فصل : قوله : اختاري .
فصل : و أما قوله : اختاري فالكلام فيه يقع فيما ذكرنا من المواضع في الأمر باليد و الجواب فيه كالجواب في الأمر باليد في جميع ما وصفنا لأن كل واحدة منهما تمليك الطلاق من المرأة و تخييرها بين أن تختار نفسها أو زوجها لا يختلفان إلا في شيئين : أحدهما أن الزوج إذا نوى الثلاث في قوله أمرك بيدك يصح و في قوله اختاري لا يصح نية الثلاث .
و الثاني : أن في اختياري لا بد من ذكر النفس في أحد الكلامين إما في تفويض الزوج و إما في جواب المرأة بأن يقول لها اختاري نفسك و تقول اخترت أو يقول لها اختاري فتقول اخترت نفسي أو ذكر الطلاق في كلام الزوج أو في كلام المرأة بأن يقول لها اختاري فتقول اخترت الطلاق أو ذكر ما يدل على الطلاق و هو تكرار التخيير من الزوج بأن يقول لها اختاري اختاري فتقول اخترت أو ذكر الاختيارة في كلام الزوج أو في كلام المرأة بأن يقول لها الزوج اختاري اختيارة فتقول المرأة اخترت اختيارة و إنما كان كذلك لأن القياس في قوله اختاري أن لا يقع به شيء و إن اختارت لأنه ليس من ألفاظ الطلاق لغة .
ألا ترى أن الزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ فإن من قال لامرأته / اخترت نفسي لا يطلق فإذا لم يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ بنفسه فكيف يملك تفويضه إلى غيره إلا أنه جعل من ألفاظ الطلاق شرعا بالكتاب و السنة و الإجماع .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } إلى قوله : { أجرا عظيما } أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بتخيير نسائه بين اختيار الفراق و البقاء على النكاح و النبي صلى الله عليه و سلم خيرهن على ذلك و لو لم تقع الفرقة به لم يكن للأمر بالتخيير معنى .
و روي عن [ عائشة Bها أنها قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت : وقد علم الله تعالى أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه قالت فقرأ : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا } إلى قوله : { أجرا عظيما } فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله و رسوله و الدار الآخرة ] و في بعض الروايات فقالت : [ بل أختار الله و رسوله و الدار الآخرة ] و فعل سائر أزواجه مثل ما فعلت فدل أنه يوجب اختيار التفريق و البقاء على النكاح .
و أما الإجماع : فإنه روي عن جماعة من الصحابة مثل عمر و عثمان و علي و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عمر و جابر و عائشة Bهم أن المخيرة إذا اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق و كذا شبهوا أيضا هذا الخيار بالخيارات الطارئة على النكاح و هو خيار المعتقة و امرأة العنين و تقع الفرقة بذلك الخيار فكذا بهذا و كذا اختلفوا في كيفية الواقع على ما نذكر و ذلك دليل أصل الوقوع إذ الكيفية من باب الصفة و الصفة تستدعي وجود الموصوف فثبت كون هذا اللفظ من ألفاظ الطلاق بالشرع فيتبع مورد الشرع و الشرع ورد به مع قرينة الفراق نصا أو دلالة أو قرينة النفس فإن اختيار الفراق مضمر في قوله تعالى : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها } بدليل ما يقابله و هو قوله : { و إن كنتن تردن الله و رسوله } فدل على إضمار اختيار الفراق كأنه قال : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها } مع اختيار فراق رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان ذلك تخييرا لهن بين أن يخترن الحياة الدنيا و زينتها مع اختيار فراق رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين أن يخترن الله و رسوله و الدار الآخرة فكن مختارات للطلاق لو اخترن الدنيا أو كان اختيارهن الدنيا و زينتها اختيارا لفراق رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا لم يكن معه الدنيا و زينتها و الصحابة Bهم جعلوا للمخيرة المجلس .
و قالوا : إذا اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق عليها فهذا مورد الشرع في هذا اللفظ فيقتصر حكمه على مورد الشرع .
فإذا قال لها : اختاري .
فقالت : اخترت لا يقع به شيء لأنه ليس في معنى مورد الشرع فيبقى الأمر فيه على أصل القياس فلا يصلح جوابا و لأن قوله اختاري معناه اختاري إياي أو نفسك فإذا قالت اخترت فلم تأت بالجواب لأنها لم تختر نفسها و لا زوجها لم يقع فيه شيء و إذا قال لها اختاري نفسك فقالت اخترت فهذا جواب لأنها أخرجته مخرج الجواب كقوله اختاري نفسك فينصرف إليها كأنها قالت اخترت نفسي و كذا إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي لما ذكرنا أن معنى قوله : اختاري أي اختاري إياي أو نفسك وقد اختارت نفسها فقد أتت بالجواب و كذا لو قالت اختار نفسي يكون جوابا استحسانا .
و القياس : أن لا يكون جوابا لأن قولها أختار يحتمل الحال و يحتمل الاستقبال فلا يكون جوابا مع الاحتمال .
وجه الاستحسان : أن صيغة أفعل موضوعة للحال و إنما تستعمل للاستقبال بقرينة السين و سوف على ما عرف في موضعه و كذا إذا قال اختاري اختاري فقالت اخترت فيكون جوابا و إن لم يوجد ذكر النفس من الجانبين جميعا لأن تكرار الاختيار دليل إرادة اختار الطلاق لأنه هو الذي يقبل التعدد كأنه قال اختاري الطلاق فينصرف الجواب إليه و كذا إذا قال : اختاري اختيارة فقالت اخترت فهو جواب لأن قوله اختيارة يفيد معنيين : .
أحدهما : تأكيد الأمر و الثاني : معنى التوحد و التفرد فالتقييد بما يوجب التفرد يدل على أنه أراد به التخير فيما يقبل التعدد و هو الطلاق و إذا قال لها اختاري الطلاق فقالت اخترت فهو جواب لأنه فوض إليها / اختيار الطلاق نصا فينصرف الجواب إليه وكذا إذا قال لها اختاري فقالت اخترت الطلاق لأن معنى قوله اختاري أي اختاري إياي أو نفسك فإذا قالت : اخترت الطلاق فقد اختارت نفسها فكان جوابا .
و لو قال لها : اختاري فقالت : اخترت أبي و أمي أو أهلي و الأزواج فالقياس أن لا يكون جوابا و لا يقع به شيء و في الاستحسان يكون جوابا .
وجه القياس : أنه ليس في لفظ الزوج و لا في لفظ المرأة ما يدل على اختيارها نفسها فلا يصلح جوابا .
وجه الاستحسان : أن في لفظها ما يدل على الطلاق لأن المرأة بعد الطلاق تلحق بأبويها و أهلها و تختار الأزواج عادة فكان اختيارها هؤلاء دلالة على اختيارها الطلاق فكأنها قالت : اخترت الطلاق .
و أما الواقع بهذه الألفاظ فإن كان التخيير واحدا و لم يذكر الثلاث في التخيير فلا يقع إلا طلاق واحد و إن نوى الثلاث في التخيير و يكون بائنا عندنا إن كان التفويض مطلقا عن قرينة الطلاق .
و قال الشافعي : إذا أراد الزوج بالتخيير الطلاق فاختارت نفسها و نوت الطلاق يقع واحدة رجعية و هذا مذهبه في الأمر باليد أيضا الناس وقد اختلفت الصحابة Bهم فيمن خير امرأته فاختارت زوجها أو اختارت نفسها قال بعضهم : إن اختارت زوجها لا يقع شيء و هو قول عمر و عبد الله بن مسعود و أبي الدرداء و زيد بن ثابت Bهم .
و روي عن علي Bه أنها إذا اختارت زوجها يقع تطليقة رجعية و الترجيح لقول الأولين لما روي عن [ عائشة Bها أنها قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخترناه فلم يعد ذلك طلاقا ] .
و عن [ مسروق عن عائشة Bها : أنها سئلت عن الرجل يخير امرأته يكون طلاقا ؟ فقالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان طلاقا ] و لأن التخيير إثبات الخيار في الفراق و البقاء على النكاح و اختيارها زوجها دليل الإعراض عن ترك النكاح و الإعراض عن ترك النكاح استبقاء النكاح فكيف يكون طلاقا و لو اختارت نفسها قال بعضهم : هي واحدة بائنة و هو إحدى الروايتين عن علي و قال بعضهم : هي واحدة رجعية .
و قال زيد بن ثابت Bه : إذا اختارت نفسها فهو ثلاث و الترجيح لقول من يقول يقع بائنا لا رجعيا و لا ثلاثا أما وقوع البائن فلأن الزوج خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها و بين أن تختار نفسها لزوجها فإذا اختارت نفسها لنفسها لو كان الواقع رجعيا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها بل لزوجها إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت .
و أما وقوع الثلاث و إن وجدت نية الثلاث في التخيير فلما ذكرنا القياس أن لا يقع بالاختيار شيء لأنه ليس من ألفاظ الطلاق و إنما جعل طلاقا بالشرع ضرورة صحة التخيير وحق الضرورة يصير مقضيا بالواحدة البائنة و إن كان التفويض مقرونا بذكر الطلاق بأن قال لها اختاري الطلاق فقالت : اخترت الطلاق فهي واحدة رجعية لأنه لما صرح بالطلاق فقد خيرها بين نفسها بتطليقة رجعية و بين رد التطليقة كما في قوله أمرك بيدك فإن ذكر الثلاث في التخيير بأن قال لها اختاري ثلاثا فقالت : اخترت يقع الثلاث لأن التنصيص على الثلاث دليل إرادة اختيار الطلاق لأنه هو الذي يتعدد فقولها اخترت ينصرف إليه فيقع الثلاث و لو كرر التخيير بأن قال لها اختاري اختاري و نوى بكل واحدة منهما الطلاق فقالت اخترت يقع ثنتان لأن كل واحدة منهما تخيير تام بنفسه لوجود ركنه و شرطه و هو النية و الثاني لا يصلح تفسيرا للأول لأن الشيء لا يفسر بنفسه و لا يصلح جوابا أيضا و لا علة و لا حكما للأول فيكون كلاما مبتدأ و التكرار دليل إرادة الطلاق فقولها اخترت يكون جوابا لهما جميعا و الواقع بكل واحد منهما طلاقا بائن فيقع تطليقتان بائنتان و كذلك إذا ذكر الثاني بحرف الصلة بأن قال لها اختاري و اختاري أو قال اختاري فاختاري لأن الواو و الفاء من حروف العطف إلا أن الفاء قد تذكر في موضع العلة وقد تذكر في موضع الحكم كما يقال أبشر فقد أتاك الغوث و يقال : قد أتاك الغوث فأبشر لكن ههنا لا تصلح علة و لا حكما فتكون للعطف و المعطوف غير المعطوف عليه هو الأصل .
و لو قال لها : اختاري اختاري اختاري أو قال : اختاري / و اختاري و اختاري أو قال : اختاري فاختاري فاختاري فقالت : اخترت فهي ثلاث لما قلنا .
و لو قال لها : اختاري اختاري اختاري فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهو ثلاث في قول أبي حنيفة و عندهما يقع واحدة .
وجه قولهما : أنها ما وقعت إلا واحدة فلا يقع إلا واحدة لأن الوقوع باختيارها و لم يوجد منها إلا اختيار واحدة فلا تقع به الزيادة على الواحدة كما لو قال لها اختاري ثلاثا فقالت اخترت واحدة .
و لأبي حنيفة : أن الزوج ملكها الثلاث جملة و الثلاث جملة ليس فيها أولى و لا وسطى و لا أخيرة فقولها اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة يكون لغوا فليبطل تعيينها و يبقى قولها اخترت و أنه يصلح جواب الكل .
و على هذا الخلاف إذا قال لها : اختاري و اختاري و اختاري أو قال لها اختاري فاختاري فاختاري فقالت : اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة .
و لو قال لها : اختاري اختاري اختاري أو ذكر التخييرين بحرف الواو أو بحرف الفاء فقالت قد اخترت اختيارة فهو ثلاث في قولهم جميعا لأن معناه اخترت الكل مرة فيقع الثلاث وإن لم يوجد ذكر النفس من الجانبين جميعا لما ذكرنا أن التكرار من الزوج دليل إرادة اختيار الطلاق و كذا قالت اخترت الاختيارة أو قالت اخترت مرة أو بمرة أو دفعة أو بدفعة أو بواحدة فهو ثلاث لما قلنا .
و لو قالت : قد طلقت نفسي واحدة أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة لما ذكرنا في الأمر باليد .
و لو قال لها : اختاري اختاري اختاري بألف درهم فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهو ثلاث و عليها ألف درهم في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد لا يقع إلا واحدة غير أنها إن اختارت نفسها بالأخيرة كانت تطليقة واحدة و عليها ألف درهم و إن اختارت نفسها بالأولى أو بالوسطى كانت واحدة و لا شيء عليها .
و الأصل عند أبي حنيفة أن تعيين الأولى أو الوسطى أو الأخيرة لغو لأنه ملكها الثلاث جملة و الثلاث المملكة جملة ليس لها أولى و لا وسطى و لا أخيرة فكان التعيين ههنا لغوا فبطل التعيين و بقي قولها اخترت .
و لو قالت اخترت طلقت ثلاثا و عليها الألف كذا هذا و الأصل عندهما أن اختيار الأولى أو الوسطى أو الأخيرة صحيح و لا يقع إلا واحدة غير أنهما يقولان لا يلزمها الألف إلا إذا اختارت الأخيرة لأن كل واحد من التخييرات تخيير على حدة لأنه كلام تام بنفسه و لم يذكر معه حرف الجمع فيجعل الكل كلاما واحدا فبقي كل واحد منهما تخييرا تاما بنفسه فيعطى لكل واحد منهما حكم نفسه و البدل لم يذكر إلا في التخيير الأخير فلا يجب إلا باختيار الأخيرة و لو ذكر حرف الواو أو حرف الفاء فقال اختاري و اختاري و اختاري بألف درهم أو قال اختاري فاختاري فاختاري بألف درهم فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فعند أبي حنيفة لا يختلف الجواب فتطلق ثلاثا و عليها ألف درهم لما ذكرنا و عندهما لا يقع الطلاق في هذه الصورة لأنه لما جمع بين التخييرات الثلاث بحرف الجمع جعل الكل كلاما واحدا وقد أمرها أن تحرم نفسها عليه بألف درهم فلا تملك التحريم بأقل من ذلك كما إذا قال لها طلقي نفسك ثلاثا بألف درهم فطلقت نفسها واحدة أنه لا يقع شيء لما قلنا كذا هذا و الله أعلم بالصواب