه التقرب إلى الله سبحانه و تعالى و لا يحصل ذلك بالفاسد .
و لو كان ذلك كله في الماضي بأن قال إن كنت صليت أو صمت أو تزوجت فهو على الصحيح و الفاسد لأن الماضي لا يقصد به الحل و التقرب و إنما يقصد به الإخبار عن المسمى بذلك و الاسم يطلق على الصحيح و الفاسد فإن عنى به الصحيح دين في القضاء لأنه النكاح المعنوي و لو حلف لا يصلي فكبر و دخل في الصلاة لم يحنث حتى يركع و يسجد سجدة استحسانا و القياس أن يحنث بنفس الشروع لأنه كما شرع فيه يقع عليه اسم المصلي فيحنث كما لو حلف لا يصوم فنوى الصوم و شرع فيه .
وجه الاستحسان : و هو الفرق بين الصلاة و بين الصوم أن الحالف جعل شرط حنثه فعل الصلاة و الصلاة في عرف الشرع اسم لعبادة متركبة من أفعال مختلفة من القيام و القراءة و الركوع و السجود و المتركب من أجزاء مختلفة لا يقع اسم كله على بعضه كالسكنجبين و نحو ذلك فما لم توجد هذه الأفعال لا يوجد فعل الصلاة بخلاف الصوم لأن بصوم ساعة يحصل فعل صوم كامل لأنه اسم لعبادة مركبة من أجزاء متفقة و هي الإمساكات و ما هذا حاله فاسم كله ينطلق على بعضه حقيقة كاسم الماء أنه كما ينطلق على ماء البحر ينطلق على قطرة منه و قطرة من خل من جملة دن من خل أنه يسمى خلا حقيقة فإذا صام ساعة فقد وجد منه فعل الصوم الذي منع نفسه منه فيحنث و بخلاف ما لو حلف لا يصلي صلاة أنه لا يحنث حتى يصلي ركعتين لأنه لما ذكر الصلاة فقد جعل شرط الحنث ما هو صلاة شرعا و أقل ما اعتبره الشرع من الصلاة ركعتان بخلاف الفصل الأول لأن ثمة شرط الحنث هناك فعل الصلاة و فعل الصلاة يوجد بوجود هذه الأفعال و ما يوجد بعد ذلك إلى تمام ما يصير عبادة معهودة معتبرة شرعا تكرار لهذه الأفعال فلا تقف تسمية فعل الصلاة على وجوده و قد وجد ذلك كله في آية واحدة من كتاب الله عز و جل و هو قوله تعالى : { و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } و أراد به الركعتين جميعا لأنه ورد في صلاة السفر .
ثم قال : { و لتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } و أراد به ركعة واحدة لأن الطائفة الثانية لا يصلون إلا ركعة واحدة .
و لو حلف لا يصوم يوما لا يحنث حتى يصوم يوما تاما لأنه جعل شرط الحنث صوما مقدرا باليوم لأنه جعل كل اليوم ظرفا له و لا يكون كل اليوم ظرفا له إلا باستيعاب الصوم جميع اليوم .
و كذا لو حلف لا يصوم صوما لأنه ذكر المصدر و هو الصوم و الصوم اسم لعبادة مقدرة باليوم شرعا فيصرف إلى المعهود المعتبر في الشرع بخلاف ما إذا حلف لا يصوم لأنه جعل فعل الصوم شرطا و بصوم ساعة واحدة وجد فعل الصوم .
و لو حلف لا يصلي الظهر لا يحنث حتى يتشهد بعد الأربع لأن الظهر أربع ركعات فما لم توجد الأربع لا توجد الظهر فلا يحنث و لو قال عبده حر إن أدرك الظهر مع الإمام فأدركه في التشهد و دخل معه حنث لأن إدراك الشيء لحوق آخره يقال أدرك فلان زمن النبي صلى الله عليه و سلم و يراد به لحوق آخره .
و روي عن [ معاذ بن جبل Bه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد فقد أدرك الجمعة ] و روي عن عبد الله بن مسعود Bه أنه انتهى يوما إلى الإمام فأدركه في التشهد فقال الله أكبر أدركنا معه الصلاة .
و لو حلف لا يصلي الجمعة مع الإمام فأدرك معه ركعة فصلاها معه ثم سلم الإمام و أتم هو الثانية لا يحنث لأنه لم يصل الجمعة مع الإمام إذ هي اسم للكل و هو ما صلى الكل مع الإمام و لو افتتح الصلاة مع الإمام ثم نام أو أحدث فذهب و توضأ فجاء وقد سلم الإمام فاتبعه في الصلاة حنث و إن لم يوجد أداء الصلاة مقارنا للإمام لأن كلمة مع ههنا لا يراد بها حقيقة القران بل كونه تابعا له مقتديا به ألا ترى أن أفعاله و انتقاله من ركن إلى ركن لو حصل على التعاقب دون المقارنة عرف مصليا معه كذا ههنا وقد وجد لبقائه مقتديا به تابعا له و لو نوى حقيقة المقارنة صدق فيما بينه و بين الله تعالى و في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه و لو حلف لا يحج حجة أو قال لا أحج و لم يقل حجة لم يحنث حتى يطوف أكثر طواف الزيارة لأن الحجة اسم لعبادة ركبت من أجناس أفعال كالصلاة من الوقوف بعرفة و طواف الزيارة فما لم يوجد كل الطواف أو أكثره لا يوجد الحج فإن جامع فيها لا يحنث لأن الحج عبادة فيقع اليمين على الصحيح منه كالصلاة و لو حلف لا يعتمر فأحرم و طاف أربعة أشواط حنث لأن ركن العمرة هو الطواف وقد وجد لأن للأكثر حكم الكل .
قال ابن سماعة : سمعت أبا يوسف قال في رجل قال إن تزوجت امرأة بعد امرأة فهي طالق فتزوج واحدة ثم ثنتين فإنه في عقدة فإنه يقع الطلاق على إحدى الأخيرتين لأنه قد تزوج امرأة بعد امرأة و إن كان معها غيرها فوقع الطلاق على إحداهما فكان له التعيين .
و لو تزوج امرأتين في عقدة ثم تزوج امرأة بعدهما طلقت الأخيرة لأنه قد تزوج بها بعد امرأة و الأوليان كل واحدة منهما لا توصف بأنها بعد الأخرى فكانت الأخرى هي المستحقة للشرط .
و لو قال : إن تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج صبية طلقت لأن غرضه بهذه اليمين هو الامتناع من النكاح فيتناول البالغة و الصبية فصار قوله : امرأة كقوله : أنثى .
قال ابن سماعة عنه إن قال إن تزوجت امرأتين في عقدة فهما طالقتان فتزوج ثلاثا في عقدة فإنه تطلق امرأتان من نسائه فوقع على ثنتين من الثلاث لأنه قد تزوج باثنتين و إن كان معهما ثالثة و ليس إحداهن بالطلاق بأولى من الأخرى فيرجع إلى تعيينه .
قال ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره في رجل قال و الله لا أزوج ابنتي الصغيرة فتزوجها رجل بغير أمره فأجاز قال هو حانث لأن حقوق العقد لا تتعلق بالعاقد فتتعلق بالمجيز .
و لو حلف لا يزوج ابنا له كبيرا فأمر رجلا فزوجه ثم بلغ الابن فأجاز أو زوجه رجل و أجاز الأب و رضي الابن لم يحنث لأن حقوق العقد لما لم تتعلق بالعاقد تعلقت بالمجيز فنسب العقد إليه .
و قال هشام عن محمد في نوادره في رجل حلف بطلاق امرأته ثلاثا لا يزوج بنتا له صغيرة فزوجها رجل من أهله أو غريب و الأب حاضر ذلك المجلس حين زوجت إلا أنه ساكت حتى قال الذي زوج للذي خطب قد زوجتكها و قال الآخر قد قبلت و الأب ساكت ثم قال بعدما وقعت عقد النكاح و هو في ذلك المجلس قد أجزت النكاح فزعم محمد أنه لا يحنث لأن الذي زوج غيره و إنما أجازه هو و كذلك إذا حلف على أمته لأنه حلف على التزويج و الإجازة تسمى نكاحا و تزويجا فقد فعل ما لم يتناوله الاسم فلا يحنث .
و قال ابن سماعة عن محمد في نوادره في رجل تزوج امرأة بغير أمرها زوجه وليها ثم حلف المتزوج أن لا يتزوجها أبدا ثم بلغها فرضيت بالنكاح أو كان رجل زوجها منه و هو لا يعلم ثم حلف بعد ذلك أنه لا يتزوجها ثم بلغه النكاح فأجاز لم يحنث في واحد من الوجهين لأنه لم يتزوج بعد يمينه إنما أجاز نكاحا قبل يمينه أو أجازته المرأة .
قال ابن سماعة عن محمد لو قال لا أتزوج فلانة بالكوفة فزوجها أبوها إياه بالكوفة ثم أجازت ببغداد كان حانثا و إنما أجاز الساعة بإجازتها النكاح الذي كان بالكوفة و كذلك قال في الجامع لما ذكرنا أن الإجازة ليست بنكاح لأن النكاح هو الإيجاب و القبول فعند انضمام الإجازة إليهما كان النكاح حاصلا بالكوفة فوجد شرط الحنث فيحنث .
و قال ابن سماعة عن محمد في رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق فصار معتوها فزوجه إياها أبوه قال هو حانث لأن حقوق العقد في النكاح ترجع إلى المعقود له فكان هو المتزوج فحنث .
قال المعلى : سألت محمدا عن امرأة حلفت لا تزوج نفسها من فلان فزوجها منه رجل بأمرها فهي حانثة و كذلك لو زوجها رجل فرضيت و كذلك لو كانت بكرا فزوجها أبوها فسكتت لأن العقد لما جاز برضاها و حقوقه تتعلق بها فصار كأنها عقدت بنفسها و هذه الرواية تخالف ما ذكرنا من رواية هشام و كذلك لو حلف لا يأذن لعبده في التجارة فرآه يشتري و يبيع أنه إن سكت كان حانثا في يمينه لأن السكوت إذن منه فكأنه أذن منه له بالنطق .
و روى بشر بن الوليد و علي بن الجعد عن أبي يوسف : أنه لا يحنث لأن السكوت ليس بإذن و إنما هو إسقاط حقه عن المنع من تصرف العبد ثم العبد يتصرف بمالكية نفسه بعد زوال الحجر فإن حلف لا يسلم لفلان شفعة فبلغه أنه اشترى دارا هو شفيعها فسكت لا يحنث لأن الساكت ليس بمسلم و إنما هو مسقط حقه بالإغراض عن الطلب .
قال عمرو عن محمد في رجل حلف لا يزوج عبده فتزوج العبد بنفسه ثم أجاز المولى يحنث .
و لو حلف الأب لا يزوج ابنته فزوجها عمها و أجاز الأب لم يحنث لأن غرض المولى باليمين أن لا تتعلق برقبة عبده حقوق النكاح و قد علق بالإجازة و غرض الأب أن لا يفعل ما يسمى نكاحا و الإجازة ليست بنكاح .
و قال علي و بشر عن أبي يوسف : لو حلف لا يؤخر عن فلان حقه شهرا و سكت عن تقاضيه حتى مضى الشهر لم يحنث و هذا قول أبي حنيفة لأن التأخير هو التأجيل و ترك التقاضي ليس بتأجيل قال : و لو أن امرأة حلفت لا تأذن في تزويجها و هي بكر فزوجها أبوها فسكتت فإنها لا تحنث و النكاح لها لازم لأن السكوت ليس بإذن حقيقة و إنما أقيم مقام الأذن بالسنة .
و روى بشر عن أبي يوسف : إذا حلف لا يبيع ثوبه إلا بعشرة دراهم فباعه بخمسة و دينار حنث لأنه منع نفسه عن كل بيع و استثنى بيعه بصفة و هو أن يكون بعشرة و لم يوجد فبقي تحت المستثنى منه فإن باعه بعشرة دنانير لم يحنث لأنه باعه بعشرة و بغيرها و العشرة مستثنى .
و روى هشام عن أبي يوسف في رجل قال : و الله لا أبيعك هذا الثوب بعشرة حتى تزيدني فباعه بتسعة لا يحنث في القياس و في الاستحسان يحنث و بالقياس آخذ .
وجه القياس : أن شرط حنثه البيع بعشرة و ما باع بعشرة بل بتسعة .
وجه الاستحسان : أن المراد من مثل هذا الكلام في العرف أن لا يبيعه إلا بالأكثر من عشرة وقد باعه لا بأكثر من عشر فيحنث .
و قال المعلى عن محمد : إذا حلف لا يبيع هذا الثوب بعشرة إلا بزيادة قال : إن باعه بأقل من عشرة أو بعشرة فإنه حانث و هذا بمنزلة قوله لا أبيعه إلا بزيادة على عشرة لأنه منع نفسه من كل بيع و استثنى بيعا واحدا و هو الذي يزيد ثمنه على عشرة أن معنى قوله : لا أبيع هذا الثوب بعشرة إلا بزيادة أي لا أبيعه إلا بزيادة على العشرة ليصبح الاستثناء و ما باعه بزيادة على عشرة فيحنث .
و لو قال : حتى أزداد فباعه بعشرة حنث و إن باعه بأقل أو أكثر لم يحنث لأنه حلف على بيع بصفة و هو أن يكون بعشرة فإذا باع بتسعة لم يوجد البيع المحلوف عليه و لو قال عبده حر إن اشتراه باثني عشر فاشتراه بثلاثة عشر دينارا حنث لأنه اشتراه بما حلف عليه و إن كان معه زيادة .
و لو قال : أول عبد أشتريه فهو حر أو آخر عبد أو أوسط عبد فالأول اسم لفرد سابق و الآخر من المحدثات اسم لفرد لاحق و الأوسط اسم لفرد اكتنفته حاشيتان متساويتان إذا عرف هذا فنقول إذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا واحدا بعد يمينه عتق لأنه أول عبد اشتراه لكونه فردا لم يتقدمه غيره في الشراء فإن اشترى عبدا و نصف عبد عتق العبد الكامل لا غير لأن نصف العبد لا يسمى عبدا فصار كما لو اشترى عبدا و ثوبا بخلاف ما إذا قال أول كر أشتريه صدقة فاشترى كرا و نصفا لم يتصدق بشيء لأن الكر ليس بأول بدليل أنا لو عزلنا كرا فالنصف الباقي مع نصف المعزول يسمى كرا فلم يكن هذا أول كر اشتراه فإن كان أول ما اشترى عبدين لم يعتق واحد منهما و لا يعتق ما اشترى بعدهما أيضا لانعدام معنى الانفراد فيهما و لانعدام معنى السبق فيما بعدهما .
و لو قال : آخر عبد أشتريه فهو حر فهذا على أن يشتري عبدا واحدا بعد غيره أو بموت المولى لأن عنده يعلم أنه آخر لجواز أن يشتري غيره ما دام حيا .
و اختلف في وقت عتقه فعلى قول أبي حنيفة يعتق يوم اشتراه حتى يعتق من جميع المال و على قولهما يعتق في آخر جزء من أجزاء حياته و يعتق من الثلث و سنذكر هذه المسائل في كتاب العتاق .
و لو قال أوسط عبد أشتريه فهو حر فكل فرد له حاشيتان متساويتان فيما قبله و فيما بعده فهو أوسط و لا يكون الأول و لا الآخر وسطا أبدا و لا يكون الوسط إلا في وتر و لا يكون في شفع فإذا اشترى عبدا ثم عبدا ثم عبدا فالثاني هو الأوسط فإن اشترى رابعا خرج الثاني من أن يكون أوسط فإن اشترى خامسا صار الثالث هو الأوسط فإن اشترى سادسا خرج من أن يكون أوسط و على هذا كلما صار العدد شفعا فلا وسط له و كل من حصل في النصف الأول خرج من أن يكون وسطا