في بيان صفة الطلاق .
أما الأول : فالطلاق بحق الصفة نوعان : طلاق سنة و طلاق بدعة و إن شئت قلت طلاق مسنون و طلاق مكروه .
أما طلاق السنة فالكلام فيه في موضعين : .
أحدهما : في تفسير طلاق السنة أنه ما هو .
و الثاني : في بيان الألفاظ التي تقع بها طلاق السنة .
أما الأول : فطلاق السنة نوعان : نوع يرجع إلى الوقت و نوع يرجع إلى العدد و كل واحد منهما نوعان : حسن و أحسن و لا يمكن معرفة كل واحد منهما إلا بعد معرفة أصناف النساء وهن في الأصل على صنفين حرائر و إماء و كل صنف على صنفين : حائلات و حاملات و الحائلات على صنفين ذوات الأقراء و ذوات الأشهر إذا عرف هذا فنقول و بالله التوفيق : أحسن الطلاق في ذوات القرء أن يطلقها طلقة واحدة رجعية في طهر لا جماع فيه و لا طلاق و لا في حيضة طلاق و لا جماع و يتركها حتى تنقضي عدتها ثلاث حيضات إن كانت حرة و إن كانت أمة حيضتان .
و الأصل فيه ما روي عن إبراهيم النخعي C أنه قال : [ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يستحسنون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة ] .
و في رواية أخرى قال في الحكاية عنهم و كان ذلك عندهم أحسن من أن يطلق الرجل ثلاثة في ثلاثة أطهار و هذا نص في الباب و مثله لا يكذب و لأن الكراهة لمكان احتمال الندم و الطلاق في طهر لا جماع فيه دليل على عدم الندم لأن الطهر الذي لا جماع فيه زمان كمال الرغبة و الفحل لا يطلق امرأته في زمان كمال الرغبة إلا لشدة حاجته إلى الطلاق فالظاهر أنه لا يلحقه الندم فكان طلاقه لحاجة فكان مسنونا و لو لحقه الندم فهو أقرب إلى التدارك من الثلاث في ثلاثة أطهار فكان أحسن و إنما شرطنا أن يكون في طهر لا طلاق فيه لأن الجمع بين الطلقات الثلاث أو الطلقتين في طهر واحد مكروه عندنا و إنما شرطنا أن لا يكون في حيضة جماع و لا طلاق لأنه إذا جامعها في حيض هذا الطهر احتمل أنه وقع الجماع معلقا فيظهر الحبل فيندم على صنيعه فيظهر أنه طلق لا لحاجة و إذا طلقها فيه فالطلاق فيه بمنزلة الطلاق في الطهر الذي بعده لأن تلك الحيضة لا يعتد بها و لو طلقها في الطهر يكره له أن يطلقها أخرى فيه فكذا إذا طلقها في الحيض ثم طهرت .
و أما في الحامل إذا استبان حملها فالأحسن أن يطلقها واحدة رجعية و إن كان قد جامعها و طلقها عقيب الجماع لأن الكراهة في ذوات القرء لاحتمال الندامة لا لاحتمال الحبل فمتى طلقها مع علمه بالحبل فالظاهر أنه لا يندم و كذلك في ذوات الشهر من الآيسة و الصغيرة الأحسن أن يطلقها واحدة رجعية و إن كان عقيب طهر جامعها فيه و هذا قول أصحابنا الثلاثة و قال زفر يفصل بين طلاق الآيسة و الصغيرة و بين جماعهما بشهر .
وجه قول : أن الشهر في حق الآيسة و الصغيرة أقيم مقام الحيضة فيمن تحيض ثم يفصل في طلاق السنة بين الوطء و بين الطلاق بحيضة فكذا يفصل بينهما فيمن لا تحيض بشهر كما يفصل بين التطليقتين .
و لنا : أن كراهة الطلاق في الطهر الذي وجد الجماع فيه في أدوات الأقراء لاحتمال أن تحبل بالجماع فيندم و هذا المعنى لا يوجد في الآيسة و الصغيرة و إن وجد الجماع و لأن الآياس و الصغر في الدلالة على براءة الرحم فوق الحيضة في ذوات الأقراء فلما جاز الإيقاع ثمة عقيب الحيضة فلأن يجوز هنا عقيب الجماع أولى .
و أما الحسن في الحرة التي هي ذات القرء أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار لا جماع فيها بأن يطلقها واحدة في طهر لا جماع فيه ثم إذا حاضت حيضة أخرى و طهرت طلقها أخرى ثم إذا حاضت و طهرت طلقها أخرى وإن كانت أمة طلقها واحدة ثم إذا حاضت و طهرت طلقها أخرى و هذا قول عامة العلماء و قال مالك لا أعرف طلاق السنة إلا أن يطلقها واحدة و يتركها حتى تنقضي عدتها .
وجه قوله : أن الطلاق المسنون هو الطلاق لحاجة و الحاجة تندفع بالطلقة الواحدة فكانت الثانية و الثالثة في الطهر الثاني و الثالث تطليقا من غير حاجة فيكره لهذا أكره الجمع كذا التفريق إذ كل ذلك طلاق من غير حاجة .
و لنا قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي ثلاثا في ثلاثة أطهار كذا فسره رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه روى أن عبد الله بن عمر Bهما طلق امرأته حالة الحيض فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ أخطأت السنة ما هكذا أمرك ربك : إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء ] فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم الطلاق للعدة بالثلاث في ثلاث أطهار و الله عز و جل أمر به و أدنى درجات الأمر به و أدنى درجات الأمر للندب و المندوب إليه يكون حسنا و لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم نص على كونه سنة حيث قال : [ إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة ] .
و الدليل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي في حكايته عن الصحابة Bهم أجمعين و كان ذلك عندهم أحسن من أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار و إذا كان ذلك أحسن من هذا كان هذا حسنا في نفسه ضرورة و أما قوله : إن الثانية و الثالثة تطليق من غير حاجة فممنوع فإن الإنسان قد يحتاج إلى حسم باب نكاح امرأته على نفسه لما ظهر له أن نكاحها ليس بسب المصلحة له دنيا و دينا لكن يميل قلبه إليها لحسن ظاهرها فيحتاج إلى الحسم على وجه ينسد باب الوصول إليها و لا يلحقه الندم و لا يمكنه دفع هذه الحاجة بالثلاث جملة واحدة لأنها تعقب الندم عسى و لا يمكنه التدارك فيقع في الزنا فيحتاج إلى إيقاع الثلاث في ثلاثة أطهار فيطلقها تطليقة رجعية في طهر لا جماع فيه و يجرب نفسه أن هل يمكنه الصبر عنها فإن لم يمكنه راجعها و إن أمكنه طلقها تطليقة أخرى في الطهر الثاني و يجرب نفسه ثم يطلقها ثالثة في الطهر الثالث / فينحسم باب النكاح عليه من غير ندم يلحقه ظاهرا أو غالبا فكان إيقاع الثانية و الثالثة في الطهر الثاني و الثالث طلاقا / لحاجة فكان مسنونا على أن الحكم تعلق بدليل الحاجة لا بحقيقتها لكونها أمرا باطنا لا يوقف عليه إلا بدليل فيقام الطهر الخالي عن الجماع مقام الحاجة إلى الطلاق فكان تكرار الطهر دليل تجدد الحاجة فيبنى الحكم عليه ثم إذا وقع عليها ثلاث تطليقات في ثلاثة أطهار فقد مضى من عدتها حيضتان إن كانت حرة لأن العدة بالحيض عندنا و بقيت حيضة واحدة فإذا حاضت حيضة أخرى فقد انقضت عدتها و إن كانت أمة فإن وقع عليها تطليقتان في طهرين فقد مضت من عدتها حيضة و بقيت حيضة واحدة فإذا حاضت حيضة أخرى فقد انقضت عدتها و إن كانت من ذوات الأشهر طلقها واحدة رجعية و إذا مضى شهر طلقها أخرى ثم إذا مضى شهر طلقها أخرى ثم إذا كانت حرة فوقع عليها ثلاث تطليقات و مضى من عدتها شهران و بقي شهر واحد من عدتها فإذا مضى شهر آخر فقد انقضت عدتها .
و إن كانت أمة و وقع عليها تطليقتان في شهر و بقي من عدتها نصف شهر فإذا مضى نصف شهر فقد انقضت عدتها و إن كانت حاملا فكذلك في قول أبي حنيفة و أبي يوسف يطلقها ثلاثا للسنة و يفصل بين كل طلاقيها بشهر و قال محمد لا يطلق الحامل للسنة إلا طلقة واحدة و هو قول زفر .
و ذكر محمد C في الأصل بلغنا ذلك عن عبد الله بن مسعود و جابر بن عبد الله و الحسن البصري Bهم و لا خلاف في أن الممتد طهرها لا تطلق للسنة إلا واحدة .
وجه قول محمد و زفر : أن إباحة التفريق في الشرع متعلقة بتجدد فصول العدة لأن كل قرء في ذوات الأقراء فصل من فصول العدة و كل شهر في الآيسة و الصغيرة فصل من فصول العدة و مدة الحمل كلها فصل واحد من العدة لتعذر الاستبراء به في حق الحامل فلم يكن في معنى مورد الشرع فلا يفصل بالشهر و لهذا لم يفصل في الممتد طهرها بالشهر كذا ههنا .
و لأبي حنيفة و أبي يوسف قوله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } شرع الثلاث متفرقات من غير فصل بين الحامل و الحائل أما شرعية طلقة فبقوله تعالى : { الطلاق مرتان } لأن معناه دفعتان على ما نذكر إن شاء الله تعالى و شرعية الطلقة الثالثة بقوله عز و جل : { أو تسريح بإحسان } أو بقوله عز و جل : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } من غير فصل و لأن الحامل ليست من ذوات الأقراء فيفصل بين طلاقها بشهر كالآيسة و الصغيرة و الجامع أن الفصل هناك بشهر لكون الشهر زمان تجدد الرغبة في العادة فيكون زمان تجدد الحاجة و هذا المعنى موجود في الحامل فيفصل فأما كون الشهر فصلا من فصول العدة فلا أثر له فكان من أوصاف الوجود لا من أوصاف التأثير إنما المؤثر ما ذكرنا فينبني الحكم عليه و ما ذكر محمد C في الأصل لا حجة له فيه لأن لفظ الحديث أفضل طلاق الحامل أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تضع حملها و به نقول إن ذلك أفضل و لا كلام فيه .
و أما الممتد طهرها فإنما لا تطلق للسنة إلا واحدة لأنها من ذوات الأقراء لأنها قد رأت الدم و هي شابة لم تدخل في حد الإياس إلا أنه امتد طهرها لداء فيها يحتمل الزوال ساعة فساعة فبقي أحكام ذوات الأقراء فيها و لا تطلق ذوات الأقراء في طهر لا جماع فيه للسنة إلا واحدة و الله عز و جل أعلم .
و لو طلق امرأته تطليقة واحدة في طهر لا جماع فيه ثم راجعها بالقول في ذلك الطهر فله أن يطلقها في ذلك الطهر في قول أبي حنيفة و زفر .
و قال أبو يوسف : لا يطلق في ذلك الطهر للسنة و هو قول الحسن بن زياد و قول محمد مضطرب ذكره أبو جعفر الطحاوي مع قول أبي حنيفة و ذكره الفقيه أبو الليث مع قول أبي يوسف و لو أبانها في طهر لم يجامعها ثم تزوجها فله أن يطلقها في ذلك الطهر بالإجماع .
وجه قول أبي يوسف : أن الطهر طهر واحد و الجمع بين طلاقين في طهر واحد لا يكون سنة كما قبل الرجعة و لأبي حنيفة أنه لما راجعها فقد أبطل حكم الطلاق و جعل الطلاق كأنه لم يكن في حق الحكم و لأنها عادت إلى الحالة الأولى بسبب من جهته فكان له أن يطلقها أخرى كما إذا أبانها في طهر لم يجامعها فيه ثم تزوجها .
و على هذا الخلاف إذا راجعها بالقبلة أو باللمس عن شهوة أو بالنظر إلى فرجها عن شهوة .
و على هذا الخلاف إذا أمسك الرجل امرأته بشهوة فقال لها في حال الملامسة بشهوة بأن كان أخذ بيدها لشهوة أنت طالق ثلاثا للسنة و ذلك في طهر لم يجامعها فيه أنه يقع عليها ثلاث تطليقات على التعاقب للسنة في قول أبي حنيفة C فتقع التطليقة الأولى و يصير مراجعا لها بالإمساك عن شهوة ثم تقع الأخرى و يصير مراجعا بالإمساك ثم تقع الثالثة .
و عند أبي يوسف : لا يقع عليها للسنة إلا واحدة و الطلاقان الباقيان إنما يقعان في الطهرين الباقيين و هذا إذا راجعها بالقول أو بفعل المس عن شهوة فأما إذا راجعها بالجماع بأن طلقها في طهر لا جماع فيه ثم جامعها حتى صار مراجعا لها ثم إذا أراد أن يطلقها في ذلك الطهر ليس له ذلك بالإجماع لأن حكم الطلاق قد بطل بالمراجعة فبقي ذلك الطهر طهرا مبتدأ جامعها فيه فلا يجوز له أن يطلقها فيه هذا إذا راجعها بالجماع فلم تحمل منه فإن حملت منه فله أن يطلقها أخرى في قول أبي حنيفة و محمد و زفر .
و عند أبي يوسف ليس له أن يطلقها حتى يمضي شهر من التطليقة الأولى أبو يوسف يقول : هذا طهر واحد فلا يجمع فيه بين طلاقين كما في المسألة الأولى و هم يقولون إن الرجعة أبطلت حكم الطلاق و ألحقته بالعدم و كراهة الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه لمكان الندم لاحتمال الحمل فإذا طلقها مع العلم بالحمل لا يندم كما لو لم يكن طلقها في هذا الطهر و لكنه جامعها فيه فحملت كان له أن يطلقها لما قلنا كذا هذا .
و لو طلق الصغيرة تطليقة ثم حاضت و طهرت قبل مضي شهر فله أن يطلقها أخرى في قولهم جميعا لأنها لما حاضت فقد بطل حكم الشهر لأن الشهر في حقها بدل من الحيض و لا حكم للبدل مع وجود المبدل و أما إذا طلق امرأته و هي من ذوات الأقراء ثم أيست فله أن يطلقها أخرى حتى تيأس في قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف : لا يطلقها حتى يمضي شهر .
وجه قوله : أن هذا طهر واحد فلا يحتمل طلاقين و لأبي حنيفة أن حكم الحيض قد بطل باليأس و انتقل حالها من العدة بالحيض إلى العدة بالأشهر و ذلك يفصل بين التطليقتين كالانتقال من الشهور إلى الحيض في حق الصغيرة و هذا التفريع إنما يتصور على الرواية التي قدرت للإياس حدا معلوما خمسين سنة أو ستين سنة فإذا تمت هذه المدة بعد التطليقة جاز له أن يطلقها أخرى عند أبي حنيفة لما ذكرنا فأما على الرواية التي لم تقدر للإياس مدة معلومة و إنما علقته بالعادة فلا يتصور هذا التفريع .
و لو طلق امرأته في حال الحيض ثم راجعها ثم أراد طلاقها ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت طلقها إن شاء .
و ذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة .
و ذكر الكرخي أن ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة و ما ذكره في الأصل قول أبي يوسف و محمد .
وجه ما ذكر في الأصل ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال لعمر Bه لما طلق ابنه عبد الله امرأته في حالة الحيض : مر ابنك فليراجعها ثم يدعها إلى أن تحيض فتطهر ثم تحيض فتطهر ثم ليطلقها إن شاء طاهرا من غير جماع ] أمره صلى الله عليه و سلم بترك الطلاق إلى غاية الطهر الثاني فدل أن وقت طلاق السنة هو الطهر الثاني دون الأول و لأن الحيضة التي طلقها فيها غير محسوبة من العدة فكان إيقاع الطلاق فيها كإيقاع الطلاق في الطهر الذي يليها و لو طلق في الطهر الذي يليها لم يكن له أن يطلق فيه آخر كذا هذا وجه ما ذكر الطحاوي : أن هذا طهر لا جماع فيه و لا طلاق حقيقة فكان له أن يطلقها فيه كالطهر الثاني .
و أما الحديث فقد روينا أن النبي صلى الله عليه و سلم [ قال لعبد الله بن عمر : أخطأت السنة ما هكذا أمرك الله تعالى إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة ] جعل صلى الله عليه و سلم الطلاق في كل طهر طلاقا على وجه السنة و الطهر الذي يلي الحيض طهر فكان الإيقاع فيه إيقاعا على وجه السنة فيجمع بين الروايتين فتحمل تلك الرواية على الأحسن لأنه صلى الله عليه و سلم أمر بالتطليقة الواحدة في طهر واحد لا جماع فيه و هذا أحسن الطلاق و هذه الرواية على الحسن لأنه أمره بالثلاث في ثلاثة أطهار جميعا بين الروايتين عملا بهما جمعا بقدر الإمكان