طلاق البدعة .
فصل : و أما طلاق البدعة فالكلام فيه في ثلاثة مواضع : في تفسيره و في بيان الألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة و في بيان حكمه .
أما الأول فطلاق البدعة نوعان أيضا : نوع يرجع إلى الوقت و نوع يرجع إلى العدد أما الذي يرجع إلى الوقت فنوعان أيضا : أحدهما الطلقة الواحدة الرجعية في حالة الحيض إذا كانت مدخولا بها سواء كانت حرة أو أمة لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أنه قال لعبد الله بن عمر حين طلق امرأته في حالة الحيض أخطأت السنة ] و لأن فيه تطويل العدة عليها لأن الحيضة التي صادفها الطلاق فيه غير محسوبة من العدة فتطول العدة عليها و ذلك إضرار بها و لأن الطلاق للحاجة هو الطلاق في زمان كمال الرغبة و زمان الحيض زمان النفرة فلا يكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق فلا يكون الطلاق فيه سنة بل يكون سفها إلا أن هذا المعنى يشكل بما قبل الدخول فالصحيح هو المعنى الأول و إذا طلقها في حالة الحيض فالأفضل أن يراجعها لما روي : [ أن ابن عمر Bهما لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يراجعها ] و لأنه إذا راجعها أمكنه أن يطلقها للسنة فتبين منه بطلاق غير مكروه فكانت الرجعة أولى و لو امتنع عن الرجعة لا يجبر عليها .
و ذكر في العيون أن الأمة إذا أعتقت فلا بأس بأن تختار نفسها و هي حائض و كذلك الصغيرة إذا أدركت و هي حائض و كذلك امرأة العنين و هي حائض و الثاني الطلقة الواحدة الرجعية في ذوات الأقراء في طهر جامعها فيه حرة كانت أو أمة لاحتمال أنها حملت بذلك الجماع و عند ظهور الحمل يندم فتبين أنه طلقها لا لحاجة و فائدة فكان سفها فلا يكون سنة و لأنه إذا جامعها فقد قلت رغبته إليها فلا يكون الطلاق في ذلك الطهر طلاقا لحاجة على الإطلاق فلم يكن سنة و أما الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه سواء كان على الجمع بأن أوقع الثلاث جملة واحدة أو على التفاريق واحدا بعد واحد بعد أن كان الكل في طهر واحد و هذا قول أصحابنا .
و قال الشافعي لا أعرف أبي يوسف عدد الطلاق سنة و لا بدعة بل هو مباح و إنما السنة و البدعة في الوقت فقط .
احتج بمعلومات الطلاق من الكتاب و السنة .
أما الكتاب / فقوله عز و جل : { فطلقوهن لعدتهن } و قوله عز و جل : { الطلاق مرتان } و قوله عز و جل : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } شرع الطلاق من غير فصل بين الفرد و العدد و المفترق و المجتمع .
و أما السنة فقوله صلى الله عليه و سلم : [ كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه و الصبي ] و الدليل على أن عدد الطلاق في طهر واحد مشروع أنه معتبر في حق الحكم بلا خلاف بين الفقهاء و غير المشروع لا يكون معتبرا في حق الحكم .
ألا ترى أن بيع الخل و الصفر و نكاح الأجانب لما كان مشروعا كان معتبرا في حق الحكم و بيع الميتة و الدم و الخمر و الخنزير و نكاح المحارم لما لم يكن مشروعا لم يكن معتبرا في حق الحكم و ههنا لما اعتبر في حق الحكم دل أنه مشروع و بهذا عرفت شرعية الطلقة الواحدة في طهر واحد و الثلاث في ثلاثة أطهار كذا المجتمع .
و لنا : الكتاب و السنة و المعقول : أما الكتاب فقوله عز و جل : { فطلقوهن لعدتهن } أي في أطهار عدتهن و هو الثلاث في ثلاثة أطهار كذا فسره رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما ذكرنا فيما تقدم أمر بالتفريق و الأمر بالتفريق يكون نهيا عن الجمع ثم إن كان الأمر أمر إيجاب كان نهيا عن ضده و هو الجمع نهي تحريم و إن كان أمر ندب كان نهيا عن ضده و هو الجمع نهي ندب و كل ذلك حجة على المخالف لأن الأول يدل على التحريم و الآخر يدل على الكراهة و هو لا يقول بشيء من ذلك و قوله تعالى : { الطلاق مرتان } أي دفعتان .
ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين .
وجه الاستدلال : أن هذا و إن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد و قد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الجمع قال الله تعالى : { و المطلقات يتربصن بأنفسهن } أي ليتربصن و قال تعالى : { و الوالدات يرضعن أولادهن } أي ليرضعن و نحو ذلك كذا هذا فصار كأنه سبحانه و تعالى قال : طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق و الأمر بالتفريق نهي عن الجمع لأنه ضده فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا .
فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم لأنه ذكر جنس الطلاق و جنس الطلاق ثلاث و الثلاث إذا وقع دفعتين كان الواقع في دفعة طلقتان فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين فالجواب أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث لا بتفريق الثلاث لأنه أمر بالرجعة عقيب الطلاق مرتين أي دفعتين بقوله تعالى : { فإمساك بمعروف } أي و هو الرجعة و تفريق الطلاق و هو إيقاعه دفعتين لا يتعقب الرجعة فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث لا بتفريق كل جنس الطلاق و هو الثلاث و الأمر بتفريق طلاقين من الثلاث يكون نهيا عن الجمع بينهما فوضح وجه الاحتجاج بالآية بحمد الله تعالى .
و أما السنة : فما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تزوجوا و لا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن ] نهى صلى الله عليه و سلم عن الطلاق و لا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي فعلم أن ههنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه فكان النهي عنه لا عن الطلاق .
و لا يجوز أن يمنع من المشرع لمكان الحرام الملازم له كما في الطلاق في حالة الحيض و البيع وقت النداء و الصلاة في الأرض المغصوبة و غير ذلك و قد ذكر عن عمر Bه أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا و أجاز ذلك عليه و ذلك بمحضر من الصحابة Bهم فيكون إجماعا .
و أما المعقول فمن وجوه : .
أحدهما : أن النكاح عقد مصلحة لكونه وسيلة إلى مصالح الدين و الدنيا و الطلاق إبطال له و إبطال المصلحة مفسدة و قد قال الله عز و جل : { و الله لا يحب الفساد } و هذا معنى الكراهة الشرعية عندنا أن الله تعالى لا يحبه و لا يرضى به إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة لعدم توافق الأخلاق و تباين الطبائع أو لفساد يرجع إلى نكاحها بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة أو أن المقام معها سبب فساد دينه و دنياه فتنقلب المصلحة في الطلاق ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى إلا أن احتمال أنه لم يتأمل حق التأمل و لم ينظر حق النظر في العاقبة قائمة / فالشرع و العقل يدعوانه إلى النظر و ذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية حتى أن التباين أو الفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب و تعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق .
و إن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه أنه هل يمكنه الصبر عنها فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني ثانيا و يجرب نفسه ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا و غالبا لأنه لا يلحقه الندم غالبا فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة و صيرورة المصلحة في الطلاق فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب و ليست حالة الغضب حالة التأمل لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة فكان الطلاق إبطالا للمصلحة من حيث الظاهر فكان مفسدة .
و الثاني : أن النكاح عقد مسنون بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح فكان الطلاق قطعا للسنة و تفويتا للواجب فكان الأصل هو الحظر و الكراهة إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص و التأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها فإذا ذاقت مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب و تتوب و تعود إلى الموافقة و الصلاح و التخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار و الثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة و حق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد فبقي ذلك على أصل الحظر .
و الثالث : أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم و قال الله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قيل في التفسير أي ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها و لا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام و ليس في الامتناع ذلك و التحرز عن مثله واجب شرعا و عقلا بخلاف الطلقة الواحدة لأنها لا تمنع من التدارك بالرجعة و بخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهرا لأنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم و قد خرج الجواب عما ذكره المخالف لأن الطلاق عندنا تصرف مشروع في نفسه إلا أنه ممنوع عنه لغيره لما ذكرنا من الدلائل .
و يستوي في كراهة الجمع أن تكون المرأة حرة أو أمة مسلمة أو كتابية لأن الموجب للكراهة لا يوجب الفصل و هو ما ذكرنا من الدلائل و يستوي في كراهة الجمع و الخلع في الطهر الذي لا جماع فيه غير مكروه بالإجماع و في الطلاق الواحد البائن روايتان ذكر في كتاب الطلاق أنه يكره و ذكر في زيادات الزيادات أنه لا يكره .
وجه تلك الرواية : أن الطلاق البائن لا يفارق الرجعي إلا في صفة البينونة و صفة البينونة لا تنافي صفة السنة ألا ترى أن الطلقة الواحدة قبل الدخول بائنة و أنها سنة و كذا الخلع في طهر لا جماع فيه بائن و أنه سنة .
وجه رواية كتاب الطلاق أن الطلاق شرع في الأصل بطريق الرخصة للحاجة على ما بينا و لا حاجة إلى البائن لأن الحاجة تندفع بالرجعي فكان البائن طلاقا من غير حاجة فلم يكن سنة و لأن فيه احتمال الوقوع في الحرام لاحتمال الندم و لا يمكنه المراجعة و ربما لا توافقه المرأة في النكاح فيتبعها بطريق حرام و ليس في الامتناع عنه احتمال الوقوع في الحرام فيجب التحرز عنه بخلاف الطلاق قبل الدخول لأنه طلاق لحاجة لأنه قد يحتاج إلى الطلاق قبل الدخول و لا يمكن دفع الحاجة بالطلاق الرجعي و لأن الطلاق قبل الدخول لا يتصور إيقاعه إلا بائنا فكان طلاقا لحاجة فكان مسنونا و كذلك الخلع لأنه تقع الحاجة إلى الخلع و لا يتصور إيقاعه إلا بصفة الإبانة .
ألا ترى أنه لا يتصور أن يكون رجعيا و لأن الله سبحانه و تعالى رفع الجناح في الخلع مطلقا بقوله عز و جل : { لا جناح عليهما فيما افتدت به } فدل على كونه مباحا مطلقا .
ثم البدعة في الوقت يختلف فيها المدخول بها و غير المدخول بها فيكره أن يطلق المدخول بها في حالة الحيض و لا يكره أن يطلق غير المدخول بها في حالة الحيض لأن الكراهة في حالة الحيض لمكان تطويل العدة و لا يتحقق ذلك في غير المدخول بها .
و أما كونها طاهرا من غير جماع فلا يتصور في غير المدخول بها و أما البدعة في العدد فيستوي فيها المدخول بها و غير المدخول بها لأن ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل بينهما و كذا يستوي في السنة و البدعة المسلمة و الكتابية و الحرة و الأمة لأن الدلائل لا توجب الفصل بين الكل