النية في أحد نوعي الطلاق .
فصل : و منها : النية في أحد نوعي الطلاق و هو الكناية و جملة الكلام في هذا الشرط في موضعين : .
أحدهما : في بيان الألفاظ التي يقع بها الطلاق في الشرع .
و الثاني : في بيان صفة الواقع بها .
أما الأول : فالألفاظ التي يقع بها الطلاق في / الشرع نوعان صريح و كناية أما الصريح فهو اللفظ الذي لا يستعمل إلا في حل قيد النكاح و هو لفظ الطلاق أو التطليق مثل قوله أنت طالق أو أنت الطلاق أو طلقتك أو أنت مطلقة مشددا سمي هذا النوع صريحا لأن الصريح في اللغة اسم لما هو ظاهر المراد مكشوف المعنى عند السامع من قولهم صرح فلان بالأمر أي كشفه و أوضحه .
و سمي البناء المشرف صرحا لظهوره على سائر الأبنية و هذه الألفاظ ظاهرة المراد لأنها لا تستعمل إلا في الطلاق عن قيد النكاح فلا يحتاج فيها إلى النية لوقوع الطلاق إذ النية عملها في تعيين المبهم و لا إبهام فيها و قال الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } شرع الطلاق من غير شرط النية و قال سبحانه و تعالى : { الطلاق مرتان } مطلقا و قال سبحانه و تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } حكم سبحانه و تعالى بزوال الحل مطلقا عن شرط النية .
و روينا : [ أن عبد الله بن عمر Bهما لما طلق امرأته في حال الحيض أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يراجعها ] و لم يسأله هل نوى الطلاق أو لم ينو و لو كانت النية شرطا لسأله و لا مراجعة إلا بعد وقوع الطلاق فدل على وقوع الطلاق من غير نية .
و لو قال لها : أنت طالق ثم قال : أردت أنها طالق من وثائق لم يصدق في القضاء لما ذكرنا أن ظاهر هذا الكلام الطلاق عن قيد النكاح فلا يصدقه القاضي في صرف الكلام عن ظاهره و كذا لا يسع للمرأة أن تصدقه لأنه خلاف الظاهر و يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأنه نوى ما يحتمله كلامه في الجملة و الله تعالى مطلع على قلبه .
و لو قال : أنت طالق .
و قال : أردت أنها طالق من العمل لم يصدق في القضاء و لا فيما بينه و بين الله تعالى لأن هذا اللفظ لا يستعمل في الطلاق عن العمل فقد نوى ما لا يحتمله لفظه أصلا فلا يصدق أصلا .
و روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال : أنت طالق و قال : نويت الطلاق من عمل أو قيد يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنها مطلقة من هذين الأمرين حقيقة فقد نوى ما يحتمله حقيقة كلامه فجاز أن يصدق فيه و لو صرح فقال أنت طالق من وثاق لم يقع في القضاء لأن المرأة قد توصف بأنها طالق من وثائق و إن لم يكن مستعملا فإذا صرح به يحمل عليه و إن صرح فقال : أنت طالق من هذا العمل وقع الطلاق في القضاء لأن هذا اللفظ لا يستعمل في الطلاق عن العمل لا حقيقة و لا مجازا و لا يقع فيما بينه و بين الله تعالى لأنه يحتمله في الجملة و إن كان خلاف الظاهر .
و على قياس رواية الحسن : ينبغي أن لا يقع أيضا في القضاء و لو قال أنت طالق من امرأة فلان و هي مطلقة فذلك على نيته إلا أن يكون جوابا لمسألة الطلاق لأن لفظة [ أفعل ] ليست صريحا في الكلام .
ألا ترى أن من قال لآخر أنت أزنى من فلان لم يكن قذفا صريحا حتى لا يجب الحد و معلوم أن صريح القذف يوجب الحد و إذا لم يكن صريحا وقف على النية إلا إذا خرج جوابا لسؤال الطلاق فينصرف إليه بقرينة السؤال و كذا إذا قال لها أنت مطلقة و خفف فهو على نيته لما ذكرنا أن الانطلاق لا يبستعمل في قيد النكاح و إنما يستعمل في القيد الحقيقي و الحبس فلم يكن صريحا فوقف على النية .
و روى ابن سماعة عن محمد فيمن قال لامرأته كوني طالقا أو اطلقي قال : أراه واقعا لأن قوله : كوني ليس أمرا حقيقة و إن كانت صيغته صيغة الأمر بل هو عبارة عن إثبات كونها طالقا كما في قوله تعالى : { كن فيكون } أن قوله : كن ليس بأمر حقيقة و إن كانت صيغته صيغة الأمر بل هو كناية عن التكوين و لا تكون طالقا إلا بالطلاق و كذا قوله اطلقي و كذلك إذا قال لامرأته كوني حرة أو اعتقي .
و لو قال : يا مطلقة وقع عليها الطلاق لأنه وصفها بكونها مطلقة و لا تكون مطلقة إلا بالتطليق فإن قال أردت به الشتم لا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر لأنه نوى فيما هو وصف أن لا يكون وصفا فكان عدولا عن الظاهر فلا يصدقه القاضي و يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأنه قد يراد بمثله الشتم و لو كان لها زوج قبله فقال : عنيت ذلك الطلاق دين في القضاء لأنه نوى ما يحتمله لفظه لأنه وصفها بكونها مطلقة في نفسها من غير الإضافة إلى نفسه و قد تكون مطلقته و قد تكون مطلقة / زوجها الأول فالنية صادفت محلها فصدق في .
القضاء و إذا لم يكن لها زوج قبله لا يحتمل أن تكون مطلقة غيره فانصرف الوصف إلى كونها مطلقة له .
و لو قال لها : أنت طالق طالق أو قال : أنت طالق أنت طالق أو قال قد طلقتك قد طلقتك أو قال : أنت طالق قد طلقتك يقع ثنتان إذا كانت المرأة مدخولا بها لأنه ذكر جملتين كل واحدة منهما إيقاع تام لكونه مبتدأ و خبرا و المحل قابل للوقوع .
و لو قال : عنيت بالثاني الإخبار عن الأول لم يصدق في القضاء لأن هذه الألفاظ في عرف اللغة و الشرع تستعمل في إنشاء الطلاق فصرفها إلى الإخبار يكون عدولا عن الظاهر فلا يصدق في الحكم المدعو و يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأن صيغتها صيغة الإخبار .
و لو قال لامرأته : أنت طالق فقال له رجل ما قلت ؟ فقال : طلقتها أو قال : قلت : هي طالق فهي واحدة في القضاء لأن كلامه انصرف إلى الإخبار بقرينة الاستخبار .
و أما الطلاق بالفارسية فقد روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال في فارسي قال لامرأته [ بهشتم ان زن ] أو قال : [ إن زن بهشتم ] أو قال : [ بهشتم ] لا يكون ذلك طلاقا إل أن ينوي به الطلاق لأن معنى هذا اللفظ بالعربية خليت و قوله : خليت من كنايات الطلاق بالعربية فكذا هذا اللفظ إلا أن أبا حنيفة فرق بين اللفظين من وجهين : .
أحدهما : أنه قال : إذا نوى الطلاق بقوله : خليت يقع بائنا و إذا نوى الطلاق بهذه اللفظة يقع رجعيا لأن هذا اللفظ يحتمل أن يكون صريحا في لغتهم و يحتمل أن يكون كناية فلا تثبت البينونة بالشك .
و الثاني : قال إن قوله : خليت في حال الغضب و في حال مذاكرة الطلاق يكون طلاقا حتى لا يدين في قوله إنه ما أراد به الطلاق و هذا اللفظ في هاتين الحالتين لا يكون طلاقا حتى لو قال ما أردت به الطلاق يدين في القضاء لأن هذا اللفظ أقيم مقام التخلية فكان أضعف من التخلية فلا تعمل فيه دلالة الحال و لم يفرق بينهما فيما سوى ذلك حتى قال إن نوى بائنا يكون بائنا و إن نوى ثلاثا يكون ثلاثا كما لو قال : خليت و نوى البائن أو الثلاث و لو نوى ثنتين يكون واحدة كما في قوله : خليت إلا أن ههنا يكون واحدة يملك الرجعة بخلاف لفظة التخلية لما بينا .
و قال أبي يوسف : إذا قال : [ بهشتم ان زن ] أو قال : [ ان زن بهشتم ] فهي طالق نوى الطلاق أو لو ينو و تكون تطليقة رجعية لأن أبا يوسف خالط العجم و دخل [ جرجان ] فعرف أن هذا اللفظ في لغتهم صريح قال : و إن قال : [ بهشتم ] و لم يقل : [ إن زن ] فإن قال ذلك في حال سؤال الطلاق أو في حال الغضب فهي واحدة يملك الرجعة و لا يدين أنه ما أراد به الطلاق في القضاء .
و إن قال في غير حال الغضب و مذاكرة الطلاق يدين في القضاء لأن معنى قولهم بهشتم خليت و ليس في قوله : خليت إضافة إلى النكاح و لا إلى الزوجة فلا يحمل على الطلاق إلا بقرينة نية أو بدلالة حال و حال الغضب و مذاكرة الطلاق دليل إرادة الطلاق ظاهرا فلا يصدق في الصرف عن الظاهر قال و إن نوى بائنا فبائن و إن نوى ثلاثا فثلاث لأن هذا اللفظ و إن كان صريحا في الفارسية فمعناه التخلية في العربية فكان محتملا للبينونة و الثلاث كلفظة التخلية فجاز أن يحمل عليه بالنية .
و قال محمد في قوله : [ بهشتم ان زن ] أو [ ان زن بهشتم ] أن هذا صريح الطلاق كما قال أبو يوسف و قال في قوله : [ بهشتم ] أنه إن كان في حال مذاكرة الطلاق فكذلك و لا يدين أنه ما أراد به الطلاق و إن لم يكن في حال مذاكرة الطلاق يدين سواء كان في حال الغضب أو الرضا لأن معنى هذا اللفظ بالعربية أنت مخلاة أو قد خليتك .
و قال زفر : إذا قال : [ بهشتم ] و نوى الطلاق بائنا أو غير بائن فهو بائن و إن نوى ثلاثا فثلاث و إن نوى اثنتين فاثنتان و أجرى هذه اللفظة مجرى قوله : خليت و لو قال : خليتك و نوى الطلاق فهي واحدة بائنة نوى البينونة أو لم ينو و إن نوى ثلاثا يكون ثلاثا و إن نوى اثنتين يكون اثنتين على أصله فكذا هذا هذا ما نقل عن أصحابنا في الطلاق بالفارسية .
و الأصل الذي عليه الفتوى في زماننا هذا في الطلاق بالفارسية أنه إن كان فيها لفظ لا يستعمل إلا في الطلاق فذلك اللفظ صريح يقع به الطلاق من غير نية إذا أضيف إلى المرأة مثل / أن يقول في عرف ديارنا دها كنم أو في عرف خراسان و العراق بهشتم لأن الصريح لا يختلف باختلاف اللغات و ما كان في الفارسية من الألفاظ ما يستعمل في الطلاق و في غيره فهو من كنايات الفارسية فيكون حكمه حكم كنايات العربية في جميع الأحكام و الله أعلم .
و لو قال لامرأته أنت طالق و نوى به الإبانة فقد لغت نيته لأنه نوى تغيير الشرع لأن الشرع أثبت البينونة بهذا اللفظ مؤجلا إلى ما بعد انقضاء العدة فإذا نوى أبانتها للحال معجلا فقد نوى تغيير الشرع و ليس له هذه الولاية فبطلت نيته و إن نوى ثلاثا لغت نيته أيضا في ظاهر الرواية .
و روي عن أبي حنيفة أنه تصح نيته و به أخذ الشافعي .
وجه هذه الرواية أن قوله : طالق مشتق من الطلاق كالضارب و نحوه فيدل على ثبوت مأخذ الاشتقاق و هو الطلاق كسائر الألفاظ المشتقة من المعاني ألا ترى أنه لا يتصور الضارب بلا ضرب و القاتل بلا قتل فلا يتصور الطالق بلا طلاق فكان الطلاق بائنا فصحت نية الثلاث منه كما لو نص على الطلاق فقال أنت طالق طلاقا و كما لو قال : أنت بائن و نوى الثلاث أنه تصح نية الثلاث لما قلنا كذا هذا .
وجه ظاهر الرواية قوله عز و جل : { و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن } أثبت الرجعة حال قيام العدة للمطلق مطلقا من غير فصل بين ما نوى الثلاث أو لم ينو فوجب القول بثبوت حق الرجعة عند مطلق التطليق إلا بما قيد بدليل و لأنه نوى ما يحتمله لفظه فلا تصح نيته كما إذا قال لها اسقيني و نوى به الطلاق و دلالة الوصف أنه نوى الثلاث و قوله : طالق لا يحتمل الثلاث لوجهين : .
أحدهما : إن طالق اسم للذات و ذاتها واحد و الواحد لا يحتمل العدد إلا أن الطلاق ثبت مقتضى الطالق ضرورة صحة التسمية بكونها طالقا لأن الطالق بدون الطلاق لا يتصور كالضارب بدون الضرب و هذا المقتضى غير متنوع في نفسه فكان عدما فيما وراء صحة التسمية و ذلك على الأصل المعهود في الثابت ضرورة أنه يتقدر بقدر الضرورة و لا ضرورة في قبول نية الثلاث فلا يثبت فيه بخلاف ما إذا قال لها أنت طالق طلاقا لأن الطلاق هناك منصوص عليه فكان ثابتا من جميع الوجوه فيثبت في حق قبول النية و بخلاف قوله : أنت بائن لأن البائن مقتضاه البينونة و إنها متنوعة إلى غليظة و خفيفة فكان اسم البائن بمنزلة الاسم المشترك لتنوع محل الاشتقاق و هو البينونة كاسم الجالس يقال : جلس أي قعد و جلس أي أتى نجد فكان الجالس من الأسماء المشتركة لتنوع محل الاشتقاق و هو الجلوس فكذا البائن و الاسم المشترك لا يتعين المراد منه إلا بمعين فإذا نوى الثلاث فقد عين إحدى نوعي البينونة فصحت نيته و إذا لم يكن له لا يقع شيء لانعدام المعين بخلاف قوله طالق لأنه مأخوذ من الطلاق و الطلاق في نفسه لا يتنوع لأنه رفع القيد و القيد نوع واحد .
و الثاني : إن سلمنا أن الطلاق صار مذكورا على الإطلاق لكنه في اللغة و الشرع عبارة عن رفع قيد النكاح و القيد في نكاح واحد فيكون الطلاق واحد فيكون الطلاق واحدا ضرورة فإذا نوى الثلاث فقد نوى العدد فيما لا عدد له فبطلت نيته فكان ينبغي أن لا يقع الثلاث أصلا لأن وقوعه ثبت شرعا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع .
و لو قال : أنت طالق طلاقا فإن لم تكن نية فهي واحدة و إن نوى ثلاثا كذا ذكر في الأصل و في الجامع الصغير عن أبي حنيفة أنه لا يكون إلا واحدة وجه هذه الرواية أنه ذكر المصدر للتأكد لما ذكرنا أن قوله : طالق فيقتضي الطلاق فكان قوله : طلاقا تنصيصا على المصدر الذي اقتضاه الطالق فكان تأكيدا كما يقال قمت قياما و أكلت أكلا فلا يفيد إلا ما أفاده المؤكد وهو قوله طالق فلا يقع إلا واحدة كما لو قال أنت طالق و نوى به الثلاث .
وجه ظاهر الروايات : أن قوله : طلاقا مصدر فيحتمل كل جنس الطلاق لأن المصدر يقع على الواحد و يحتمل الكل قال الله تعالى : { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا } وصف الثبور الذي هو مصدر بالكثرة و الثلاث في عقد واحد كل جنس الطلاق فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله كلامه فتصح نيته و إذا لم يكن له نية يحمل على الواحد لأنه / متيقن و قد خرج الجواب عما سبق لأن الكلام إنما يحمل على التأكيد إذا لم يمكن حمله على فائدة جديدة و ههنا أمكن على ما بينا .
و لو نوى اثنتين لا على التقسيم في قوله : طالق طلاقا لا تصح نيته لأن لفظ المصدر واحد فلا بد من تحقيق معنى التوحيد فيه ثم الشيء قد يكون واحدا من حيث الذات و هو أن يكون ذاته واحدا من النوع كزيد من الإنسان و قد يكون واحدا من حيث النوع كالإنسان من الحيوان و لا توجد في الاثنين لا من حيث الذات و لا من حيث النوع فكان عددا محضا فلا يحتمله لفظة الواحد بخلاف الثلاث فإنه واحد من حيث الجنس لأنه كل جنس ما يملكه من الطلاق في هذا النكاح و كل جنس من الأفعال يكون جنسا واحدا .
ألا ترى أنك متى عددت الأجناس تعده جنسا واحدا من الأجناس كالضرب يكون جنسا واحدا من سائر أجناس الفعل و كذا الأكل و الشرب و نحو ذلك و لو نوى ثنتين على التقسيم تصح نيته لما نذكر .
و لو قال : أنت الطلاق و نوى الثلاث صحت نيته لأن الفعل قد يذكر بمعنى المفعول يقال هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه و هذا علم أبي حنيفة أي معلومة فلو حملناه على المصدر للغا كلامه ولو حملناه على معنى المفعول لصح فكان الحمل عليه أولى و صحت نية الثلاث لأن النية تتبع المذكور و المذكور يلازم الجنس .
و لو قال لها : أنت طلاق بدون الألف و اللام ذكر الطحاوي أنه لا يكون إلا واحدة و إن نوى الثلاث و فرق بينه و بين قوله أنت الطلاق .
و ذكر الجصاص : أن هذا الفرق لا يعرف له يعرف له وجه إلا الرواية التي روي عن أبي حنيفة في قوله : أنت طالق طلاقا أنه لا يكون إلا واحدة و إن واحدة و إن نوى الثلاث فأما على الرواية المشهورة في التسوية بين قوله أنت طالق الطلاق و بين قوله أنت طالق طلاقا فلا يتبين وجه الفرق بين قوله أنت طلاق و بين قوله أنت الطلاق .
و حكي أن الكسائي سأل محمد بن الحسن عن قول الشاعر : .
( فإن ترفقي يا هند فالفرق أيمن ... و إن تخرقي يا هند فالخرق أشأم ) .
( فأنت طلاق و الطلاق عزيمة ... ثلاثا و من يخرق أعق و أظلم ) .
فقال محمد C إن قال : و الطلاق عزيمة ثلاث طلقت واحدة بقوله : أنت طلاق و صار قوله : و الطلاق عزيمة ثلاث ابتداء و خبرا غير متعلق بالأول و إن قال : و الطلاق عزيمة ثلاثا طلقت ثلاثا كأنه قال أنت طالق ثلاثا و الطلاق عزيمة لأن الثلاث هي في الحال تفسير الموقع فاستحسن الكسائي جوابه و كذا لو قال أنت طالق الطلاق ونوى الثلاث لأنه ذكر المصدر و عرفه بلام التعريف فيستغرق كل جنس المشروع من الطلاق في هذا الملك و هو الثلاث فإذا نوى الثلاث فقد نوى حقيقة كلامه فصحت نيته إلا أن عند الإطلاق لا ينصرف إليه لقرينة تمنع من التصرف إليه على ما نذكره .
و لو نوى ثنتين لا على التقسيم لا تصح نيته لما ذكرنا أن الطلاق مصدر و المصدر صيغته صيغة واحدة فكان تحقيق معنى التوحيد فيه لازمنا و الاثنان عدد محض لا توجد فيه بوجه فلا يحتمله اللفظ الموضوع للتوحيد و إنما احتمل الثلاث من حيث التوحيد لأنه كل جنس ما يملكه من الطلاق في هذا الملك وكل الجنس جنس واحد بالإضافة إلى غيره من الأجناس و أمكن تحقيق معنى التوحيد فيه و إن لم يكن له نية لا يقع إلا واحدة لأنه و إن عرف المصدر بلام التعريف الموضوعة لاستغراق الجنس لكنه انصرف إلى الواحد بدلالة الحال لأن إيقاع الثلاث جملة محظور و الظاهر من حال المسلم أن لا يرتكب المحظور فانصرف إلى الواحد بقرينة و صار هذا كما إذا حلف لا يشرب الماء أو لا يتزوج النساء أو لا يكلم بني آدم أنه إن نوى كل جنس من هذه الأجناس صحت نيته و إن لم يكن له نية ينصرف إلى الواحد من كل جنس لدلالة الحال كذا هذا .
و لو قال : أردت بقولي : أنت طالق واحدة و بقولي الطلاق أو طلاقا أخرى صدق لأنه ذكر لفظين كل واحد منهما يصلح إيقاعا تاما ألا ترى أنه إذا قال لها أنت طالق يقع الطلاق و لو قال : أنت الطلاق أو طلاق يقع أيضا فإذا أراد بذلك صار كأنه قال لها أنت طالق و طالق .
و لو قال لامرأته : طلقي نفسك و نوى به الثلاث صحت نيته حتى لو قالت : طلقت نفسي ثلاثا كان ثلاثا لأن المصدر يصير مذكورا في الأمر لأن معناه حصلي طلاقا و المصدر يقع على الواحد و يحتمل الكل فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله / لفظه و إن لم يكن له نية ينصرف إلى الواحد لكونه متيقنا و إن نوى ثنتين لا يصح لأنه عدد محض فكان معنى التوحد فيه منعدما أصلا و رأسا فلا يحتمله صيغة واحدة .
و لو طلق امرأته تطليقة يملك الرجعة ثم قال لها قبل انقضاء العدة قد جعلت تلك التطليقة التي أوقعتها عليك ثلاثا أو قال قد جعلتها بائنا اختلف أصحابنا الثلاثة فيه .
قال أبو حنيفة : يكون ثلاثا و يكون بائنا و قال محمد : لا يكون ثلاثا و لا بائنا .
و قال أبو يوسف : يكون بائنا و لا يكون ثلاثا .
وجه قول محمد : أن الطلاق بعد وقوعه شرعا بصفة لا يحتمل التغيير عن تلك الصفة لأن تغييره يكون تغيير الشرع و العبد لا يملك ذلك ألا ترى أنه لو طلقها ثلاثا فجعلها واحدة لا تصير واحدة و كذا لو طلقها تطليقة بائنة فجعلها رجعية لا تصير رجعية لما قلنا كذا هذا .
وجه قول أبي يوسف : أن التطليقة الرجعية يحتمل أن يلحقها البينونة في الجملة ألا يرى أنه لو تركها حتى انقضت عدتها تصير بائنة فجاز تعجيل البينونة فيها أيضا فأما الواحدة فلا يحتمل أن تصير ثلاثا أبدا فلغا قوله جعلتها ثلاثا و لأبي حنيفة : أنه يملك إيقاع هذه التطليقة بائنة من الابتداء فيملك إلحاقها بالبائنة لأنه يملك إنشاء الإبانة في هذه الجملة كما كان يملكها في الابتداء و معنى جعل الواحدة ثلاثا أنه ألحق بها تطليقتين أخريين لا أنه جعل الواحد ثلاثة